متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
شحور
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

شحور

 

      ولم تمض إلا أيام إلا وكانوا قد استقروا في قرية شحور العاملية الرابضة على الضفة الجنوبية لنهر الليطاني وعلى تلة عالية شاهقة وترتفع فوق النهر.. وصلوا في الساعة الثالثة بعد الظهر، وبدون أن يستريحوا شرعوا في التباحث في شأن العمل، كانوا يعرفون جميعاً الهدف من وجودهم هنا، ولم يقطع هبوط الظلام أنفاسهم وحديثهم إلا حين الصلاة، فعاد بعدها الحديث يتردد ويتناوبون عليه رغم اشتداد البرد في الليل فكانوا يوغلون في التغطية والتكوّم، ولكن أصواتهم أخذت تخفت وتنقطع وتهمد بالتدريج حتى غفوا واحداً تلو الآخر في أول ليلة لهم في شحور.

      كان اختيار القرية لقربها من النهر كخط انسحاب سريع إلى الشمال وكخط أمداد سريع من الشمال أيضاً بالسلاح والذخيرة والرجال، وكان موقعها على رأس رابية فوق النهر يصعب تسلقها واقتحامها دافعاً آخر من دوافع اتخاذها مركزاً للمجموعة، فإن المباغتة من قبل العدو سوف تكون صعبة والقتال مع العدو سوف يكون عليهم هيناً لوعورة المسالك وصعوبتها، مما كان مناسباً لهم وغير مناسب للعدو.

      وكان الحصول على السيارة، هو الخطوة التالية، ولكن المال لم يكن كافياً لسيارة بكل معنى الكلمة، وجاء محمد حدرج يقودها، فبادره علي بدوي:

-      ما هذه السيارة؟

-      وحدجها بنظرة فيها الكثير من الدهشة!

-      إنها سيارة أوبل!

-      أعلم أنها سيارة أوبل.. ألم تجد أفضل منها لتشتريها؟؟

-      لا يوجد إمكانية لشراء سيارة أنظف منها ولكنها ماشية.. ولن تقطعنا إن شاء الله!

كانت مهترئة، مترنحة، فتحت ما بين دولابيها الخلفيين، ودنت أرضيتها من الأرض حتى كادت تلامسها لولا بضعة سنتيمترات!

دار حولها علي بدوي وهو يتأملها

-      يا إلهي كيف سنحمّلها بالقذائف والعبوات؟

-      سوف تحمل إن شاء الله.

-      الله يسترنا من هذه (الشروة)!

ولم يطل الوقت بها، فقد كانت بعد ظهر نفس ذلك اليوم تتهادى بهم على طريق بافليه وادي جليو باتجاه عيتيت، حيث زرعوا الراصد هناك بينها وبين وادي جيلو فوق المنعطف تماماً. فقد كان نموذجياً، من جهة بعده عن أعين الناس في القريتين، ومن جهة انحداره وتعرجه مما كان مناسباً لكمين حسب الأصول العسكرية.

      لقد كان العمل الأول لهم، وتوزّعت مهمات إعداد الذخائر والأسلحة ونقلها من ثم إلى عيتيت.

      وفعلاً ما إن مضت ثلاثة أيام حتى كان السلاح قد وصل إلى عيتيت وكان الراصد يعطي معلومات ثلاثة أيام من الرصد للطريق:

      (مجموعة إسرائيلية، يظهر أنها مجموعة هندسة عسكرية لدراسة طبيعة الأرض على الطرقات والتلال المطلة على القرى والمفارق وعلى الطرق المؤدية إلى القرى لاختيار المواضع المناسبة لإقامة المواقع العسكرية)..

      فقد كانوا يترجلون من سياراتهم العسكرية ثم يصعدون إلى رابية ويهبطون من أخرى ويتحاورون ويتناقشون.. ففهم الراصد طبيعة عملهم.. وقدّر أنهم هدف سهل مناسب كعملية أولى للمجموعة.

      كان المنعطف حاداً إلى حد ما، ومنحدراً، محاطاً بالحقول المزروعة بأشجار الزيتون ووقف علي بدوي وعلي سليمان فوقه، على الرابية، وبكلمات قليلة رسما خطة العملية الأولى.

