متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
5ـ التوسّل بالاَنبياء و الصالحين
الكتاب : بحوث قرآنية في التوحيد والشرك    |    القسم : مكتبة القرآن و الحديث

5
التوسّل بالاَنبياء و الصالحين


 إنّ عالم الكون عالم فسيح لا يحيط الاِنسان بأسراره ودقائقه، وما اكتشفه الاِنسان منها فإنّما هو ضئيل بالنسبة إلى ما خفي عليه.

 كيف وما أُوتي من العلم إلاّقليلاً ، قال سبحانه: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِرَبّي وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَليلاً) .(1)

 هذا هو العالم الفيزيائي الذائع الصيت أنشتاين(المتوفّى عام 1955م) قال: إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي.(2)

 ولو أنصف لكان عليه أن يقول حتى أقل من هذه النسبة، وكان الاَولى أن يقول نسبة هذا الدرج إلى أطباق السماء.

 وعلى ضوء ذلك فللّه سبحانه في هذا العالم أسباب و علل لم يصل إليها البشر مع ما بذل من الجهود.

 
____________

 1 ـ الاسراء|85.

 2 ـ مجلة رسالة الاِسلام السنة الرابعة، العدد الاَوّل، مقال الكاتب المصري أحمد أمين.


( 92 )

ثمّ إنّ الاَسباب تنقسم إلى طبيعية ومادية وإلى غيبية وإلهية، أمّا الاَوّل فالنظام الكائن مبني على العلل والاَسباب الطبيعية وتأثير كلّ سبب طبيعي ومادي بإذن اللّه سبحانه، وليس للعلم دور سوى الكشف عن هذه الاَسباب المادية.

 غير انّ المادي ينظر إلى هذه الاَسباب بنظرة استقلالية ولكن الاِلهي ينظر إليها نظرة تبعية قائمة باللّه سبحانه، موَثرة بإذنه، وهذا هو ذو القرنين يتمسك بالاَسباب الطبيعية في إيجاد السد أمام يأجوج ومأجوج ويستعين بالاَسباب ولا يراها مخالفاً للتوحيد.

 قال سبحانه حاكياً عنه: (آتُوني زُبَرَ الْحَديد حَتّى إِذا سَاوى بَيْنَ الصَّدَفَيْن قالَ انْفُخُوا حَتّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً* فَما اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً* قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً).(1)

 إنّ الاستعانة بالاَحياء والاستغاثة بهم أمر جرت عليه سيرة العقلاء، وهذا موسى الكليم استغاثه بعض شيعته فأجابه دون أن يخطر ببال أحد انّالاستغاثة لا تجوز إلاّ باللّه، قال سبحانه: (وَدَخَلَ المَدينةَ عَلى حينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاستَغاثَهُ الَّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقضى عَلَيْهِ) .(2)
____________

 1 الكهف|96ـ 98.

 2 ـ القصص|15.


( 93 )

وما هذا إلاّ لاَنّ موسى وشيعته تعتقد بأنّ المغيث إنّما يغيث بقوة وإذن منه سبحانه، فلا مانع من طلب النجدة والاستغاثة والاستعانة من الاَحياء شريطة القيد المذكور، وقد أُشير إليه في قوله سبحانه: (وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الحَكيم) .(1)

***

كلّ ما ذكرنا كان يعود إلى التوسل بالاَحياء والاَسباب الطبيعية، وهذا ليس مورد بحث و نقاش.

 إنّما الكلام في التوسل بالاَنبياء والاَولياء لا على الطريق المألوف وله أقسام:

 أ. التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحين في حال حياتهم.

 ب. التوسل بذات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قدسيته وشخصيته.

 ج. التوسل بحقّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والاَنبياء والصالحين.

 د. التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين بعد رحيلهم.

 هـ. طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والاَولياء.

 وإليك دراسة كلّواحد منها:

أ. التوسل بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحينفي حال حياتهم


 اتّفق المسلمون على جواز التوسل بدعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________

 1 ـ آل عمران|126.


( 94 )

في حال حياته، بل يستحب التوسل بدعاء الموَمن كذلك، قال سبحانه: (ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَاسْتَغْفروا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَلَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحيماً) .(1)

 تجد انّه سبحانه يدعو الظالمين إلى المجيء إلى مجلس الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كي يستغفر لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

 وفي آية أُخرى يندد بالمنافقين بأنّهم إذا دعوا إلى المجيء إلى مجلس الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب المغفرة منه تنكروا ذلك واعترضوا عليه بليِّ الرأس، قال سبحانه: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِر لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُوَُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) .(2)

 وتاريخ الاِسلام حافل بنماذج عديدة من هذا النوع من التوسل .

