متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
خليل جرادي
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

خليل جرادي

 

   ليلة العيد، وأذان الفجر سوف يصدح بعد قليل، وفيما جبل عامل غارق في ظلام الاحتلال، كانت بلدة معركة في تلك الليلة على موعد مع حادث سوف يكون له صدى عندها وعند المقاومة وعند قوات الاحتلال اليهودي..

فقد طرق الباب بشدة أدهشت الأم الساهرة قرب فراش ابنها المريض الذي عاد أول هذه الليلة من المستشفى بعد عملية جراحية فقامة تتعثر في خطواتها نحو باب الدار فيما نهض ابنها من فراشه وجلس مترقباً..

-      مين؟

-      افتح، نحنا جيش الدفاع..

خفق قلبها وتسمّرت في مكانها..

-      ماذا تريدون؟

-      افتح، أحسن لك..

-      ماذا تريدون؟

-      نريد خليل جرادي.. افتح أحسن ما نكسر الباب

-      ولكن خليل ليس هنا..

-      افتح أحسن لك .. بسرعة..

وهنا كان والده قد وصل إلى البوابة، وبأعصاب هادئة أدار المفتاح وأنزل المزلاج ليُدفع الباب بعنف فيدفعه خلفه، ويدخل إلى الدار عدة جنود من اليهود التفت أحدهم للحاج قائلاً:

-      مرحباً (متكلفاً الابتسام)

-      نعم!! (أجاب الحاج بجفاف وبدون الإجابة على التحية الخبيثة)

-      أين خليل؟

-      لماذا؟

-      نريد أن نأخذه معنا ساعتين إلى مركز المخابرات في صور

-      إنه مريض ولا يستطيع الخروج من البيت..

أثناء ذلك وصل خليل جرادي إلى باحة الدار فالتفت إليه الإسرائيلي وتقدم نحوه ماداً يده للمصافحة.. فوقف خليل جرادي، صلباً، شامخاً، تتكسر على صدره أمواج إسرائيل العاتية.. وبقيت يداه مسبلتان، فيما سحب اليهودي يده مخذولاً، لقد رفض أبوه التحية، ورفض هو المصافحة، ولكن اليهودي حاول استدراك هزيمته المعنوية فقال:

-      بكرا العيد، ونحن عندنا عيد أيضاً، التقى عيدنا مع عيدكم..

-      ولكن نحن لا نلتقي ولن نلتقي أبداً..

-      طيب! (وقد اكفهر وجهه) يريد منك الميجر أن تأتي لعنده ساعتين في صور..

-      لا أستطيع فأنا مريض.

-      نحن سنقلك ونعيدك، وأنت مرتاح.

وتدخل أبواه معه يحاولان إقناع اليهودي بأنه مريض فعلاً، فيما كانت أصوات المؤذنين في معركة والقرى المجاورة تصدح مؤذنة ببلوغ الفجر، ولكن اليهودي أصر على مخاطبته هو!

-      تستطيع أن تقود سيارتك بنفسك وتأتي معنا وتعود فيها.

-      لا أستطيع مغادرة فراشي، فالطبيب أمرني بملازمته.

-  طيب! خذ معك من تشاء من أهل بلدك، فيقود لك السيارة وتبقى مرتاحاً، الميجر مصر على محادثتك!

-      لا أحد من أهل البلدة مستعد للنزول معي إلى صور.

وهنا ارتفعت وتيرة صوت اليهودي مظهرة غضبه وانفعاله:

-      ولا أحد مستعد؟؟ إنت يا خليل كل أهل معركة يفعلون ما تريد ويذهبون حيث تريد!!

-      صحيح! يذهبون حيث أريد! ولكن لا يذهبون إلى مركز المخابرات الإسرائيلية.

-      طيب! إذا كان ما في حل نأخذك معنا بالقوة!

-      بالقوة نعم! تستطيعون! ولكن لن أذهب معكم بإرادتي واختياري أبداً.

وجم اليهودي، وأخذ يحملق في قسمات وجه خليل، فيما كان نور الفجر ينبلج بالتدريج وأخذت ألوان جدران معركة وبيوتها تظهر بيضاء ناصعة تلمع ببياض الفجر.

وأدار الإسرائيلي ظهره نحو حامل الجهاز اللاسلكي وأمسك بالسماعة وأخذ يرطن بالعبرية، وبعد قليل التفت إلى جنوده وأمرهم بمغادرة البيت، ثم نظر إلى خليل ثانية وضحك كعواء ذهب وقال:

-      معليش! بكرا الصبح إنزل لوحدك إلى مركز المخابرات! وكل عام وأنت بخير.