-  إن المجموعة الهندسية تمر عند الصباح، ولكن هناك حاجز للقوات الدولية من الكتيبة الفرنسية في أول عيتيت يراقب المنطقة، والمنطقة مطروقة بالفلاحين والمزارعين،  فهذه ثلاث عقبات..؟

-  بالنسبة لوقت مرور الدورية فلا مانع من ضربها في وضح النهار، بل هو الأنسب لأن درجة الحذر تتضاءل عندهم ومستوى رؤية الهدف يرتفع عندنا فسوف نكبدهم خسائر.

وأكمل علي سليمان:

-  وبالنسبة للفرنسيين، فسوف نأتي بالسلاح في الليل ونودعه هنا في نفس مكان المكمن فيأتي غداً كلٌ إلى سلاحه؟

وراقت الفكرة لعلي بدوي: تمام

- وأما بالنسبة للفلاحين فنرجو من الله تعالى أن يمنعهم غداً من العمل..

وضحكا ثم انحدرا بسرعة إلى الطريق، واتجها على مهل إلى عيتيت، حيث كان ينتظرهما محمد حدرج وأبو جعفر، بينما كانت سيارات عسكرية إسرائيلية تمر مسرعة، فلم يكترثا بها واستمرا يتبادلان الحديث والضحكات وهما يحدقان في البيوت المتناثرة في ضوء الشمس الساطعة ويتخللون البيوت القليلة في أول القرية.

   خرّاقة وأربع رشيشات، وستون طلقة لكل رشيش في أمشاط احتاروا أين يضعونها فلم يكن عندهم جعب لها.. هذا هو سلاح العملية الأولى لهم، وكان عليهم نقله خلال الليل إلى مكان الكمين والنزول صباحاً في الموعد تماماً ولم يكن في الأمر صعوبة، فالمكان ليس بعيداً عن القرية وتمت عملية نقل السلاح وتمويهه ليلاً ثم العودة إلى القرية في أقل من ساعتين.

   وفي الصباح، وفي دفء أشعة شمسه الأولى التي كانت تتسلل من بين رؤوس التلال وأطراف الأغصان فتكحّل طرقات وروابي جبل عامل، كان الشبان الأربعة يتهادون نزولاً من عيتيت، ولم يثر منظرهم ريبة عند الفرنسيين حتى وصلوا إلى المنعطف العتيد.. وهناك فوجئوا بما كان في الحسبان وكانوا يتمنون بأن لا يقع.. فلاح عجوز يحرث أرضه القريبة من المنعطف، وقد انشغل بثوريه ومحراثه.. ولكنه لم يبال بهم للوهلة الأولى.

   اكتفوا بإلقاء السلام عليه، ولكنهم وقعوا في حيرة من أمرهم.. فهذا العجوز إما سيصاب وإما سوف يتعرف عليهم، وكلا الاحتمالين غير مرغوب فيه.. وتداولوا بسرعة، فحسم علي سليمان الموقف:

- توكلوا على الله يا إخوان، إن الله يتكفل بما هو خارج عن إرادتنا.

وانتشروا، كلٌ في مكانه المحدد، ولكنه انصرف بعد ساعة إلى حراثة أرضه، وكأنه لم يفهم لماذا هم يجلسون هكذا متفرقين في هذا المكان، حتى أطلت مجموعة الهندسة اليهودية.

      جيبان عسكريان قادمان من جهة وادي جيلو، والكامن في تلك الربوة بين شجيراتها ونباتاتها الربيعية الكثيفة يستطيع ملاحظة القادم من الجهة السفلى على هذا الطريق بدون أن يظهر هو للعيان.

      ودهش الفلاح العجوز وترك محراثه بسرعة وجلس خلف صخرة حينما شاهد الرجال ينهضون من أماكنهم ويتقدمون إلى مواقعهم في الكمين ويتجهزون بسلاحهم في ثوان.. فقد أدرك وبسرعة ما يجري.