ب. التوسل بذات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) و قدسيته وشخصيته


 وها هنا وثيقة تاريخية ننقلها بنصها تعرب عن توسل الصحابة بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حال حياته أوّلاً، وبقدسيته وشخصيته ثانياً، والمقصود من نقلها هو الاستدلال على الاَمر الثاني.

 روى عثمان بن حنيف انّه قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ادع اللّه أن يعافيني؟

 
____________

 1 ـ النساء|64.

 2 ـ المنافقون|5.


( 95 )

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير؟

 قال: فادعه ، فأمره(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة،يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى، اللّهمّ شفّعه في».

 قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ.

 وهذه الرواية من أصح الروايات، قال الترمذي: هذا حديث حق، حسن صحيح.(1)

 وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح.(2)

 ويستفاد من الحديث أمران

 الاَوّل: أن يتوسل الاِنسان بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويدل على ذلك قول الضرير: ادعوا اللّه أن يعافيني،وجواب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن شئتَ دعوتُ ، وإن شئت صبرت وهو خير.

 الثاني: انّه يجوز للاِنسان الداعي أن يتوسل بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضمن دعائه وهذا يستفاد من الدعاء الذي
____________

 1 ـ صحيح الترمذي5، كتاب الدعوات، الباب 119 برقم 3578 ؛سنن ابن ماجة:1|441 برقم 1385؛ مسندأحمد:4|138؛ إلى غير ذلك.

 2 ـ صحيح الترمذي5، كتاب الدعوات، الباب 119 برقم 3578 ؛سنن ابن ماجة:1|441 برقم 1385؛ مسندأحمد:4|138؛ إلى غير ذلك.


( 96 )

علّمه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للضرير، والاِمعان فيه يثبت هذا المعنى، وانّه يجوز لكلّ مسلم في مقام الدعاء أن يتوسل بذات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويتوجه به إلى اللّه.

 وإليك الجمل التي تدل على هذا النوع من التوسل:

 1. اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك

 انّ كلمه «بنبيّك» متعلّق بفعلين «أسألك» و«أتوجه إليك» والمراد من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاءه.

 2. محمد نبي الرحمة

 نجد انّه يذكر اسم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ يصفه بنبي الرحمة معرباً عن أنّ التوسل بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لها من الكرامة والفضيلة.

 3. يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّي

 إنّ جملة: «يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّي» تدل على أنّالضرير حسب تعليم الرسول، اتخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وسيلة لدعائه وتوسل بذاته بما لها من المقام والفضيلة.

 وهذا الحديث يرشدنا إلى أمرين:

 الاَوّل: جواز التوسل بدعاء الرسول.

 الثاني:جواز التوسل إلى اللّه بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لها من الكرامة والمنزلة عند اللّه تبارك و تعالى.

 أمّا الاَوّل، فقد جاء في محاورة الضرير مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)


( 97 )

،فكان الموضوع هو دعاء الرسول، أي طلب الضرير الدعاء منه (صلى الله عليه وآله وسلم) .

 وأمّا الثاني، فيستفاد من الدعاء الذي علّمه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للضرير، فانّه يضمن التوسل بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

 نعم لم يكن يدور في خلد الضرير سوى التوسل بدعائه ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علمه دعاء جاء فيه التوسل بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في نوعه توسل ثان، وبذلك وقفنا على أنّه يستحب للمسلم أن يتوسل بدعاء الصالحين من الاَنبياء والاَولياء كما يجوز له في دعائه التوسل بذواتهم ومقامهم ومنزلتهم.

 ويظهر من الاَحاديث الشريفة انّ أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتوسلون بذات النبي«صلى الله عليه وآله وسلم» في مقام الابتهال والدعاء حتى بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

 أخرج الطبراني، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمّه عثمان بن حنيف: انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائتِ الميضاة فتوضأ، ثم ائتِ المسجد فصلِ فيه ركعتين، ثمّ قل: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي فتقضى لي حاجتي» فتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك.

 فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان،


( 98 )

فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له، ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة. وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

 ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك اللّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتّى كلّمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: واللّه ما كلّمته، ولكني شهدت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : فتصبر؟ فقال: يا رسول اللّه ليس لي قائد فقد شقّ عليَّ.

