متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الشيخ محمد زيدان و عبد الحسين عز الدين و محمد زين
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

الشيخ محمد زيدان و عبد الحسين عز الدين

و محمد زين

 

      وقف في ملعب المدرسة وقد تحلّق حوله عشرات الطلاب وهو يخطب فيهم، وأخذ صوته يعلو هادراً يردد شعارات التنديد بنظام صدام حسين في العراق.. فقد ترك استشهاد المرجع السيد محمد باقر الصدر أثراً بليغاً في نفوس العامليين، وحاول محمد زيدان في مدرسته في طيردبا أن يدفع الطلاب نحو الإضراب عن الدراسة احتجاجاً على قتل السيد المرجع، ونجحت حركته وتحقق الإضراب وبقي الطلاب خارج صفوفهم..

      ولكن مدير المدرسة مانع بشدة وحاول أن يقمع هذه الحركة الاحتجاجية، وتقدم إليه وهو يثير الأحاسيس الدينية في نفوس الطلاب بكلمات يحاول أن تكون حماسية وثورية.. ولم يدر محمد زيدان بالذي يزمع المدير فعله، ففوجئ تماما!

لقد صفعه المدير! وأمام الطلاب!

      كانت هذه الصفعة أول ثمن دفعه في مسيرته الطويلة، كما كانت بداية حياته السياسية الجهادية، فغادر المدرسة ولم يعد إليها منذ تلك الساعة، لقد أحس أن كرامته قد أهينت علناً، ولو بقي في المدرسة بعد ذلك لقضي على طموحه وعلى روح القيادة عنده، فصمم على طلب العلم الديني استكمالاً للطريق، ولقب بالشيخ محمد منذ تلك اللحظات الأولى وحتى استشهاده، وأخذ يتصدر الأنشطة السياسية والثقافية الإسلامية في البلدة، يصدح صوته الحنون ليلة الجمعة من مبكر الصوت في المسجد بدعاء علي بن أبي طالب المعروف بدعاء كميل بن زياد، ويجتمع حوله المريدون والمحبون في المسجد يعلمهم أحكام الإسلام ويؤمهم في صلاة الجماعة.

      وأخذ يجمع الأمور بيده، حتى أصبح هو الذي يقرر ويأمر.. وأخذت طيردبا تتعرف على قائد شاب نشط ترك أثراً عميقاً في نفوس شبابها، والقائد لا يظهر إلا في اللحظات الصعبة وفي الظلام الحالك..

      فقد دخلت القوات الإسرائيلية إلى جبل عامل وبعض قراه تعيش أزمة حادة مع بعض الأطراف الفلسطينية واليسارية، وحاول عملاء إسرائيل إظهار هزيمة الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية أمام الاجتياح اليهودي وكأنها انتصار لهذه القرى العاملية.. وأخذوا يروجون أفكاراً سامة أولها أن الاجتياح ليس موجهاً ضد قرى جبل عامل، وآخرها أنه إذا لم تشكل قرى جبل عامل الحرس الوطني لهذه القرى فسوف يأتي نصارى الشريط الحدودي ويأكلوا هذه القرى وينهبوها ويقتلوا أهلها.. حتى ظن كثير من الشرفاء والطيبين أن مقابلة اليهود ومصافحتهم ليس أمراً مستنكراً إذ كان هدفه حماية الشيعة!! وأن الحصول على البطاقة الصفراء من المخابرات الإسرائيلية من أجل ذلك ليس خيانة!!

      في هذه العتمة وهذا المفصل الدقيق وصل الموقف الشرعي الذي أطلقه الإمام الخميني إلى شباب البلدة على لسان الشيخ محمد زيدان: ممنوع التعامل مع اليهود مطلقاً ويجب قتالهم مهما كان الثمن.. فحسم الموقف واستنارت الطريق.. هكذا أوتاد الله في الأرض..

ولم يمض على مرور المجنزرات الإسرائيلية في شوارع طيردبا وقت طويل إلى وكان الشيخ محمد زيدان قد عاد إليها يؤم المصلين في المسجد ويمسك بيده زمام الأمور وينشر صوته الرخيم في أرجائها من مكبرات الصوت في المسجد ويؤسس فيها أول مجموعة للمقاومة الإسلامية وكان أول الملبين عبد الحسين عز الدين ومحمد زين..

