متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
قرار إباحة كتابة و رواية سنة الرسول
الكتاب : أين سنة الرسول و ماذا فعلوا بها ؟    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

قرار إباحة كتابة ورواية سنة الرسول ! !

بعد مضي مائة عام على منع الخلفاء لكتابة ورواية سنة الرسول ، لاح لهم أنها قد انقرضت أو أنها في طريقها إلى الانقراض ، وأن تأثيرها في المجتمع الإسلامي قد انعدم أو كاد وبعد أن انحصر دورها في

 

( 1 ) تذكرة الحفاظ ج 1 ص 5 ، وكنز العمال ج 10 ص 285 تجد تحريف أبي بكر للسنة التي كتبها بنفسه والطبقات ج 5 ص 140 ، وراجع الاعتصام بحبل الله المتين ج 1 ص 30 ، وتدوين السنة الشريفة ص 264 .
( 2 ) تذكرة الحفاظ ج 1 ص 2 - 3 ، والأنوار الكاشفة ص 53 ، وتدوين السنة ص 423 .
( 3 ) كنز العمال ج 10 ص 291 ، وراجع البحوث السابقة تحت عنوان " منعهم لكتابة ورواية سنة الرسول ، قبل استيلائهم على منصب الخلافة ، وبعد استيلائهم عليه . !!!
( * )

 
 

- ص 364 -

العبادات ، أو تجميل الواقع المر ، أو تثبيت سلطة الخلفاء ، أو تبرير سنتهم أدرك أفضل خلفاء بني أمية ، خطورة نسيان سنة الرسول ، وحجم الدمار الذي لحق بها نتيجة سنة الخلفاء المستقرة على منع كتابة ورواية سنة الرسول ، وقد عبر الخليفة الأموي عن هذه المخاوف بأمره الذي وجهه إلى واليه على المدينة أبو بكر الحزمي بقوله " أن انظر ما كان من أحاديث رسول الله أو سنته فاكتبه لي فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء " ( 1 )

قال أبو ريا " ويبدو أنه لما عاجلت المنية عمر بن العزيز ، توقف ابن حزم عن كتابة سنة الرسول خاصة بعد أن عزله يزيد بن عبد الملك سنة 101 ه‍ ، وتوقف الذين ساعدوا أبا بكر بن حزم أيضا وفترت حركة التدوين ، وعندما تولى هشام بن عبد الملك جد في هذا الأمر ابن شهاب الزهري ، ثم شاع التدوين في الطبقة الأولى التي تلت طبقة الزهري وكان ذلك بتشجيع العباسيين ( 2 ) .

ويمكنك القول : إن تدوين سنة الرسول وروايتها قد بدأ عام 113 ه‍ ، أي أن منع الخلفاء لكتابة ورواية سنة الرسول قد استمر قرابة مائة عام وبعد أن أباح عمر بن عبد العزيز كتابة ورواية سنة الرسول بدأ عهد جديد وهو عهد إباحة كتابة ورواية سنة الرسول ، وما زالت الإباحة سارية حتى يومنا هذا ولولا عمر بن عبد العزيز لكان من الممكن أن تبقى سنة الخلفاء المتعلقة بمنع كتابة ورواية سنة الرسول حتى يومنا هذا ! ! !

قال الشيخ مصطفى عبد الرزاق " أما أول تدوين لسنة الرسول بالمعنى الحقيقي فيقع ما بين سنة 120 ه‍ وسنة 150 هـ " ( 3 ) .

 

( 1 ) موطأ مالك ومعالم المدرستين ج 2 ص 44 وكتابنا الخطط السياسية ص 143 ، وأضواء على السنة المحمدية ص 260 .
( 2 ) أضواء على السنة المحمدية ص 260 النص من الذاكرة .
( 3 ) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص 195 - 198 ، وأضواء على السنة المحمدية ص 261
 . ( * )

 
 

- ص 365 -

مقاومة قرار إباحة كتابة وتدوين سنة الرسول يبدو أن قرار الخليفة عمر بن عبد العزيز بإباحة كتابة وتدوين سنة الرسول ، لم يشق طريقه إلى أسماع المسلمين فجأة ، وإلا لأحدث هزة هائلة في المجتمع الإسلامي لقد بدأ القرار بأمر موجه من خليفة إلى والي إحدى أقاليمه ، فشق القرار طريقه إلى أسماع المسلمين بالتراضي ، وعلى فترت ، وهذا ما سهل عليهم ابتلاع " الصدمة " الناتجة عن هذا القرار ، فضلا عن ذلك فإن عمر بن عبد العزيز كان من أنبل وأشرف خلفاء بني أمية ، لذلك وجد طريقه إلى قلوب الناس ، وهنالك قول لا أدري إن كان شائعة أم حقيقة مفاده أن بين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز قرابة رحم ! ! !