 فقال النبي ص: إئت الميضاة فتوضأ، ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.

 قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضّر قط.(1)
***
إنّ سيرة المسلمين في حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعدها، استقرت على أنّهم كانوا يتوسلون بأولياء اللّه والصالحين من عباده، دون أن يدور في خلد أحد منهم بأنّه أمر حرام أو شرك أو
____________

 1 ـ المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني: 9|30ـ 31، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف برقم 8311؛ والمعجم الصغير له أيضاً:1|183ـ 184.


( 99 )

بدعة، بل كانوا يرون التوسل بدعاء الصالحين طريقاً إلى التوسل بمنزلتهم، وشخصيتهم، فانّه لو كان لدعاء الرجل الصالح أثر، فإنّما هو لاَجل قداسة نفسه وطهارتها، ولولاهما لما استجيبت دعوته، فما معنى الفرق بين التوسل بدعاء الصالح وبين التوسل بشخصه وذاته، حتى يكون الاَوّل نفس التوحيد و الآخر عين الشرك أو ذريعة إليه.

 إنّ التوسل بقدسية الصالحين، والمعصومين من الذنب، والمخلصين من عباد اللّه لم يكن قط أمراً جديداً بين الصحابة بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الاِسلام، فقد تضافرت الروايات التاريخية على ذلك وإليك البيان:

1. استسقاء عبد المطلب بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو رضيع:

 لقد استسقى عبد المطلب بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو طفل صغير، حتى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب يشير بقوله:

وابيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للاَرامل

 إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معه غلام.(1)

2. استسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) :

 أخرج ابن عساكر عن ابن عرفلة، قال: قدمت مكة وقريش في
____________

 1 ـ فتح الباري: 2|398؛ دلائل النبوة:2|126.


( 100 )

قحط .... فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام ـ يعني : النبي«صلى الله عليه وآله وسلم» كأنّه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله اغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ باصبعه الغلام وما في السماء قزعه، فأقبل السحاب من هاهنا و من هاهنا واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدة يمدح بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

وابيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمةللاَرامل(1)

 وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.

 ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موضع رضا من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فانّه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس، فجاء المطر واخصب الوادي فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :«لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه، من ينشدنا قوله؟».

 فقام علي (عليه السلام) وقال: يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّك أردت قوله:

وابيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للاَرامل(2)

____________

 1 ـ السيرة الحلبية:1|116.

 2 ـ إرشاد الساري: 2|338.


( 101 )

إنّ التوسل بالاَطفال الاَبرياء في الاستسقاء أمر ندب إليه الشرع الشريف، فهذا هو الاِمام الشافعي يقول : أن يخرج الصبيان، ويتنظفوا للاستسقاء وكبار النساء ومن لا هيئة له منهنّ، ولا أحب خروج ذوات الهيئة ولا آمر بإخراج البهائم.(1)

 وما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم، وكلّ ذلك يعرب عن أنّ التوسل بالاَبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكأنّالمتوسل بهم يقول: ربّي و سيدي انّ الصغير معصوم من الذنب،و الكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، وكلتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة، فلاَجلهم أنزل رحمتك إلينا،حتى تعمنا في ظلهم.

 فانّ الساقي ربما يسقي مساحة كبيرة لاَجل شجرة واحدة وفي ظلها تسقى الاَعشاب غير المفيدة.

 وعلى ضوء هذا التحليل يفسر توسل الخليفة بعمّ الرسول: «العباس بن عبد المطلب» الذي سيمر عليك، وأنّه كان توسلاً بشخصه وقداسته وصلته بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعلم بالتالي انّ هذا العمل كان امتداداً للسيرة المستمرة، وانّ هذا لا يمت إلى التوسل بدعاء العباس بصلة.

 
____________

 1 ـ الاَُمّ:1|248، باب خروج النساء والصبيان في الاستسقاء.


( 102 )

3.التوسل بعمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

 أخرج البخاري في صحيحه ،عن أنس: «انّ عمر بن الخطاب كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب (رض) فقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا، وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا. قال: فيسقون».(1)
 هذا ما نصّ عليه البخاري وهو يدل على أنّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشخصه وشخصيته وقدسيته وقرابته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بدعائه ويدل على ذلك:

 قول الخليفة عند الدعاء: «اللّهمّ كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا» وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بنفسه بالدعاء عند الاستسقاء، وتوسل بعمّ الرسول وقرابته منه في دعائه.