      قصده محمد زين إلى موقف السيارات العمومية في بوابة صور، وكان الشيخ قد اشترى سيارة وأخذ يستعملها لنقل الركاب بالأجرة على طريق صور طيردبا حيث يراقب بهدوء ويستمع إلى أقوال الناس فيصطاد المعلومات والأخبار، ويستطيع أن يمر على حواجز اليهود بأقل ما يمكن من الريبة فيستطلع تحركاتهم ويحصي أنفاسهم، وكان إمعاناً منه في الدقة وتضليل أعين اليهود والعملاء يبدل سيارته من حين إلى آخر، وقد سهل له هذا العمل أمر التنقل والذهاب والإياب بدون أن يثير ارتياب أحد، بل كان يوحي دائماً أن حياته العملية، على مستوى ربح المال، قلقة وغير مستقرة فيقول في الصباح إنه ذاهب إلى بيروت، ويوحي إلى أهله أنه غير راجع فإذا بهم يتفاجأون به وقد عاد عصراً، بينما يكون هو قد أنجز خلال ذلك النهار الكثير من أعمال المقاومة.

فتقدم إليه وهو جالس في سيارته وبادره:

-      السلام عليكم

-      وعليكم السلام

صافحه الشيخ محمد زيدان بحرارة مع أنه لم يكن يعرفه قبل اليوم ولم يكن قد رآه قبل ذلك، فهذه عادته أصلاً مع الجميع.. ولكن هذا الشاب اليافع بادره مسرعاً:

-      الشيخ محمد زيدان؟؟

-      صحيح

-      أنا محمد زين..

-      أنت محمد زين؟ أهلاً بالأخ محمد، أهلاً .. كيف أحوالك؟

-      حكى لك الشباب عني؟

-      صحيح! صحيح! الحمد لله على السلامة، متى قدمت؟

كان الشيخ مسبوقاً بمعلومات من قيادة المقاومة في بيروت وأنهم سوف يلحقون محمد زين بمجموعته.. وما إن تسلم منه نصف الليرة وجمعه إلى النصف الذي بحوزته حتى كان ينسق معه خطط العمل.. ولم تمض أيام على هذا اللقاء إلا وكان محمد زين قد أخذ مكانه في المقاومة في مجموعة طيردبا، ومع أنه كان يسكن في مدينة صور إلا أنه كان يبذل جهداً في الوصول إلى طيردبا كلما دعت الحاجة وشكل مع الشيخ محمد وعبد الحسن ثلاث مجموعة طيردبا في المقاومة الإسلامية.

***

-      أضرب مارش! ..

صرخ عبد الحسن بصوت عال، وهو يعالج محرك السيارة الفولسفاكن وقد رفع غطاءه وكاد نصفه يختفي بين الغطاء والمحرك، بينما جلس محمد زين خلف مقود السيارة ينفذ تعليماته مستسلماً، فيحرك المفتاح وتصل الكهرباء إلى المحرك ولكنه يأبى على الدوران..

-      يا الله .. يوجد كهرباء! ولكن لماذا لا تدور؟ طيب.

ويعود إلى معالجة المكربن! هذه المرة!

-      أضرب مارش!

-      عبث، ولكن فيها كهرباء! فأين المشكلة؟

ورفع محمد زين صوته حينئذ:

-      وهل هذه سيارة حتى تدور؟؟

فأجاب عبد الحسن بلهجة الواثق الذي لا يبالي بتقييم الآخرين لسيارته:

-      وحّد الله يا رجل! لا يوجد مثلها!

ويهز محمد رأسه، ويكف عن الاعتراض..

-      أضرب مارش!

ولكن المحرك لم يستجب أيضاً، فاستسلم عبد الحسن حينئذ وقال وهو ينفض يديه:

-      أف! لا فائدة! الظاهرة بدها دفشة..

وترجل محمد، وكأن الأمر الواقع هو الدفش في النهاية، إلا أنه لم يستطع عدم الاعتراض فقال:

-      ولكن كيف يمكن لها أن تسير؟

كانت من طراز قديم أكل الدهر عليها وشرب، استطاع عبد الحسن شراءها من مدخرات جمعها طوال أشهر.. وكانت تتعبه جداً في إدارتها وقيادتها خصوصاً وأنه كان يبذل جهداً في جعل الإطارين الأماميين متوازيين دائماً فقد كانا يأبيان إلا أن يتجه كل منهما إلى جهة!

