متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
3 - الإمام الصادق عليه السلام و المذاهب الأربعة
الكتاب : نظرات في الكتب الخالدة    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب لأربعة
----------------------------- ص 42 -----------------------------

بسم الله الرحمن الرحيم
----------------------------- ص 43 -----------------------------

منذ أكثر من عشرين عاما استرعى التفاتي - وأنا أبحث في تاريخ التشريع الإسلامي والعلوم الدينية - الإمام جعفر الصادق سليل البيت النبوي الكريم ، وما كان له من شخصية عظمة في الفقه الإسلامي ، ومنزلة لا تجارى في عالم الفكر العربي ، وفي الجانب الروحي بصفة خاصة فوضعت في ذلك الوقت بحثا تناولت فيه جوانب من سيرته وعلمه ، ومنهجه الفكري والفقهي ، واستغرق ذلك مني قرابة ثمانين صفحة ثم عرضت الفكرة على أستاذنا المرحوم عبد الوهاب عزام وهو من النفر القليل المشهود لهم في نظري بالقدرة على الجمع بين أخلاق القدماء ومناهج المحدثين ولكن الأستاذ الوقور لم يكد يسمع بعنوان البحث حتى علت وجهه السمح بسمة خفيفة ، فهمت منها كل شئ . . .

فهمت أن هذه الشخصية - على الرغم مما تمثله من مكانة عظيمة - هي مما يهم علماء الشيعة أكثر مما يهم علماء السنة ، ولو كان ذلك البحث في مجال الجامعة ، التي يحب أن تكون أرحب صدرا مما تدعو إليه الطائفية المذهبية من تخصص ، أو تفرضه البيئة من مخططات محدودة ضيقة في مجال الفكر .

خامرتني هذه الفكرة أمدا طويلا ، وكدت أن أعيش فيها وأخرج بها إلى الناس في كتاب خاص ، أرادت أن يكون عنوانه ( جعفر الصادق ) : إمام العلماء الربانيين وأول المبعوثين من المجددين )

- ص 44 -

وعلى الرغم من كثرة ما كتبت وما حصلت من مراجع حول هذه الشخصية العظيمة منذ عام 1943 - فإن الدوافع البيئية والوجدانية لمن يعيشون حولي كانت تردني إلى الوراء وتحملني على اليأس أكثر مما تحملني على الكتابة والانطلاق في الموضوع .

وقد ضاعف من الزهد في إتمام ما بدأت ما قرأته من أبحاث مهلهلة هنا وهناك حول شخصية هذا الإمام ، فطويت صحافي وتركت الكتابة ، وتأبيت على التعليق والرد .

ولكن يأبى الله سبحانه إلا أن يظل الحق حقا ، وأن تكون قوته فوق طاقات الزمان وحواجز المكان وهكذا بعد عشرين عاما قضت أثر انقطاعي عن الكتابة حول هذه الشخصية الفذة ، تخللتها ألوان من التخطيط المنهجي ، وصور من الكتابات التي لا تقوم على أساس علمي ، طالعتنا الأقدار التي تأبى إلى أن تضع الحق في نصابه بمن يميط اللثام عن وجه الحق سافرا ، ويحمل السحب على الانقشاع بعد الذي طال من تلبد كان هذا الفتح الجديد في دراسة الإمام منذ عشرة أعوام حين خرج إلينا الباحث الأديب والعالم العراقي الحصيف الأستاذ أسد حيدر بالجزء الأول من كتابه ( الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ) والذي ثم نشره على ما يبدو في مقدمة الطبعة الأولى سنة 1375 ه‍ـ 1956 م ، فكان هذا الكتاب الجامع إيذانا بإنهاء مرحلة التخطيط حول سيرة الإمام الصادق ، كما كان نقطة الانطلاق التي عرفنا من وراثها الكثير عن تاريخ ( المذهب الجعفري ) ، وما بينه من المذاهب الفقهية الأربعة من صلات وروابط يجهلها الكثيرون من علماء هذه الأمة على الرغم مما حصلوه من ثقافات تاريخية وفقهية وفلسفية .