ج. التوسل بحقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاَنبياء والصالحين

 وهناك لون آخر من التوسل وهو التوسل بحقّ الاَنبياء والمرسلين، والمراد الحقّ الذي تفضل به سبحانه عليهم فجعلهم أصحاب الحقوق، وليس معنى ذلك انّ للعباد أو للصالحين على اللّه حقّاً ذاتياً يلزم عليه تعالى الخروج منه، بل الحقّ كلّه للّه، وإنّما المراد
____________

 1 ـ صحيح البخاري:2|27 ، باب صلاة الاستسقاء، باب سوَال الناس الاِمام الاستسقاء إذا قحطوا من كتاب الصلاة.


( 103 )

، الحقّ الذي منحه سبحانه لهم تكريماً، وجعلهم أصحاب حقّ على اللّه، كما قال سبحانه: (وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُوَْمِنينَ) .(1)

 ويدل على ذلك من الروايات ما يلي:

 أ. روى أبو سعيد الخدري: قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : من خرج من بيته إلى الصلاة، وقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحقّ ممشاي هذا،فانّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة وخرجت اتقاء سُخْطِك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي انّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، أقبل اللّه عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك.(2)

 ب. روى عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ربّي أسألك بحقّمحمّد لما غفرت لي، فقال اللّه عزّوجلّ: يا آدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه قال: لاَنّك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّمن روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلاّاللّه، محّمد رسول اللّه، فعلمت انّك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال اللّه عزّ وجلّ: صدقت يا آدم انّه لاَحبّ الخلق إليّ ، وإذا سألتني بحقّه فقد غفرت ولولا محمّد ما خلقتك.(3)
____________

 1 ـ الروم|47.

 2 ـ سنن ابن ماجة:1|256رقم 778، باب المساجد؛ مسند أحمد:3|21.

 3 ـ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لاَبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي:5|489، دار الكتب العلمية.


( 104 )

 ج. روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك انّه لما ماتت فاطمة بنت أسد حفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفر رسول اللّه بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول اللّه فاضطجع فيه، وقال: اللّه الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لاَُمّي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والاَنبياء الذين من قبلي، فانّك أرحم الراحمين.(1)

 إلى هنا تم البحث عن أقسام التوسل الثلاثة وعرفت انّ الجميع يدعمه الكتاب والسنة وتصور انّ التوسل بغيره سبحانه تأليه وعباده لغيره قد عرفت بطلانه وذلك لوجهين:

 الوجه الاَوّل: لو كان التوسل بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذاته أو حقّه شركاً يلزم أن يكون كلّ توسل كذلك حتى التوسل بالغير في الاَُمور العادية مع أنّه باطل بالضرورة، لاَنّ الجميع من قبيل التوسل بالاَسباب، عادية كانت أو غير عادية، طبيعيةً كانت أو غير طبيعية.

 الوجه الثاني: قد عرفت في تعريف العبادة انّه الخضوع أمام الغير بما هو إله أو ربّ أو مفوض إليه أُموره سبحانه، وليس واحد من هذه القيود متحّققاً في التوسل بالاَنبياء والصالحين والشهداء بل يتوسل بهم بما انّهم عباد مكرمون يستجاب دعاوَهم عند اللّه سبحانه، أو انّ لذواتهم وحقوقهم منزلة عند اللّه، فالتوسل بهم يثير
____________

 1 ـ معجم الطبراني الاَوسط: 356 ؛ حلية الاَولياء:3|121؛ مستدرك الحاكم: 3|108.


( 105 )

بحار رحمته.

 كيف يكون التوسل بنبي التوحيد(صلى الله عليه وآله وسلم) شركاً مع أنّه يتوسل به بما انّه مكافح للشرك ومقوض لدعائمه؟

د. التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين بعد رحيلهم

 من أقسام التوسل الرائجة بين المسلمين هو التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحين بعد رحيلهم .

 ولكن ثمة سوَالاً يطرح نفسه وهو:

 انّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حياً يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو اللّه سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سوَالك، أمّا إذا كان المستغاث ميتاً انتقل من هذه الدنيا فكيف يصحّ التوسل بمن انتقل إلى رحمة اللّه وهو لا يسمع؟

 والجواب: انّ الموت ـ حسب ما يوحي إليه القرآن والسنّة النبوية ـ ليس بمعنى فناء الاِنسان وانعدامه، بل معناه الانتقال من دار إلى دار وبقاء الحياة بنحو آخر والذي يعبر عنه بالحياة البرزخية.