وانصرف، بدون أن يجيبه أحد أو يعده بالنزول أحد أو يرد على تحيته أحد بل بقي الثلاثة صامتون. لقد أدرك خليل جرادي جيداً أن الكلمات الزائدة في زمن الحرب مثل الغبار الذي تثيره أقدام المقاتلين، فإنه لا يقدم ولا يؤخر، بل يحجب الوضع الحقيق للأمور.

وفي معركة، وفي أحد بيوتها التي اتخذها الرجال مركزاً سرياً للعمل، وفي الليلة نفسها، وكان خضر الجوني قد أنجز استطلاع طريق البازورية، اختار لتنفيذ العملية علي بدوي وعلي سليمان ومحمد حدرج وأبا جعفر، وتم الاتفاق على المبيت في بازورية ليلة العملية.

وبعد يومين، وبينما كانت الشمس تنشر دفأها بعد ليلة شاتية باردة، انقشعت غيوم شباط في سماء البازورية، وامتدت مروج الدحنون والأزهار الربيعية من الروابي والحقول وتواصلت مع الطرق الإسفلتية حيث تزاحمت كجمهور أطفال في سيرك.. فنبتت على حوافي الطرق بالمطر والشمس والأرض الطيبة.. والزهر كاللوز ينبت باكراً في بلادنا، كذلك هذه السنة، رغم الجنزير وصرير الفولاذ ووقع الأقدام النجسة والرطانة العبرية التي تؤذي الورود.

كان صباحاً مشمساً، فخرجت وجوه العامليين تستقبل الشمس وتنعم بصبيحة يوم دافئ.. وفتحت بعض النوافذ رغم أن طقس شباط ليس عليه رباط في جبل عامل، ولم يكن ينتظر صاحب المطعم الصغير المتواضع أن يحضر شخصياً مهرجاناً ربيعياً في ذلك اليوم، أما هم فقد استيقظوا باكراً هذا الصباح، ولعلهم لم يناموا بعد صلاة الصبح، وفيما كان علي بدوي يتفحّص محرك السيارة، كانوا يخرجون تباعاً تطفح بسمة على شفاههم، ويفوح منهم عبق، وينتشر دفء.

وكأن كل شيء كان معداً أمس، فبعد التفاتة حذرة يميناً ويساراً فتح محمد حدرج صندوق السيارة نصف فتحة وأخذ يشير بإصبعه عادّاً ما في داخله.. خراقة مقنبلة و (ب كا س)، وتحسس بيده وضعية الشرشور، في مكانه، تمام، وأربعة رشيشات كلاشينكوف.

وأطبق الصندوق فمازحه خضر الجوني:

-      ماذا؟ هل سرق شيء؟

-      وهل يجرؤ علينا أحد!!!

بعد قليل كانت سيارتهم تتهادى بهدوء هابطة الطريق العام للبازورية، ثم أخذت تبطئ قرب المطعم الصغير المتواضع ثم تركن إلى جانب الطريق النازل صوب حاجز الفرنسيين من القوات الدولية بحيث لا يراها الآتي من الجهة العليا، ثم ترجل الشباب فاسبتشر صاحب المطعم خيراً، فهؤلاء أربعة رجال ما زالوا بدون إفطار..

كان المطعم دافئاً وتنتشر فيه رائحة طعام الفقراء اللذيذة، الفول، ولكنهم فضلوا أن يأكلوا (على الواقف) فيما كان علي سليمان يتمشى خارج المطعم ويتبادل معهم المزحات. ودخل زبائن آخرون وعجق المطعم الصغير بالفقراء، ولم يؤثر على ترويقة رجالنا كما لم يؤثر ذلك على ترويقة علي سليمان الذي فضل أن يأكل رغيفه خارج المطعم وهو واقف يراقب الطريق النازل، وفجأة رمى بقية الرغيف، وبخطوتين كان عند بقية الشباب.

- جاؤوا!!

وتحركت سيمفونية الغضب، ولكن برشاقة وخفة، وقفز خضر الجوني إلى صندوق السيارة يفتحه، وخلال ثوان كان كل واحد منهم قد تناول سلاحه وقفز إلى مربضه حسب الخطة التي درسوها أمس ليلاً وسهروا على مناقشتها.

كانوا جيبي ويلس يحملان ضباطاً وجنوداً لجيش الدفاع الإسرائيلي، يسيران على عكس الساعة على طريق البازورية العاملي، فيخدشان كرامة الطريق ويجرحان روح الإسفلت وكانت الوجوه المحتلة ترمقهم بنظرات المقاومة التي لا تريد أ، تطبع الصورة في المقلة، بل تريد صورة محترقة لا توجد فيها هذه الألوان القبيحة.

