متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الشهادة
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

الشهادة

 

-  ماذا توصون لعلي فأنا ذاهب لعنده وسوف ألحق به بعد أسبوع! قالها علي بدوي، فوجم الجميع، وكانت جالسة بقربه فعلقت غصة في صدرها، وانحدرت دمعة.

وفعلاً، بعد خمسة أيام وفي مكان آخر من جبل عامل، وبينما كان أحد رجال المقاومة الإسلامية يتناول إفطاره بعد ليلة حافلة بالعمل، من اللبنة والزيتون والزعتر، وقد كتب له القدر أن يكون ضيفاً عند الحاج حسين جواد هذا الصباح، فيما كان الحاج في الحمام يزيل ما علق على ثيابه وبدنه من الوحول ليلة أمس ويستعد ليوم جديد، ارتفعت فجأة أصوات من الخارج، فقد توقفت سيارات مسرعة أمام المنزل، وفتحت أبوابها ونزل منها رجال بطريقة ملفتة، فعلقت اللقمة في فمه، وقبل أن يستوعب ما الذي يجري كسر الباب واندفع جنود الاحتلال داخل البيت يصرخون وقد شهروا بنادقهم في وجهه:

-      لا تتحرك.

لم يتحرك أبداً، فقد أدرك انقلاب الموقف تماماً، ولم يخف، وهو الذي لا يأبه بكل إسرائيل وكان يعلم أنهم يريدون الاعتقال لا القتل!

-      مين خسين جواد؟

-      أنا خسين جواد!!

قالها بكل برودة أعصاب وبدون تردد.

      وبينما كان نفس الحاج حسين جواد في الحمام هلعاً من احتمال اقتحامه وهو بتلك الحالة وقد أقفل الصنبور بسرعة، كان الجنود يغادرون المنزل وقد كبلوا يدي أسيرهم الموهوم (خسين جواد) ووضعوا كسياً في رأسه، كالعادة!

      لم يتردد في أن يقول لهم إنه هو حسين جواد، فهي الأثرة التي تملك عليهم وجدانهم ومشاعرهم، ويعيشها رجال المقاومة الإسلامية في كل تفاصيل حياتهم، ثم لم يكن هناك فائدة من الإنكار، فسوف يفتشون البيت إذا أنكر، ثم سوف يعتقلونهما معا بعدذلك هو والحاج حسين جواد.

      وأفلت الحاج من الأسر، وقد ترك اعتقال الأخ الذي ادعى أنه هو حسين جواد وخلصه، أثراً عميقاً في نفسه، فغادر المنزل وهو أشد تمسكاً بالخط وبالعمل في سبيل الله وبالمقاومة، ولكن الطريق صعب وشاق والمسيرة طويلة، وينبغي مواجهة الخسائر بالصبر والتحمل، وبعد ما فقدنا ما فقدنا من الخسائر وبعد هذه العذابات والدموع والآلام التي سببها الشهداء والأسرى، لا ينبغي أن نتوانى أو نتكاسل، وغادر المنزل يحفّزه ذلك الموقف الإسلامي الأصيل لرفيق دربه الذي ضحى بحريته كي يستمر العمل، وقد وضع عينيه على الموعد الذي ضربه لعلي بدوي في بيروت.

- إني أشعر أن أيام الاحتلال أصبحت قليلة وأنه إلى زوال، وأخشى أن يفوتني قطار الشهادة!

غصّ علي بدوي بالدموع، وهو يقول هذه الكلمات، واغرورقت عيناه بالدموع، إنه في قلب الوطن والأهل والأصحاب، ولكن أين علي سليمان شقيق روحه؟ إنه شهيد لم يبق له أثر! أين خضر الجوني؟ أين فارس حاوي؟ أين محمد حدرج؟ أين عبد الله فنيش؟ فاستوحش وخنقته العبرة فكفكفها.

-      لقد استشهدوا جميعاً .. واحداً تلو الآخر، وأخشى أن أبقى وحيداً!!

وهنا أطل الحاج حسين جواد، فانتزع ابتسامة منه وجعله يغادر مسرح الذكرى ويدخل مسرح الواقع فالمسيرة تحتاج إلى المزيد والمزيد، وعلى ضوء شمعة، جلسا يخططان لمستقبل العمل ونقل السلاح وتخزينه وموعد العودة بالسلاح وتحديد طريق التسلل إلى داخل المنطقة المحتلة..

      كانت قوات الاحتلال في منطقة صور تبحث عن علي بدوي، فيما كان هو والحاج حسين جواد على رأس مجموعة يعبرون النهر إلى الجنوب محمّلين بالسلاح والذخيرة والصواريخ، بعد أن أصبح من الصعب نقلها عبر السيارات العادية بسبب سياسة القبضة الحديدية التي كبّلت كثيراً من الوسائل العادية، وجعلت رجال المقاومة يبدلون في وسائلهم التي كان آخرها نقل السلاح على الأكتاف وعبر النهر.

-  أيها الإخوان من هنا سوف نسير مشياً على الأقدام! وربما اليهود على بعد أمتار منا!! قال الحاج حسين جواد فعقب علي بدوي ممازحاً:

-  استعجلوا، فسوف نلحق بالعالم الآخر بعد قليل، إنكم تدخلون منطقة ما إن تقولوا فيها بسم الله حتى تأتيكم صليات قبل أن تقولوا الرحمن الرحيم..