وبعد أن بذل جهده في محاولة إشغال المحرك بدون جدوى وقف يمسح بعض الغبار وآثار الشحم الأسود عن جبينه، ملتفتاً حوله، يفتش على (عونة لدفشها)!

كان مربوعاً، قصير القامة بشكل لافت حتى أنه يضطر إلى وضع وسادة خلف ظهره كي تصل قدماه إلى الدواسات، وكان يعاني من عدم القدرة على رؤية مقدمة السيارة أثناء قيادتها.. إلا أن ذلك لم يمنعه من تحقيق طموحه في شرائها، فاشتغل نجاراً وسمكرياً وبنّاء وعاملاً ولبى طلب كل من يريد شغّيلاً، وقتّر على نفسه فاكتفى بثياب أصبحت علماً عليه، ولم يشتر حذاءً جديداً وأصر على معالجة شسع نعله اليتيم المقطع الموصل وإصلاحه، والذي كثيراً ما كان يخذله، خصوصاً وأن الشيخ محمد زيدان كان يعتمد عليه في مهمات الاستطلاع وتفجير العبوات وزرعها وذلك يحتاج إلى سير في الليل حثيث وسريع غالباً.. ولم يطلب منه الشيخ يوماً شراء حذاء جديد، ولم يفكر هو بذلك ولكنه ادخر ثمن سيارة عتيقة، لأن العمل يحتاج إلى سيارة ولكنه يتم بدون حذاء.

وفي ليلة من أوائل سنة 1983 الحالة السواد وقد سيطرت قوات الاحتلال على القرى الوادعة في جبل عامل طرق باب البيت، ونهض عبد الحسن ليجد الشيخ محمد زيدان واقفاً على الباب، وبدون تردد بادره الشيخ:

-      عندنا عمل الليلة، وأنا أنتظرك خارجاً..

ولم تمض دقيقة من الزمان إلا وكان عبد الحسن يوافي الشيخ، فقد كان خفيف المؤونة سريعاً .. فاختلى به في زاوية معتمة من الطريق، ودله على مكان العبوة والأسلاك والبطارية وحدد له الهدف.

      ولم يمض نهار اليوم التالي إلا وكان عبد الحسن قد قصد صور والتقى بمحمد زين وأبلغه أوامر الشيخ محمد، ليعودا بعد ساعة إلى طيردبا ويهيئا نفسيهما لمهمة الليلة القادمة.

      وما إن أظلم الليل حتى كان عبد الحسن يسرع الخطى مع محمد زين منحدرين باتجاه وادي الحظايا المعتم المقفر الذي يفصل بين قريتي طيردبا ووادي جيلو إلى حيث حدد لهما الشيخ مكان العبوة وملحقاتها، وفجأة، من وسط الصمت والظلام:

-      قف عندك، إرفع إيدك! مخرب!!

جاءهما الصوت من بين الصخور والأشجار، وكان قريباً جداً، فارتبك عبد الحسن ولكن لم يفر، فلا داعي لذلك.. وجمد محمد زين في مكانه، ولم تمض إلا لحظات حتى كان رجال ملثمون مسلحون يخرجون من خلف الأشجار، ويقترب أحدهم إلى إلى عبد الحسن فيصفعه على وجهه صارخاً:

-      مخرب، إنت بتقوص على جيش الدفاع؟

وأسقط في أيديهما، لقد وقعا في كمين للمخابرات الإسرائيلية .. ولكنهما أصرا على العناد..

-      أنا لست مخرباً.

-      لوين رايح من هون؟

-      نازلين لنأكل الليمون!

-      كذاب! (وصفعة ثانية) إنت مخرب وتريد زرع عبوة.