 


( 106 )

وتدل على بقاء الحياة آيات من الذكر الحكيم نقتصر على بعضها:

الآية الاَُولى:

 قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْأَحْياءٌ وَلكِنْلا تَشْعُرُونَ) .(1)

 وقد كان المشركون يقولون: إنّ أصحاب محمّد يقتلون أنفسهم في الحروب دون سبب، ثمّ يقتلون ويموتون فيذهبون، فوافى الوحي رداً عليهم بأنّه ليس الاَمر على ما يقولون، بل هم أحياء وإن كان المشركون وغيرهم لا يدركون ذلك.

الآية الثانية

 قوله تعالى: 1. (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون) .

 2. (فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) .

 3. (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَإِنَّ اللّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُوَْمِنينَ) .(2)
____________

 1 ـ البقرة|154.

 2 ـ آل عمران|169ـ 171.


( 107 )

والآيات هذه صريحة في بقاء الاَرواح بعد مفارقتها الاَبدان، وبعد انفكاك الاَجسام و بلاها، كما يتضح ذلك من الاِمعان في المقاطع الاَربعة التالية:

 1. (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

 2.(يُرْزَقُونَ) .

 3. (فَرِحينَ) .

 4. (وَيَسْتَبْشِرُونَ) .

 والمقطع الثاني يشير إلى التنعم بالنعم الاِلهية، والثالث والرابع يشير إلى النعم الروحية والمعنوية، وفي الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة.

 وقد نزلت الآية: إمّا في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الاَنصار وستة من المهاجرين، وإمّا في شهداء أُحد وكانوا سبعين رجلاً، أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبد اللّه بن جحش وسائرهم من الاَنصار، وعلى قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين.

الآية الثالثة

 قوله سبحانه: (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَومِ اتَّبِعُوا المُرْسَلينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَمالِيَ لا


( 108 )

أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون* ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ* إِنّي إِذاً لَفي ضَلالٍ مُبينٍ* إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ* وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ*إِنْ كانَتْ إِلاّصَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ).(1)

 اتفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رسل عيسى (عليه السلام) ، وقد نزلوا بأنطاكيا داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غيره سبحانه، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في نفس السورة.

 فبينما كان القوم والرسل يتحاجون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى اللّه سبحانه وقال لهم:

 إتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الاَجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم مهتدون إلى طريق الحقّ، سالكون سبيله، ثمّ أضاف قائلاً:

 ومالي لا أعبد الذي فطرني وأنشأني وأنعم إليّ وهداني وإليه ترجعون عند البعث، فيجزيكم بكفركم أتأمرونني أن أتخذ آلهة من دون اللّه مع أنّهم لا يغنون شيئاً ولا يردون ضرراً عني، ولا تنفعني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذونني من الهلاك والضرر، وعندما مهَّد السبيل
____________

 1 يس|20ـ 29.


( 109 )

إلى إبطال مزاعم المشركين وبيان سخافة منطقهم، فعندئذٍ خاطب الناس أو الرسل بقوله: (انّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون) فسواء أكان الخطاب للمشركين أو للرسل فإذا بالكفار قد هاجموه فرجموه حتى قتل.

 ولكنّه سبحانه جزاه بالاَمر بدخول الجنّة، بقوله: (قيلَ ادخُل الْجَنّة) ثمّ هو خاطب قومه الذين قتلوه، بقوله: (قالَ يا لَيْتَ قَومي يعلَمُون* بِما غَفَر لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمين) .

 ثمّ إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلاً حتى أرسل جنداً من السماء لاِهلاكهم، يقول سبحانه:(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَومِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزلينَ*إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) .

 أي: كان اهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر، وهي صيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم، فإذا هم خامدون ساكتون.

 ودلالة الآية على بقاء النفس وإدراكها وشعورها وإرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا من الوضوح بمكان، حيث كان دخول الجنّة: (قيل ادخُل الجَنّة ) والتمني (يا لَيْتَ قَومي) كان قبل قيام الساعة، والمراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الاَُخروية.