خفف الجيبان السرعة على المنعطف، عند المطعم الصغير المتواضع الذي يأكل فيه الفقراء وكان علي بدوي يمتشق القنبلة، فانطلقت تدوي كالرعد غضباً، فتمزق الجيب الأول والتهب نيراناً ودخاناً أسود، وارتفع صياح اليهود وعواؤهم فيما كان علي سليمان يمزق برصاص رشيشه بقيتهم، بينما كان محمد حدرج وخضر الجوني وأبو جعفر يمطرون الجيب الثاني بسيل من الرماية زغاريد زغاريد .. وامتلأ المكان بصخب النيران والانفجارات وإطلاق النار واختلط حابل اليهود بنابلهم!

ومضت نصف دقيقة.. وران صمت بعد برق ورعد ومطر من رصاص، وفجأة، من وسط الدخان واللهب، اندفع ضابط يهودي راكضاً باتجاه حاجز القوات الدولية، وكان قد قفز من الجيب الثاني إلى يمين الطريق، وجثم خلال الرماية أرضاً فلم يصب. ألم يأت الدوليون لحمايته؟! إذن!!

كان يجري هلع ورعب مضاعفاً من سرعته.. ولكن خضر الجوني، ورغم ثقل الرشاش المتوسط، شد ورائه الخطى مسرعاً وأخذ يتعقبه راكضاً خلفه، وأخذ الناس يكبرون، وقد لفتت انتباههم هذه المطاردة.

      كانت المسافة إلى الحاجز تقارب الخمسين متراً، ولكنه كان ثقيلاً، ولم يكن كالغزال فيسبق، بل كان كضبع متخم، فأدركه الصقر قرب حاجز الفرنسيين تماماً، وعلى مرأى منهم حيث وقفوا مذهولين، وقد ارتمى الضابط اليهودي أرضاً، وأخذ يزحف على قفاه مذعوراً، ولم تنفعه دول العالم، وبإصرار كل جبل عامل، مزقه خضر الجوني ونعفه أرضاً وخلط دمه الأسود النجس بوحل الأرض، وقفل عائداً غير آبه بالدوليين، فهذا أوان النار والموت وهنا يذل الجبابرة.

      لم يتردد الشباب في جمع أسلحة اليهود، ووضعها في صندوق سيارتهم، فعندنا الكثير ممن سوف يحمل السلاح بعد هذه المعركة.. وهكذا نقتلهم فنكبر ويقتلونا فنكبر أيضاً..

      هي مشية يحبها الله ورسوله، كزهو علي عليه السلام يوم الخندق بعد أن قتل عمرو!! وكبر الرجال، وكبر معهم رجال ونساء، أرامل ويتامى وثكالى، وانطلقوا في سيارتهم وقد أخرجوا رؤوسهم وأسلحتهم من نوافذها يكبرون ويكبرون ويكبرون، وتجاوب معهم من شاهد تفاصيل العملية، وامتد الأثر العميق لعملية البازورية هذه، بالتكبير، من قشرة السلاح إلى لب الوجدان فانغرز فيه، وكانت البازورية إلى ذلك اليوم تسمع بهم وبعملياتهم بدون أن تعرفهم، ولكنها اليوم عرفتهم، فقد شاهد أهلها محمد حدرج ابن البلدة ورفاقه وما فعلوا .. وكانت تغطية المقاومة ومساعدته والتستر عليه أمراً يحتاج إلى حذر وكلفة ومؤونة، ومع ذلك، فلم تستطع المخابرات اليهودية أن تحصل من أحد من أهل البلدة على اسم من أسماء الذين قاموا بالعملية.

      بعد هذه الضربة التي تلقتها القوات الإسرائيلية الغازية تلبدت الأجواء الأمنية في مثلث الحديد والنار، فقد كانت الحصيلة العامة للمقاومة في منطقة صور، خلال شهري كانون الثاني وشباط من سنة 1984، خمسة وعشرين هجوماً، اعترفت إسرائيل بمقتل جنرال وعشرة جنود فيها.. وابتدأت تظهر واضحة للمراقب الصهيوني المدقق، في هذين الشهرين خريطة الهجمات ضد الإسرائيليين، فقد كانت كلها على الضلع الغربي للمثلث، على الطريق الساحلي وفي صور، وعلى الضلع الشمالي له، طريق صريفا العباسية صور، وعلى الضلع الجنوبي له، طريق جويا البازورية صور وبلغ السيل الزبى في هذه العملية الأخيرة، فاتجهت أنظار اليهود إلى معركة.