وانهالوا عليهما ضرباً بالأيدي والبنادق، ثم وضعوا في رأسيهما كيسين من الخيش وقيدوا أيديهما واقتادوهما إلى الطريق العام ثم أركبوهما في سيارة مدنية انطلقت بهما دقائق ثم وقفت، فترجلوا منها واقتادوهما إلى مكان بين الأشجار حيث عزلوهما عن بعضهما، وهناك ابتدأ مع كل واحد منهما على حدة تحقيق تخلله ضرب وركل وشتم، وكانت المعلومات التي يطلبونها تتعلق بالمقاومة وعملها فكانوا يسألونهما عن جميع الشباب ويحاولون الإيقاع بينهما والإيحاء إلى كل منهما أن صاحبه اعترف بكل شيء.. ففوجئا بحجم المعلومات التي يملكونها عنهم.

-  أرسلكما محمد زيدان لتزرعا عبوة وقال لكما إنها هنا قرب قساطل الماء آخر النزلة .. أليس كذلك؟

وأنكرا أنهما شاهدا محمد زيدان وأنه طلب منهما ذلك فانهالوا عليهما بالضرب المبرح.. وأخذوا يسألونهما عن مسؤولين في المقاومة وعناوينها ولكنهما لاذا بالصمت رغم الضرب والركل.. واستمر التحقيق لساعات وهما ينكران كل صلة أو معرفة لهما بالمقاومة..

   ما بدك تحكي يا مخرب؟

-      لا أعرف شيئاً ولا علاقة لي بكل ما تقولونه..

-      طيب روح من هون.. وإذا عرفنا عنكما شيئاً سنقتلكما..

وأعادوهما إلى الطريق ثم نزعوا من رأسيهما الكيسين وأمروهما أن لا يلتفتا إلى الخلف وأن يعودا إلى طيردبا مشياً.

كانت ليلة مضنية عليهما، ناما في صبيحتها إلى ساعة متأخرة من شدة التعب واستيقظا على صوت طرقات على الباب.. وإذا بالشيخ زيدان، ضاحكاً، مشرقاً وجهه.. فبادره عبد الحسن:

-      لو أنك تعلم بالذي حصل معنا أمس!!

ولم يتمالك الشيخ نفسه من الضحك، وقبل أن ينبس عبد الحسن ببنت شفة قال الشيخ:

-      علمت بكل شيء، ونريد أن تسامحانا على ما فعلناه بكم ..

وفغر عبد الحسن فاه من الدهشة..!! بينما كان محمد زين يجلس في فراشه وهو يفرك عينيه لا يكاد يصدق ما يسمع، وهنا انقلبت سحنة الشيخ إلى جدية بالغة وأردف قائلاً:

-  لقد كان قراراً من قيادة المقاومة بامتحانكما واختبار قدرتكما على حفظ أسرار العمل وتحمل التعذيب فنجحتما نجاحاً باهراً، ولكن نريد أن تسامحانا على الضرب وعلى (القتلة) التي أكلتماها..

-      الله يسامحكم ويبرئ ذمتكم! ولكنكم كدتم تكسرون أضلاعنا.

وضمهما الشيخ إلى صدره، وتعانقوا طويلاً، واغرورقت عيناه بالدموع، لقد وجد بعد هذه الليلة وتدين من أوتاد المقاومة في جبل عامل.. وانقلب الموقف في هذه اللحظة، فقد أثرت دموع الشيخ في عبد الحسن، فهو أستاذه وقائده، فبادره بتواضع المحبب..

-      ولا يهمك بسيطة، نعيش وناكل غيرها..

كان عبد الحسن يحرص على المبادرة فور انتهاء عمله إلى سيارته العجوز، فيعالجها بإصرار لابد لها في نهايته من أن تتحرك، وإذا ما تحركت فقد كانت مطواعة له، تسير وتركض، تنزل في الحفر وتخرج منها على طرقات مثلث الحديد التي أصبح الزفت هو النادر فيها، فكان يسير بها الهوينا مخترقاً الشارع العام للبازورية، فيسير تارة ويتوقف أخرى ثم ينحدر باتجاه وادي جيلو ويقفل من هناك عائداً إلى طيردبا فإلى البص فالبرج الشمالي، ثم يعود إلى طيردبا حيث كان لابد له أن يلتقي بالشيخ محمد زيدان ليخبره بكلمات قصار نتيجة استطلاع الطريق.. لقد كان يعرف عبد الحسن ماذا يريد وكان يعلم أيضاً ما الذي يريد الشيخ سماعه..


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net