      و.. بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله (ص).. ونهض علي سليمان وهتف (يا حسين) وزمجرت القذيفة لتنفجر قرب الجيب، ولكن رشاشات علي بدوي محمد حدرج وأبو جعفر كان تحصدهم حصداً، ولم يكن الجيب الثاني قد اقترب، إلا أن اشتباكهم مع الأول فوّته فنزل الجنود اليهود منه بسرعة وبدلاً من أن يطلقوا النار على رجال المقاومة فضلوا الاختباء في الوهدة بينما كان الشباب يمزقون الجيب الأول برصاصهم.

      وهنا سقطت قذيفة مدفع وانفجرت غير بعيدة عنهم، ففوجئوا تماماً وارتبكت حركتهم، فأخذوا يتبادلون نظرات متسائلة؟ فصرخ علي بدوي:

-      إن الفرنسيين يقصفونا بمدفع مصفحة دولية تابعة لقوات الطوارئ الدولية..

وما إن أنهى كلامه حتى سقطت قذيفة ثانية من مدفع الفرنسيين، فقرروا الانتهاء من العملية بسرعة خوفاً من فقدان زمام السيطرة عليها بسبب تدخل قوات الطوارئ الدولية لحماية اليهود.

      لم تستغرق المعركة دقيقة كاملة، وكان الرعب الذي سيطر على الجنود اليهود كافياً في إعطاء مجال لهم لكي يموهوا أسلحتهم بسرعة ويشرعوا بالانسحاب.

-      الله يعطيك العافية يا عم! هل رأيت شيئاً؟

أجاب العجوز مبتسماً:

-      الله يعافيكم ويسلّم أيديكم، ولا يهمكم! لا! لم أر شيئاً! توكلوا على الله.

واستطاعوا بسرعة تجاوز الرابية والاختفاء عن أفق نظر الفرنسيين واليهود، ولكن سرعان ما طرق أسماعهم صوت مروحيات في الجو، ثم اقتربت الأصوات، ثم ظهرت مروحيتان فوق المنطقة وأخذتا تدوران بجنون والشباب ينتقلون بخفة من ظل شجرة إلى ظل شجرة أخرى، بينما كانت تصل إلى أفق السمع أصوات جنازير الدبابات في قانا وفي عيتيت.. وارتفع صوت مكبر الصوت:

-      مخرّب .. سلم نفسك.

ودبت الحيرة في نفوس الشباب، ووقفوا يتأملون الموقف!

-      كيف استطاع اليهود رصد أمكنتنا؟

وأخذوا يتأملون التلال حولهم.. وكان موقع عين بعال للكتيبة الفيجية التابعة لقوات الطورائ الدولية فوقهم تماماً وهنا التفت علي بدوي إلى رفيقيه:

-  الظاهر أننا يجب أن نأخذ مواقع الدوليين بعين الاعتبار من الآن فصاعداً، إنهم أعين مخفية لليهود!!

وتسلل الشباب نحو قناة للماء قريبة وانبطحوا فيها بينما كان ضجيج المروحيات والمجنزرات يملأ الفضاء مع أصوات مكبرات الصوت.. إلا أنهم لم يتحركوا وحبسوا أنفاسهم.. وصبروا.. ومضت ساعات، وأخذت أنوار النهار تختفي تدريجياً، وجن الليل فأخذوا يرفعون رؤوسهم بهدوء وقد عضهم الجوع وأنهكهم التعب.

      وبعد قليل كانوا يتسللون باتجاه باتوليه وقد اتخذوا الليل ستاراً، ولم يكن ممكناً دخول أحد البيوت في تلك الساعة، إذ كان رد الفعل الصهيوني قوياً ومهووساً، فقد كان يطلقون النيران على الأودية والأشجار بشكل جنوني، واستنفرت كل قواتهم في المنطقة التي امتلأت بالحواجز، فأقفلت الطرقات وأخذت تدقق في الهويات وتوقف الناس عشوائياً، وانتشرت عيون العملاء تبحلق بالمارة، وظهرت سيارات مدنية للمخابرات الإسرائيلية وعملائها على مفارق الطرق وفي شوارع القرى المجاورة، في الوقت الذي وصل فيه رجالنا إلى مسجد القرية الخالي من المصلين في تلك الساعة، فهو الأكثر أماناً وهو الأنسب لهم، إذ ينبغي لهم أن يؤدوا صلاتهم قبل أن يفكروا في أي شيء آخر.