ضحك الرجال وكأنهم يعيشون رغبة مفرطة في إلقاء النكات مع ما في كلام علي بدوي من الدقة والخطورة، وكأنه لا يوجد لألحان أغنية الموت صدى عندهم إلا الحياة. فكانوا يحسون بنحو من المرح الغامر، وعدم المبالاة بالاحتمالات الكامنة في العتمة داخل مناطق الاحتلال.

      انحدروا باتجاه النهر وأخذت أصواتهم تخمد تدريجياً وبقي ما يبقى من أصوات التقاء أرجلهم بالصخور والأشواك بعد الحذر واختزال الحركات، وبين الحين والآخر كان يترامى من عمق جبل عامل قصف بعيد ورمايات ثقيلة ثم يسود السكون.

      وصلوا إلى ضفاف النهر، وقد فقدوا انتظامهم الذي بدأوه حين الشروع في المسيرة، وأخذ بعضهم يلقي الحقائب عن ظهره والبعض الآخر وضع صندوق الذخيرة وجلس يرتاح عليه.. وأخذ علي بدوي يغسل يديه ووجه بماء النهر فأحس بانتعاش رغم برودة الطقس في تلك الليالي.. وعبر الرجال النهر وابتدأوا في صعود هادئ وبطيء على قادوميات تؤدي إلى قرية طيرفلسيه..

      وعندما لاحظت كمائن اليهود حركة رجال المقاومة، لم يكن يدور بخلد واحد منهم أن في هذه القافلة من يوجد أوامر بقتله وبأي ثمن، وبدون أن يتنبّه الرجال إلى الكمين اليهودي وبدون أن يعلم الصهيوني الرامي للرشاش الثقيل من أصاب بطلقاته الأولى.. ضرّج علي بدوي بدماء الشهادة من الصلية الأولى، هو والحاج حسين جواد الذي أفلت من الأسر يوم أمس فكتب له الله الشهادة اليوم..

      وبينما كان بقية أفراد المجموعة يغيرون الطريق لكي يتفادوا الكمين وينقذوا بقية السلاح والذخائر، كان علي بدوي، بطل المقاومة، وأسد جبل عامل، مسجى شهيداً تسقي دماؤه الأرض الطاهرة على ضفاف النهر، وقد اختلطت بتراب جبل عامل، وكانت ابتسامته التي لم تفارقه أبداً، تطل من خلال نثرة قش زينت صفحة وجهه.

      وبينما كان جثمان الشهيد علي بدوي محمولاً على أكف البلان والعليق والشومر، تكفنه أزهار السكوكع والدحنون، وتغسله بعبقها وأريجها الذي عشقه الشهيد فكان يسكره حتى الثمالة، توافدت النسمات من بين الأودية والروابي العاملية حاملة معها عطر الورود وشتلات الحبق، بحنين وأنين، تشيع الشهيد فتلثم أنامله وتمسح القش العالق على قسمات وجهه وتقبل ثغره الباسم وتعبث بخصلات شعره..

      وفي أسفل الوادي كان نهر الليطاني يذرف دموعه بغزارة باتجاه البحر مردداً مع حفيف أوراق الصفصاف على ضفافه ونسائم جبل عامل سيمفونية الوداع فتتمايل الزهور والرياحين وينتقل صدى النشيد إلى كل واد وربوة ونسمة وقلب ينبض، وترتفع أنشودة الجهاد والمقاومة.

 


 

في التاسع والعشرين من شهر نيسان من سنة 1985، وبعد استشهاد علي بدوي بأربعين يوماً، انسحبت القوات الإسرائيلية نهائياً من منطقة صور، وفي الساعة الحادية عشر من قبل ظهر ذلك اليوم غادرت البص آخر آلية للغزاة، وألقت الطوافات منشورات تدعو المواطنين إلى منع الإرهاب!! وكان الفرح بادياً على وجوه الجنود اليهود خلال رحيلهم فزينوا دباباتهم بالبالونات الملونة، وكتب أحدهم على مقدمة دبابة (وداعاً يا لبنان، أيها البلد الذي استهلك محتليه)، وقال آخر لصحافي (خرجنا من مثلث الحديد الذي قتل فيه مئة وأربعة من جنودنا في عمليتين انتحاريتين دون سائر الخسائر في بقية المعارك).

***

      بقي رضا حريري في الأسر إلى سنة 1985 حيث أطلق مع معتقلي عتليت في عملية تبادل واستشهد سنة 1986 في أول عملية نوعية للمقاومة الإسلامية في اقتحام موقع الحقبان.

وبقي صالح حرب في الأسر إلى سنة 1985 حيث أطلق مع معتقلي عتليت في عملية تبادل واستشهد عام 1989 دفاعاً عن قواعد المقاومة الإسلامية.

واستشهد الشيخ محمد زيدان عام 1987 في عملية بدر الكبرى.

واستشهد عادل الزين عام 1989 دفاعاً عن قواعد المقاومة الإسلامية

واستشهد حسين وهبة وهو يقوم بعمله الجهادي في حادث انقلاب سيارته في عام 1985

ومازال بعض من شارك في هذه العمليات، ولم نذكر اسمه بصراحة، حياً حتى هذه الساعة.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net