      ولعل أخباراً عن رجال يأوون إليها ويشنون منها الهجمات قد تسربت، فوصلت إليها تحت جنح الظلام ليلة 17 شباط 1984 سيارات للمخابرات الإسرائيلية، ولم يكن هدفهم واضحاً، ولعله كان محاولة للحصول على معلومات عن هؤلاء الرجال، ولكن اليهود كانوا في تلك الليلة يتحرشون بالعملاق، فما إن توقفت سيارة المخابرات قرب الحسينية أما بعض شباب البلدة حتى قال اليهودي لأحدهم بغطرسة:

-      لماذا أنت هنا؟ ماذا تفعل في هذه الساعة؟

فأجابه الشاب بكبرياء..

-      أنا ماذا أفعل هنا؟ أنت ماذا تفعل هنا؟

-      شو إسمك إنت؟

-      أنا إبن موسى الصدر، وهذه الأرض أرضي.. أنت شو إسمك وماذا تفعل هنا؟..

واحتدم الحوار، وفجأة سقط حجر من أحد السطوح على الجيب الإسرائيلي فهرع اليهود منسحبين وارتفعت أصوات التكبير تلاحقهم..

ابتدأت معركة من تلك الليلة تحتل حيزاً من القلق الإسرائيلي، فإن المراهنة على العداء الشيعي الفلسطيني لم تثمر، وها هي معركة تحتضن المقاومين وتتصرف بعداء حيال المحتل اليهودي.. وكان لابد من تأديبها، ووضعت إسرائيل بعد أسبوع من تلك الحادثة وفي فجر ليلة 24 شباط 1984 معركة أمام اختبار الحديد والنار، ووقف خليل جرادي ومحمد سعد وقفة تاريخية في مواجهة الغطرسة الصهيونية في تحمل عبء حماية المقاومة الإسلامية التي اتخذت من معركة قاعدة لها، وكان يمكن للخسائر التي سوف تلحق بالناس من جراء الضغط الإسرائيلي أن تهز هذه الحماية وتعرضها لخلل ولكن خليل جرادي ومحمد سعد ابتدءا يجابهان منذ 24 شباط كل محاولات التخلي عن حمايتها فكان خليل يجيب كل من يقول بأن (هؤلاء ليسوا من أمل وأنهم غرباء ويسببون لنا المشاكل) بقوله (هؤلاء وأمل واحد، نحميهم كما نحمي أبناءنا وإخواننا، هؤلاء يقومون بواجبهم الديني مثلنا تماماً).

      منذ الساعة الثانية والنصف من بعد منتصف الليل احتلت القوات الإسرائيلية الطرقات المؤدية إلى البلدة بعشرات الآليات ومئات الجنود ودخلها اليهود فجراً في يوم 24 شباط 1984 بعد أن طوقوها من جميع الجهات وأخذوا يحتلون الطرق والمداخل تدريجياً وبدأوا بإطلاق رصاص غزير من أجل تخويف الناس بينما كان مذياع الحسينية والمسجد يرتفع بالتكبير، ودارت معارك بالأيدي والحجارة وتحولت ساحة البلدة وشارعها العام وأزقتها إلى ساحة معركة.. وانقشع الغبار عن شهيدين من أبناء البلدة هما محمود خليل وحسين سعد وسقوط أربعين جريحاً واعتقال البعض.

      كانت حرب شوارع حقيقية، شارك فيها الرجال والنساء والفتيان والأطفال، فكانت الحجارة تسقط على اليهود أفراداً وآليات كالمطر الغزير، وكانت المرأة عجوزاً أو صبية تحمل الحجارة في ذيل فستانها الذي تجعله كالكيس وتنقله إلى الرجال.. حتى أن شباب معركة كانوا يتصدون للرصاص اليهودي الغادر بأجسادهم العارية، وقد وقف أحدهم أمام اليهود في الشارع وجهاً لوجه وأفرد ذراعيه وفتح لهم صدره وقال: أطلقوا النار علي يا جبناء!! فأطلقوا عليه النار وهو أعزل تماماً فأصابوه في خاصرته فنقله الشباب مع بقية الجرحى على سلالم أعدوها لهذه الغاية عبر الوادي إلى بلدة يانوح القريبة لمعالجتهم.

      خرج اليهود من معركة وقد خسروا كثيراً، فقد توحد أهالي البلدة تحت راية قيادة خليل جرادي، وتعززت الثقة بالنفس، وسقط حاجز الخوف من الإسرائيلي مما عزز الحماية لرجال المقاومة الإسلامية فخطب بعدها محمد سعد (وكان الرد الوحيد على سلوك الاحتلال بذاتنا وبقرارة أنفسنا وكان لابد من غطاء جماهيري لهؤلاء الشباب)  


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net