      وأمام لسع البرد لم يجدوا غير حصر المسجد يتدثروا بها طرداً لما يمكن من البرد، وأخلدوا إلى نوم عميق حتى الفجر.

      وفي الصباح، وفيما هم يفطرون على الزيتون والزعتر في بيت علي سليمان كانت أخبار العملية قد انتشرت ووصلت إليهم، لقد قتل جندي إسرائيلي وجرح اثنان في كمين تحت عيتيت، ونظروا إلى بعضهم البعض والابتسامة تعلو شفاههم..

-      بداية طيبة..

-      لكنها مليئة بالدروس!

-      سوف تكون الثانية أفضل إن شاء الله!

وعادوا إلى عيتيت ثم شحور، وهناك بدأت تنسج خيوط عمليتهم الثانية.

      بعد أسبوع، مكث علي بدوي يوماً كاملاً في البستان الذي يقع إلى جانب الطريق الدولية، حيث أحدث اليهود موقعاً حصنوه بالسواتر الترابية والأسلاك الشائكة، فكان يبدو للناظر إليه صعب المنال خصوصاً وأن برجاً للمراقبة كان يشرف على أطرافه وعلى الطريق العام بحيث يكون النيل منه مكلفاً، ولم تكن الاقتحامات النوعية للمواقع العسكرية اليهودية قد دخلت بعد مصطلح المقاومة الإسلامية. ولكن الهدف كان محاولة ضرب سيارة جيب عسكرية تأتي إلى الموقع كل صباح.

      أخذ علي يتنقل طوال النهار بين شجيرات الليمون، يقف مع أبيه تارة، يختلق مواضيع وأحاديث وأسئلة، ومع العمال تارة أخرى، فيما كان بعينه الثاقبتين ومن خلف نظاراته يراقب الموقع، يرسم صورته وصورة الطريق المؤدية إليه.

      وفي تلك الليلة عقدت المجموعة بعد صلاة العشاء اجتماعاً ووضعت خطة العملية الثانية، وكان علي بدوي قلقاً من جهة سيطرة الموقع على الطريق فقد كان مزوداً برشاش متوسط (ماك).

-      أين الطعام يا إخوان؟ (ارتفع صوت محمد حدرج)

-      سوف نعد الليلة فطراً مقلياً مع البصل والحر!! (أجابه علي بدوي) وأردف قائلاً:

-  أخشى أن يعطل الرشاش المتوسط العملية وأن نتكبد خسائر، وما زال الوقت باكراً على الخسائر، ولذلك اقترح استعمال العبوة في هذه العملية!

وضحك الرجال ضحكات مختلفة بينما كان يفتح علي بدوي علبة الفطر وانصرف علي سليمان يقطع البصل وكانت دموعه تنحدر بغزارة على وجنتيه بسبب رائحة البصل، وأخذ علي بدوي يحرك الملعقة في القدر ويحمس قطع الفطر فانتشرت في الجو رائحة دافئة للفطر المقلي، استمر في حديثه وهو ينظر إليهم نظرة ملؤها الجد..

-  يا إخوان ينبغي أن نقوم بأعمال يخسر فيها العدو كثيراً.. ولتأت الشهادة إلينا عفواً ونحن علينا أن نركز على تحقيق الهدف وهو تكبيد العدو الخسائر في الأرواح.. لابد من عبوة يا إخوان!! لابد من عبوة!!

-  بدون أن نخسر نحن.. وبدون اشتباك؟؟ (قالها علي سليمان وهو يحدق في عيني علي بدوي الذي تشاغل عنه بالمقلة). لقد كان علي سليمان يعتقد أن العبوة نوع من التوفيق السهل في العمليات وأنها تشبه ضرة الحظ، كذلك كان يخاف من المبالغة في حصد الانتصارات التي تسود عقليات المحاربين بالمنظار، البعيدين هناك، فكان يفكر دائماً بعيداً عن الأوهام والأحلام، فكل نصر في قتال مع العدو ينبغي أن ندفع دماً ثمناً له، ولا يوجد للنصر ثمن غير الدم.