 إلى هنا تمّ بيان بعض الآيات الدالة على بقاء أرواح الشهداء


( 110 )

الذين بذلوا مهجهم في سبيل اللّه.وثمة طائفة من الآيات تدل على بقاء أرواح الكفار بعد انتقالهم عن هذه الدنيا،مقترنة بألوان العذاب، وهناك طائفة أُخرى من الآيات تدل على بقاء الروح بعد رحيل الاِنسان الموَمن والكافر من هذه الدار، ولنذكر هذه الآيات على وجه الاِيجاز:

 1.(النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشدَّ الْعَذاب) .(1)

 تدل الآية بوضوح على أنّآل فرعون يُعرضون على النار قبل قيام الساعة غدوّاً وعشيّاً، كما انّهم بعد قيامها يُدخلون أشدّ العذاب، فعذابهم قبل الساعة غير عذابهم بعدها، وهو دليل صريح على حياة تلك الطغمة.

 2. (مِمّا خَطيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَادْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِأَنْصاراً) .(2)

 تدل الآية على أنّ قوم نوح اغرقوا أوّلاً فادخلوا ناراً، ولم يجدوا لاَنفسهم أنصاراً وليست هذه النار، نار يوم القيامة بشهادة انّه سبحانه يقول:(فادخلوا ناراً) وهو يدل على تحقق الدخول بلا فاصل زمني بعد الغرق ولو أُريد نار يوم الساعة لكان الاَنسب أن يقول«فيدخلون ناراً».

 
____________

 1 ـ غافر|46.

 2 ـ نوح|25.


( 111 )

3. (حَتّى إِذاجاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَرَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلّي أَعْمَلُ صالِحاً فيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْم يُبْعَثُون) .(1)

 إنّ الكافر حينما يواجه الموت يجد مستقبل حياته مظلماً وكأنّه يشاهد العذاب الاَليم بأم عينه بعد موته فيتمنّى الرجوع إلى الحياة الدنيا، فيجاب بـ (كَلاّ) وما يشاهده ليس إلاّ عذاباً برزخياً لا عذاباً أُخروياً ولذلك يقول سبحانه (وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوم يُبْعَثُون) .

 هذه الآيات وغيرها تعرب عن بقاء الحياة بعد الانتقال عن نشأة الدنيا، وإن أطلق الموت عليه فإنّما هو باعتبار انتهاء أمد حياته الدنيوية و اندثار بدنه وأمّا روحه ونفسه فهي باقية بنحو آخر تتنعم أو تعذَّب.

الصلة بين الحياتين: الدنيوية والبرزخية

 ربما يمكن أن يقال: انّالآيات دلت على كون الشهداء والاَولياء بل الكفار أحياء، ولكن لا دليل على وجود الصلة بين الحياتين وانّهم يسمعون كلامنا، وهذا هو الذي نطرحه في المقام ونقول:

 دلّ الذكر الحكيم على وجود الصلة بين الحياة الدنيوية والبرزخية بمعنى انّ الاَحياء بالحياة البرزخية يسمعون كلامنا
____________

 1 الموَمنون|99ـ 100.


( 112 )

ويشاهدون أفعالنا، وليسوا بمنقطعين تمام الانقطاع عن الحياة الدنيوية وإليك شواهد من الآيات:

 1. قال سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمينَ* فَتَولّى عَنْهُمْ وَقالَيا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصحينَ).(1)

 نزلت الآيات في قصة النبي صالح حيث دعا قومه إلى عبادة اللّه وترك التعرض لمعجزته (الناقة) وعدم مسِّها بسوء، ولكنّهم بدل ذلك فقد عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم فعمَّهم العذاب فأصبحوا في دارهم جاثمين، فعند ذلك عاد النبي صالح يخاطبهم وهم هلكى، بقوله: (فَتَولى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحينَ) .

 وقد صدر الخطاب من النبي صالح (عليه السلام) بعد هلاكهم وموتهم، بشهادة قوله: (فتَولّى عَنْهُم) في صدر الخطاب المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.

 فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين لما خاطبهم النبي صالح بهذا الخطاب.

 2. قال سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ
____________

 1 الاَعراف|78ـ 79.


( 113 )

جاثِمينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرينَ* فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَومٍ كافِرينَ) .(1)

 وقد وردت هذه الآية في حقّ النبي شعيب (عليه السلام) ودلالة الآية كدلالة سابقتها، حيث يخاطب شعيبُ قومَه بعد هلاكهم، فلو كانت الصلة مفقودة ولم يكن الهالكون بسبب الرجفة سامعين لخطاب نبيهم، فما معنى خطابه لهم؟

 3. قال سبحانه: (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ الِهَةً يُعْبَدُونَ).(2)

 ترى انّه سبحانه يأمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بسوَال الاَنبياء الذين بعثوا قبله وأمّا مكان السوَال فلعلّه كان في ليلة الاسراء.