هذه الحقيقة أو الشائعة رفعت أسهم عمر بن عبد العزيز إلى السماء ! ! وتصورت الجموع التي أضناها هوى الخليفة أن هذه القرابة هي سر عظمة عمر بن عبد العزيز ! ! ! هي أسباب حالت بين المسلمين وبين الثورة على عمر بن عبد العزيز لأنه قد تجرأ وانتهك سنة من سنن الخلفاء الراشدين المتمثلة " بمنع كتابة ورواية سنة الرسول " لقد تساءل المسلمون بالفعل كيف يأمر عمر بن عبد العزيز بشئ نهى عنه أبو بكر وعمر وعثمان ! ! ! ولولا الأسباب التي ذكرناها آنفا لكان للمسلمين مع عمر بن عبد العزيز شأن آخر ! ! ولولا الخوف من بطش الدولة وسطوتها لما انصاع المسلمون لقرار عمر بن عبد العزيز المخالف لسنة الخلفاء الراشدين ! ! لقد استجابوا للأمر الجديد ، مكرهين كارهين ! ! ! لأن قلوبهم قد أشربت بسنة الخلفاء الراشدين ! ! ! .

فقد حدث معمر بن الزهري أنه قال " كنا نكره كتابة العلم ، حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء " ( 1 ) .

قال أبو المليح : كان هشام بن عبد الملك

 

( 1 ) أضواء على السنة المحمدية ص 262 ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ف 2 ص 135 وتقييد العلم للخطيب البغدادي ص 207  . ( * )

 
 

- ص 366 -

هو الذي أكره الزهري على كتابة الأحاديث ، فكان الناس يكتبون بعد ذلك ، قال الزهري : " استكتبني الملوك فاكتبتهم ، فاستحيت الله إذ كتبتها للملوك ألا أكتبها لغيرهم " ( 1 ) .

ويبدو أن بعض خلفاء بني أمية وأعوانهم قد مهدوا بغير قصد الطريق لقرار عمر بن عبد العزيز ، وأنهم قد استحسنوا فكرة الكتابة ، في كتب ، ويروى أن معاوية قد استقدم عبيد بن سارية من صنعاء فكتب له كتاب " الملوك والأخبار الماضية " وأن وهب بن منبه ، والزهري ، وموسى بن عتبة قد كتبوا في ذلك أيضا فصارت الرغبة بكتابة بعض الكتب تقليعة من تقليعات البلاط الأموي ، ولكن هذه التقليعة كانت تمارس وسط قصور الخلفاء أو داخل أسوارها ، ولم تكن علنية ! ! وهذا يعني أن القرار الذي أصدره عمر بن عبد العزيز لم يبح رسميا كتابة ورواية سنة الرسول فحسب ، بل أباح كتابة ورواية العلوم كلها ! ! ! .
 

تقدير قرار عمر بن عبد العزيز بإباحة كتابة ورواية سنة الرسول

لقد نقل قرار الخليفة عمر بن عبد العزيز الغالبية العظمى من المسلمين من حالة إلى حالة أخرى مناقضة لها تماما ، ومن نمط تفكير إلى نمط تفكير آخر ، ففي وقت من الأوقات كانت الأغلبية الساحقة جدا من الأمة تتقرب إلى الله ورسوله ، بحرق ومحو وغسل سنة الرسول المكتوبة ، والامتناع عن رواية أي شئ عن رسول الله والنفور من الكتب والتأليف اقتداء بسنة أبي بكر وعمر . صحيح أن الإمام عليا والقلة المؤمنة قد قاوموا ذلك ، وحكموا بعدم

 

( 1 ) أضواء على السنة المحمدية ص 163 كما نقلها عن تاريخ آداب اللغة العربية ص 72  . ( * )

 
 

- ص 367 -

شرعيته ، وقاموا بجهد معاكس لسنة الخليفتين ، فحثوا المسلمين على كتابة ورواية سنة الرسول ، وعلى تدوين كل أقسام العلوم ، وأنهم قد احتفظوا بكتبهم ، ولم يسلموا الخلفاء سنة الرسول المكتوبة عندهم ، لكنها كانت مجهودات محدودة الأثر أمام طاقات دولة الخلافة وإمكانياتها ، ونفوذها ، لقد طغى جهد الدولة على جهد الإمام علي والفئة القليلة المزمنة ، لأن الناس مع من غلب حسب سنة الخلفاء ، وعندما آلت الخلافة إلى الإمام علي ، وجه جهده وعنايته نحو نشر سنة رسول الله ، لكن من الناحية الواقعية لم يكن مع الإمام علي إلا القلة المؤمنة ، أما الأكثرية الساحقة فقد كانت تتدين لسنة الخلفاء ، وبالتالي لم تصغ للإمام علي ، لأن الإمام عليا كان منذ اليوم الذي توفي فيه رسول الله وحتى اليوم الذي تولى فيه الخلافة كان من الناحية العملية قيد الإقامة الجبرية ، ومعزولا عن المسلمين هو وأهل بيته ، وكذلك القلة المؤمنة ، فضلا عن ذلك فإن كل الولاة والعمال والأمراء وموظفي دولة الخلافة كانوا من الكارهين للإمام علي بن أبي طالب ولأهل بيت النبوة ومن والاهم ، كان الإمام مدركا عندما تولى الخلافة أن الأغلبية الساحقة من الأمة معبأة من قديم ضده ، وأن كلمته غير مسموعة عندهم ، ولو كانت هذه المعوقات قد اعترضت غير الإمام علي لما استطاع أن يصمد في منصب الخلافة لأكثر من ساعة واحدة ، لكن الإمام عليا طراز خاص من البشر ، والقلة المؤمنة التي التفت حوله ، وصدقته الولاء كانت من أنبل بني البشر ! !