-      لا، ولكن إدخال العبوة الناسفة عنصر مهم في عملنا.

-      وهل سوف نكتفي بتفجر العبوة؟

-      العبوة القوية الثقيلة تكون عنصراً أولياً مباشراً قبل الرشيشات في الكمين.

-      إن هذا يفرض على حركتنا وتنقلاتنا عبئاً، فنقل عبوة ثقيلة من مكان إلى آخر ليس سهلاً..

وأطرق الجميع في تفكير عميق، وران عليهم الصمت!

      كانوا وهم يتحدثون قد فرشوا مشمعاً وضعوا عليه الصحون، وانصرفوا بمجرد انتهاء حديثهم يتناولون طعامهم بصمت..

-  حسناً، لنبدأ هذه المرة ولنر إشكالية المسألة على الأرض ولكن لنأخذ قراراً أولياً (يجب أن يكون في كل عملية لنا عبوة قوية وثقيلة ومركزة..)

وخلال الليل وإلى الساعة الخامسة صباحاً، كانت قوالب الـ (ت. ن. ت) تذاب في وعاء واحد وأخذت أول عبوة موجهة كبيرة لهم تتجهز بعد عمل ليل مرهق.. ولم تشرق شمس اليوم التالي إلا وكانت سيارتهم تتهادى عبر طرق جبل عامل هابطة من شحور في الشمال الشرقي قرب نهر الليطاني إلى باتوليه في الجنوب الغربي قرب البحر، ولم يبالوا أبداً باحتمال وجود حواجز طيارة يهودية، وكأن الله عز وجل بارك جرأتهم فيسر أمرهم، ثم تركوا السيارة قريباً من بيت خالة علي بدوي وتوجهوا إلى الموقع عبر بساتين الليمون.

      كان علي سليمان يحمل العبوة ويتجه إلى طرف البستان، وقد أحاط به علي بدوي ومحمد حدرج وأبو جعفر، وبشكل مكشوف.. مما أدى إلى أن يغير العمال العاملين في البستان في ذلك اليوم رأيهم في الاستمرار في العمل، وسرعان ما فرغ البستان منهم بعد أن غادروه وهم يهمهمون.

      وربض الرجال غير بعيد عن الموقع يراقبون حركته، ثم تسللوا إليه عبر زاوية عمياء بذل علي بدوي جهداً في اكتشافها حينما استطلع الموقع طيلة الأسبوع الفائت..

      وخلال دقائق تم زرع العبوة.. والتراجع إلى مدى الأمن من آثار انفجارها، وفجأة ظهرت سيارة عسكرية يهودية تتجه رأساً إلى الموقع وأمسكت يدا علي بدوي بالبطارية ودوّى انفجار رهيب.. ولكن السيارة أفلتت، فقد انفجرت العبوة قبل وصولها إليها، وأخذ بقيت الشباب يرمون الجيب والموقع بالرصاص الغزير، وهنا تدخل الرشاش المتوسط وكاد يقلب الموقف.. فقد كان مشرفاً على مرابضهم.. وتحت الرماية الغزيرة للعدو أخذوا ينسحبون ويخلون البستان باتجاه باتوليه فيما كان الرشاش المتوسط للعدول ما زال يرمي بغزارة ويصل صدى طلقاته إلى آذان البلدة.

      وتوتر الوضع في المنطقة، وأقفلت الطرق بالحواجز وانتشر الجنود اليهود على مفارقها، فيما كان الشباب يتسللون بين أشجار الليمون عائدين إلى باتوليه ولكن ليس إلى بيت علي سليمان ولا إلى بيت علي بدوي، بل إلى بيت خالة علي بدوي.

      كانت خالته كأمه، تفيض حياله حباً وحناناً، وكان لبيتها مدخل مستور داخل حديقة، ومخرج خلفي، ولا يشرف عليه منزل آخر، فكان ممتازاً من جهة الأمن من التجسس والمراقبة، وقد اختاروه بعد ذلك مركزاً لهم ينطلقون منه ويعودون إليه.