السنة الشريفة والصلة بين الحياتين

 ثمة روايات متضافرة بل متواترة تدل على وجود الصلة بين الحياتين، وجمع هذه الروايات بحاجة إلى تأليف كتاب مفرد.

 ونكتفي هنا بالحديث المتفق عليه بين المسلمين وهو تكليم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أهل القليب.

____________

 1 الاَعراف|91ـ 93.

 2 ـ الزخرف|45.


( 114 )

 لقد انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين وهزيمة المشركين قتل منهم قرابة سبعين من صناديدهم وساداتهم وطرحت جُثث قتلاهم في القليب، فوقف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطبهم واحداً تلو الآخر، ويقول: يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، يا أُمية بن خلف، يا أباجهل، و هكذا عدَّ من كان منهم بالقليب، وقال: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً فانّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً ؟!

 فقال له أصحابه: يا رسول اللّه أتنادي قوماً موتى؟!

 فقال (عليه السلام) : ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

 يقول ابن هشام بعد هذا النقل: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذَّبتموني وصدَّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.

 ثمّ قال: هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّاً ؟!.(1)

 أخرج البخاري : عن نافع انّ ابن عمر أخبره، قال: اطّلع النبي (عليه السلام) على أهل القليب، فقال: وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً؟!

 فقيل له: ندعوا أمواتاً، فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون.(2)

____________

 1 ـ السيرة النبوية :1|649؛ السيرة الحلبية:2|179و180.

 2 ـ صحيح البخاري: 9|98، باب ما جاء في عذاب القبر من كتاب الجنائز.


( 115 )

 وأخيراً نقول: إنّجميع المسلمين ـ على الرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين ـ يسلمون على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة عند ختامها ويقولون:

 «السّلام عليك أَيُّها النَّبيّ ورَحمة اللّه وبركاته».

 وقد أفتى الاِمام الشافعي وآخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد، وأفتى الآخرون باستحبابه، لكن الجميع متفقون على أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) علمهم السلام وانّ سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثابتة في حياته وبعد وفاته.(1)

 فلو انقطعت صلتنا بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بوفاته، فما معنى مخاطبته والسلام عليه يومياً؟!

سوَال و جواب

 لو كانت الصلة بيننا وبين من فارقوا الحياة موجودة فما معنى قوله سبحانه: (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتى(2)) وقوله سبحانه: (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُور ) .(3)

 والجواب : بملاحظة الآيات السابقة هو انّ المراد من الاِسماع، الاِسماع المفيد، ومن المعلوم انّسماع الموتى أو من في
____________

 1 ـ تذكرة الفقهاء:3|333، المسألة 294؛ الخلاف:1|47.

 2 ـ الروم|52.

 3 ـ فاطر|22.


( 116 )

القبور لا يجدي نفعاً بعدما ماتوا كافرين، وإلاّ فهذا هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول: «الميت يسمع قرع النعال» في حديث أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه حتى أنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيُقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: أشهد انّه عبد اللّه ورسوله إلى آخر ما نقل.(1)

 وقد مرّ انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يزور القبور، و يخرج آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السّلام عليكم دار قوم موَمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مأجلون وانّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لاَهل بقيع الغرقد.(2)

 اتّفق المسلمون على تعذيب الميت في القبر، أخرج البخاري عن ابنة خالد بن سعيد بن العاص انّها سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتعوذ من عذاب القبر، وأخرج عن أبي هريرة كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار.(3)

كلّ ذلك يدل على أنّ المراد من نفي الاسماع هو الاسماع المفيد. تحقيقاً لقوله سبحانه: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَ رَبِّ ارجِعُونِ* لَعَلّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ
____________

 1 ـ البخاري:الصحيح: 2|90، باب الميت يسمع خفق النعال.

 2 ـ صحيح مسلم:3|63، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز.

 3 ـ البخاري:الصحيح: 2|99، باب التعوذ من عذاب القبر من كتاب الصلاة.


( 117 )

وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَومِ يُبْعَثُون)(1) حيث إنّ الآية صريحة في ردّ دعوة الكفّار حيث طلبوا من اللّه سبحانه أن ُيُرجعهم إلى الدنيا حتى يعملوا صالحاً، فيأتيهم النداء«بكلا» فيكون تمنيهم بلا جدوى ولا فائدة كما انّ سماع الموتى كذلك، لا انّهم لا يسمعون أبداً، إذ هو مخالف لما مرّ من صريح الآيات والروايات.