كان الإمام عليا يعلم بأن صوته في هذه الظروف غير مسموع عند الأغلبية الساحقة من الأمة التي كانت تتعبد بسنة الخلفاء ، فضلا عن تلك الحرب القذرة التي شنها على الإمام علي أعداء الله السابقون بقيادة معاوية ، لقد استهلكت هذه الحرب الجزء الأعظم من اهتمام الإمام ولأن الإمام عليا كان يعلم طبيعة دين الأكثرية فقد لجأ لأسلوب المناشدة كما فعلنا سابقا حيث يسأل المتواجدين معه بالله أن من سمع رسول الله يقول كذا ، أو كذا فليقف كانت أخبار هذه المناشدات . تنتشر لدى الأكثرية لكن

- ص 368 -

أسماعها وقلوبها كانت مغلقة دون الإمام ، وبعد عشرات السنين صار الناس يتذاكرون بمثل هذه المناشدات صحيح أن فترة حكم الإمام كانت مشعلا مضيئا وسط ليل بهيم في هذه الناحية ، وصحيح أيضا أن الإمام الحسن ، والإمام الحسين ، والإمام علي بن الحسين ، والإمام محمد بن علي ، ومن وإلى أهل بيت النبوة قد ساروا على نهج الإمام علي الهادف لتدوين سنة الرسول ونشرها ، وتدوين العلوم قاطبة ، وصحيح أيضا أنه كان هذا الجهد الدؤوب المتواصل آثاره ، ولكن هذه الآثار كانت مقتصرة على الخواص أما العوام وهم الأكثرية الساحقة من الأمة ، فلم يكن لهذا الجهد الدؤوب المخلص أثر يذكر عليهم ! ! !

لقد وضع عمر بن عبد العزيز حجر أساس التأثير على الأكثرية الساحقة من الأمة ، واجتاز حاجز الخوف ، وتبني وبكل رجولة قرارا حكوميا مخالفا بالكامل ومناقضا لسنة الخلفاء الراشدين ! ! ولم يتكتم على هذا القرار بل أعلنه ، ودافع عنه ، فظهر بصورة القرار المنطقي الصادر عن الدولة لغايات التنفيذ فاختلط الدفاع عن القرار بالدفاع عن هيبة الدولة ، وهذا ما سهل على الخلفاء اللاحقين مهمة إكراه الأغلبية على قبوله بسطوة الدولة وقوتها ونفوذها لأن الأغلبية لا تفهم غير لغة الإكراه والتغلب ، صحيح أن الأكثرية قد احتاجت لمدة ثلاثين سنة حتى تستوعب القرار ، لكن آلية الدولة أكرهتها على الدخول من هذا الباب الذي فتحه عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فلولاه لبقي هذا الباب مغلقا مئات السنين ، وربما إلى يومنا هذا ، لأن سنة الخلفاء المتعلقة بهذا الأمر قد اختلطت بالدين والتاريخ والممارسة العملية ، وتحولت إلى عادة استقرت في النفوس ولكنها ليست كأية عادة ! ! لقد صارت عبادة بالفعل .

صحيح أن قرار منع كتابة ورواية سنة الرسول ، ومنع كتابة العلوم وتدوينها وكراهية الكتب ، قرار ليس له سند حقيقي من العقل أو الشرع أو

- ص 369 -

تاريخ بني البشر ومن المفترض أن يحمل هذا القرار بذور زواله السريع ، ولكن كم من قرارات خاطئة شذت عن هذه القاعدة ، وحكمت المجتمعات البشرية مئات بل آلاف السنين فظلت أعناقهم خاضعة لمثل هذه القرارات الخاطئة في ظلال تبريرات مختلفة ، وقد عبر القرآن الكريم عن مثل هذه العقلية ، بقوله ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) .

لقد كان قرار عمر بن عبد العزيز بالسماح بتدوين وكتابة سنة الرسول ، وكتابة العلم قرارا تاريخيا من كل الوجوه ، وقد سمح له وضعه وظروفه وسلطان سنة الخلفاء المستحكم في النفوس من تحقيق ذلك الأمر ، وبالتالي كان من المستحيل على غيره أن هكذا قرار ! .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net