      وطرق علي الباب، وسرعان ما أطلت ابنة خالته ذات الثلاثة عشر ربيعاً فندت منها شهقة حينما رأته مع بقية الشباب، ونادت أمها التي سارعت إلى المجيء فيما كانوا يدلفون من الباب والخجل والارتباك باديان على وجوههم، والتعب والإنهاك يكاد يوقعهم أرضاً، بينما كان علي بدوي يحاول أن يرسم ابتسامة على وجهه فقد كان مجيئاً بلا موعد سابق، فأخذ يلطف الأجواء ويتصرف وكأنه في بيته تماماً.

      وعرفت خالته (المكتوب من عنوانه)! فالوحول قد لطخت ثيابهم وأحذيتهم، ولم تنجح أكياس الخيش في إخفاء الأسلحة، وكان صوت انفجار العبوة الناسفة قد تردد صداه في باتوليه وجوارها، ففهمت بالجملة ولم تحاول أن تسأل أو تستفهم، بل انصرفت توضب أكياس الخيش على حدة وبحذر شديد، فهذا عالم جديد جداً بالنسبة إليها، ثم أخذت تضفي عليهم جواً من الأنس والتودد كي تزيل آخر مظاهر الارتباك، فأنس بها الشباب وانبسطت أساريرهم، وبينما كانوا يقوّمون العملية ونتائجها وما ينبغي عمله، كانت ابنة خالة علي تضع أمامهم صحون الزيتون واللبنة والزعتر، فيما كانت خالته تدخل حاملة إبريق الشاي وأكوابه، ودبّ في البيت حماس وحرارة فعلي كابنها تماماً وهو مقاوم أيضاً، وأقبلوا على الترويقة المتواضعة يلتهمونها بعد أن غمرت الخالة البيت دفئاً وحناناً.

قال علي بدوي:

- اسمعوا يا إخوان، سوف نتوجه الآن إلى شحور، وينبغي أ، نتفاهم على الذي سنقوله إذا سئلنا، (أنا ابن صاحب البستان وانتم شغيلة عندي!!) فقد كانت أحذيتهم وثيابهم غارقة في الوحل، والمسافة إلى شحور طويلة، والمنطقة قد امتلأت الآن بالحواجز اليهودية.

      وفي آخر ساعة من النهار ابتدأت رحلة العودة إلى شحور، وانطلقت سيارتهم بسرعة صاعدة باتجاه قانا فكانت تهتز وتئن في الطريق وهي تسرع تارة وتبطئ أخرى، وكان علي بدوي يجلس بلا حراك، يحدق من خلال الزجاج الأمامي وقد التزم الصمت، وهكذا كان أبو جعفر أيضاً صامتاً وأما محمد حدرج فحاول في البداية أن يتظاهر بالنوم منكمشاً في زاوية السيارة الخلفية ولكنه لم يفلح فعاد يتأمل الأشجار المتراكضة، بينما كان فكره منذ انطلقوا من باتوليه مشغولاً بفكرة أقلقته، وبعد أن كان غارقاً في تأمل الطبيعة في الخارج وشارداً في تسارع صورها، التفت إلى رفاقه:

-      يا عمي!! هناك شيء غير مضبوط نفعله نحن!!

فخرج علي بدوي من صمته

-      ما هو؟

-      ألا تلاحظون شيئاً؟ مركزنا في الشمال وعملياتنا في الجنوب؟ فماذا نفعل نحن؟

ما هذه الأحجية؟ نحن نعرف أنك فهمان يا أخ رضا! ولكن ماذا تقصد؟

      أجابه علي بدوي، فقال محمد حدرج وقد لمعت عيناه ببريق غامض:

-  يا إخوان! شحور بعيدة! صحيح إنها آمنة بالنسبة لنا.. ولكن حركة اليهود ليست على طريقها بل على الطرقات الرئيسة الممتدة إلى صور عبر قانا وعبر جويا وعلى الطريق الساحلي.. فينبغي أن نجعل مركزنا قريباً منها، وفي وسطها، وشحور بعيدة، وخصوصاً بعد كل عمل ضد العدول فإن اليهود يقومون بإقفال الطرقات وهذا خطر جداً..