هـ.طلب الشفاعة

 اتّفقت الاَُمّة الاِسلامية على انّ الشفاعة أصل من أُصول الاِسلام نطق به الكتاب والسنّة النبوية، وأحاديث العترة الطاهرة، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين وإن اختلفوا في بعض خصوصياتها.

 وأجمع العلماء على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الشفعاء يوم القيامة، إلاّ أنّ الكلام في المقام في طلب الشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل يجوز أن نقول: يا رسول اللّه اشفع لنا عند اللّه، كما يجوز أن نقول: اللّهمّ شفّع نبيّنا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) فينا يوم القيامة، أو لا يجوز؟ تظهر حقيقة الحال من خلال الوجوه التالية:

 الوجه الاَوّل: انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أو الولي (عليه السلام) في حقّ المذنب وإذا كانت هذه حقيقتَها فلا مانع من طلبها من الصالحين، لاَنّ غاية هذا
____________

 1 الموَمنون|99ـ 100.


( 118 )

الطلب هو طلب الدعاء، فلو قال القائل: «يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه» يكون معناه ادع لنا عند ربّك فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم؟

 والدليل على أنّ الشفاعة هو طلب الدعاء، ما أخرجه مسلم، عن عبد اللّهبن عباس، انّه قال: سمعت رسول اللّه يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلاّ شفّعهم اللّه فيه.(1) ي قُبل شفاعتهم فيه وليست شفاعتهم إلاّ دعاوَهم له بالغفران.

 وعلى هذا فلا وجه لمنع الاستشفاع بالصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء.

 الوجه الثاني: انّ سيرة المسلمين تكشف عن جواز طلب الشفاعة في عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده.

 أخرج الترمذي في سننه عن أنس قال: سألت النبي«صلى الله عليه وآله وسلم» أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قال: قلت يا رسول اللّه فأين أطلبك؟ فقال: اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط.(2)

 نقل ابن هشام في سيرته: انّه لما توفّي رسول اللّه«صلى الله عليه وآله وسلم» كشف أبو بكر عن وجهه و قبله، وقال: بأبي أنت و أُمّي أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً.(3)

____________

 1 ـ صحيح مسلم:3|53، باب من صلّى عليه أربعون شفعوا فيه من كتاب الجنائز.

 2 ـ سنن الترمذي:4|621، كتاب صفة القيامة.

 3 ـ السيرة النبوية: 2|656، ط عام 1375هـ و هو يدل على وجود الصلة بين الاحياء والاَموات وقد جئنا به لتلك الغاية.


( 119 )

وقال الرضي في نهج البلاغة: لما فرغ أمير الموَمنين (عليه السلام) من تغسيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال كلاماً و في آخره : بأبي أنت و أُمّي طبت حياً وطبت ميتاً أذكرنا عند ربّك.(1)

انّ كلام الاِمام يدلّ على عدم الفرق في طلب الشفاعة من الشفيع في حين حياته وبعد وفاته، وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته.

 وتصور انّ طلب الشفاعة من الشفيع الواقعي شرك تصور خاطىَ، فانّ المراد من الشرك في المقام هو الشرك في العبادة، وقد علمت انّمقومه هو الاعتقاد بأُلوهية المدعوّ أو ربوبيته أو كون مصير العبد بيده، وليس في المقام من ذلك شيء.

 إنّ طالب الشفاعة من الشفعاء الصالحين ـ الذين أذن اللّه لهم بالشفاعة ـ إنّما يعتبرهم عباداً للّه مقربين لديه، وجهاء فيطلب منهم الدعاء، وليس طلب الدعاء من الميت عبادة له، وإلاّلزم كون طلبه من الحي عبادة لوحدة واقعية العمل.

 وقياس طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بطلب الوثنيين الشفاعةَ من الاَصنام قياس مع الفارق، لاَنّ المشركين كانوا على اعتقاد بأُلوهية معبوداتهم وربوبيتها، و أين هذا من طلب الموحد الذي لا يراه إلهاً ولا ربّاً ولامن بيده مصير حياته؟! وإنّما تعتبر الاَعمال بالنيات لا بالصور والظواهر.

 
____________

 1 ـ نهج البلاغة: رقم الخطبة 23.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net