-  فعلاً هذه مشكلة! فالعودة إلى شحور محفوفة بالمخاطر! يعني كلما قمنا بعمل فإن علينا قطع كل هذه المسافة للعودة؟؟؟

أجاب علي بدوي وقد ركز نظره على الحاجز اليهودي الذي أخذت السيارة تتمهل مقتربة منه، وكان مؤلفاً من مجنزرتين قد أقفلتا الطريق بحيث تجبر كل السيارات المارة على التوقف..

تفحص اليهودي وجوههم واحداً واحداً، وأمعن النظر في إخراجات قيدهم وسألهم فأجابوه بما اتفقوا عليه، ثم ألقى نظرة على ثيابهم الموحلة وأحذيتهم فصدقهم وأعطاهم إشارة المرور..

تنفسوا الصعداء.. ولكن القلق لم يفارقهم، فالطريق مازالت في أولها، وفيما كانت سيارتهم تندفع صاعدة باتجاه جويا كانوا يتداولون بسرعة في مركز جديد لهم.

-      معك حق يا أخ رضا (قال علي سليمان واستطرد) ما رأيكم بعيتيت؟

-      معقولة! خصوصاً أنها في منطقة متوسطة بين طريق قانا صور وطريق جويا صور.

وانقطع الحوار فجأة، فقد ظهر حاجز إسرائيلي آخر وكان أكثر عدداً آليات وجنود.

وهناك كان اللقاء الأول بين علي بدوي والميجر ديب، قبل تلك المعرفة اللدودة المشتركة، فكان اللقاء عابراً، ولكنه حفّ بمكر الميجر ديب ودهائه، فكان ينفرد بكل واحد منهم على حدة ويسأله.. ولكنهم كانوا قد اتفقوا حتى على التفاصيل. ومع ذلك لم يقتنع بروايتهم وأخذ يدقق في إخراجات قيدهم.

-      أنتم من قرى وأماكن مختلفة! ما الذي جمعكم؟

-      نحن شغيلة نسكن مع بعضنا!

رفع بصره إليهم، وأخذ يحدق في وجوههم التي تصنعت المسكنة، ثم طوى إخراجات القيد ودسها في جيبه!

- تعالوا غداً خذوها من الثكنة قرب صور.

وحاولوا الإصرار على استعادتها، وأخذ كل واحد منهم يحاول إقناعه، فقال علي بدوي:

-      نحن نحتاج إليها فيوجد الكثير من الحواجز وماذا نقول لهم إذا طلبوا منّا هوياتنا؟

فأعرض عنهم وأشار لهم بيده أن يغادروا وكرّر كلماته..

-      تعالوا غداً خذوها من ثكنة صور!

ولم يجدوا بداً من الاستجابة فانطلقت السيارة خارجة من دائرة الحاجز وقد ساد الوجود وجوه ركابها، فإن أمراً جديداً طرأ على عملهم، وباكراً جداً، فقد وقعت إخراجات قيدهم في يد اليهود.. ولم يكونوا يعلمون أن هذا اليهود هو الميجر ديب ذئب المخابرات اليهودية الشرس!!! وخيّم صمت ثقيل كان يقطعه أنين السيارة العتيقة وخبط إطاراتها في الحفر من آن لآخر وهي تبذل جهداً مضاعفاً من أجل الوصول إلى شحور وكأنها شريكتهم في همومهم.

-      في الحقيقة! شحور بعيدة! بعيدة جداً.

ولم يعلق أحد على هذه العبارة.. فقد شغلت الطريق الضيقة الموحلة اهتمامهم وسرعان ما فقدت سيارتهم توازنها وأخذت تتزحلق خارجة عن السيطرة حتى استقرت خارج الطريق في أرض مفلوحة أوحلت وامتلأت بمياه الأمطار.

-      فعلاً لم يكن ينقصنا إلا هذا..

فخرجوا منها ثم أخذوا يحاولون إعادتها إلى الطريق، والسماء تمطرهم برذاذ زاد على الطين بلة وأضاف إلى أعصابهم سبباً للحنق والغيظ بعد العملية الفاشلة ومصادرة هوياتهم وثيابهم الملطخة بالوحل، ثم هذه السيارة التي تأبى العودة إلى الطريق..

في النهاية، وبعد مرور هزيع من الليل، وصلوا إلى شحور، منهكين متعبين، وقد انضمت إلى بعضهما البعض منغصات كثيرة أسوأها حادث تزحلق السيارة الأخير ومصادرة إخراجات القيد.

-      ما رأيكم لو نزلنا إلى صور غداً لنأخذ إخراجات قيدنا؟

قالها علي بدوي، وكأنه لا يبالي بالموت ولا بالأسر، ثم أتبعها بضحكة ساخرة، ولكنهم، مع أنه يمزح، رفضوا بدون تردد ففي ذلك مغامرة غير محمودة العواقب، إلا أن أمراً مهماً اتفقوا عليه قبل أن يخلدوا إلى النوم العميق:

-      لابد أن نغادر شحور ونتمركز في عيتيت!

انهار الرجال من شدة التعب وغطوا في نوم عميق، ولكن النعاس لم يراود جفون علي بدوي، فقد أدرك نهائياً في تلك الليلة أنه لا يجوز في الحرب أن ندير ظهورنا للعدو، أو أن نبقى بعيدين عنه، نناوشه مناوشة لا تؤدي إلى إلحاق الأذى الحقيقي به، لأننا حينئذ سوف نوحي إليه بالثقة بالنصر وسوف نصبح في الوقت نفسه هدفاً جيداً لنيرانه.

      وبعد أسبوع، كانت مغادرة المجموعة لشحور ميلاد يوم جديد في مسيرة المقاومة، فقد مثلت شحور عندهم قرباً معنوياً من الشمال، من بيروت، ومن بقية الإخوان مما أورث حالة من الاطمئنان والسكون، ولكن ذلك اليوم المتعب كان فاصلاً بين الإبقاء على الاتصال بالخلف مهما كان آمناً وبين الاندفاع نحو الخوف، نحو القتل والقتال، ونحو رمي النفس في أحضان السرعة والتحرك واليقظة والدقة والجرأة والشجاعة مهما كان ذلك غير آمن وقلقاً محفوفاً بالمخاطر، وقد اختاروا الاندفاع نحو الأمام.

      وكان الانتقال إلى عيتيت في يوم مشرق، فارتاحت نفوسهم وطبعت تصرفاتهم وأقوالهم بتفاؤل وحماس انعكس في كثرة استطلاعهم لطريق جويا البازورية الذي كان إلى حد ما طريق النقل الرئيسي لليهود إلى جانب الطريق الدولية، حتى وصلوا في استطلاعاتهم إلى داخل البازورية، يجلسون أحياناً إلى جانب الطريق ساعات كل يوم يراقبون نظام النقل الإسرائيلي حتى نضجت خطتهم ورسمت معالمها وتواعدوا على ساعة معينةٍ في ليلة ليتباحثوا في شأن العمل.

      في تلك الليلة، ليلة عملية البازورية الأولى الشهيرة، اجتمع رجال المجموعة في عيتيت ووضعوا خطة العمل التي اتسمت بشيء جديد ألا وهو الاعتماد على سرعة الحركة في الهجوم والانسحاب، فقد كان على سيارة أن تنتظرهم عند نقطة على الطريق الممتدة بين وادي جيلو ووادي الحظايا في أسفل سفح الجبل إلى الشمال من مكان الكمين بحيث لا يستغرق الوصول إليها أكثر من خمس دقائق بعد انتهاء الهجوم، وكان على دراجة نارية أن تنتظر في قرية وادي جيلو مجيء الدورية اليهودية، فإذا جاءت أسرعت قبلها إلى البازورية حتى إذا وصلت إلى محاذاة الكمين رفع سائقها صوت محركها عدة مرات بعدد آليات الدورية بحيث يصدر صوتاً عالياً لمحركها.

التفت علي بدولي إلى عادل الزين قائلاً:

-  انتبه، لا نريد أن نضرب مجنزرات أو دبابات.. فإذا جاءت م


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net