- ص 45 -

وأول ما يسترعي التفاتنا من هذا السفر الضخم شموله وسعة آفاقه واستيعاب أكثر جوانب هذه الشخصية العظيمة ، ولعل ذلك راجع إلى سعة اطلاع المؤلف ، فلا يكاد يرى رأيا لصاحب رأي حول شخصية الإمام إلا وأتى به ، ولا قضية تتصل بالموضوع من قريب أو بعيد إلا وساقها وناقشها في أسلوب أدبي أقرب ما يكون إلى الموضوعية والنهج الفني وأبعد ما يكون عن التحيز المسف والتعصب الأعمى .

وفي كتاب المؤلف واسترسالاته التحليلية حول هذا الموضوع - نلمس اتزان العالم الحصيف حين يهرع إلى كلمة ويفر بنفسه عن كل ما يشوه هذه الكلمة وإن من يقرأ صدر الجزء الأول من كتابه : ( الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ) يقف على عجالة دقيقة في الخلافة الإسلامية أرسلها المؤلف واضحة المعالم سافرة الأركان ، يقرأها القارئ فيخيل إليه أنه يعيش في هذه الحقبة من التاريخ إن هذا الأسلوب العلمي في علاج التاريخ الإسلامي خليق بأن ينال النقاد الحظوة من التقدير ، وخليق بأن يكون أساسا لما بعده من مؤلفات إننا في حاجة إلى دراسة التاريخ دراسة علمية ، وفي حاجة أشد إلى دراسة المذاهب السياسية والفقهية في صورة أعمق مما وصل في أيدينا لنقول للمحق أحققت وللمخطئ أخطأت ، وتشتد حاجتنا إلى هذه الدراسة حين نعلم عن يقين لا يقبل الشك والقدر الذي لعبته السياسة الأموية والسياسة العباسية في تصوير المذاهب الفقهية ، وحين نعلم عن يقين لا يقبل الشك مدى ما أصاب الشيعة من عنت ، واضطهاد في ظل هاتين الأسرتين الحاكمتين خلال ثمانية قرون كاملة

- ص 46 -

إن هذا الإحياء الصادق الذي يقوم به علماء الشيعة في صرح الثقافات الإسلامية يعتبر في نظري إنعكاسا لهذه الثورة النفسية التي أشعلت نيرانها السياسية الأموية والعباسية في نفوس شيعة الإمام علي والأئمة من بعده ولقد كان اضطهاد هذه الشيعة بالقدر الذي خامر أعماق الإيمان واستقر في النفوس بحيث توارثه هؤلاء الشيعة في معارج التاريخ كلها وامتزج منهم بالدم واللحم امتزاج الإيمان الصادق في نفوس المؤمنين فالشيعة - من هذه الناحية بالذات - مؤمنون عقائديون ، وليس إيمانهم من هذا النوع العميق ، والمسلك العقائدي الذي يحياه الشيعة في كل قرن هو - وحده - سر هذا النشاط الملحوظ في دعوتهم ، وهو أيضا سر الانبثاقات المتلاحقة في مؤلفاتهم ، وهذا الطريق الذي نلمسه في كتاباتهم .

ولو شئنا أن ننصف المؤلف فيها كتبه عن ( الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ) لاستوعب ذلك منا مجلدا ، فقد أصدر المؤلف من هذا الكتاب ستة أجزاء كاملة مهد في أولها للتاريخ الإسلامي والأدوار التي لعبها في خلق الأحداث المؤثرة في كيان المذاهب الفقهية ، وكيف كانت حياة الإمام الصادق منها ، وأين كان يقف المذهب الجعفري ، ثم مدى تأثيره في المذاهب الأربعة ومدى ما بينه وبينها من خلافات أكثرها في الفروغ ، وقليل منها في الأصول نعم لو أردنا أن ننصف المؤلف فيها أطرف به مكتبة التاريخ ، وفيها أطراف به مكتبة الفقه لاستوعب منا ذلك قرابة المجلد الكامل . . ولكننا نكتفي من هذا القدر العظيم بالإشارة السريعة التي ترسم بعض معالم هذه الصورة

- ص 47 -

العلمية عن الإمام الصادق ، معبرين فيها عن مشاعرنا إزاء هذا النهج القويم الذي سلكه المؤلف في سفره الضخم .

ولعل أروع ما يستوقف النظر ويطمئن الناقد على ما بلغه المؤلف من توفيق في هذا الكتاب إرساؤه القواعد في مشكلة الخلافة التي أشرت إليها آنفا ، وأنا - في هذا الصدد - أوافق المؤلف أن المشكلة بدأت في خلافة عثمان حين انتهز بنو أمية خلافته فعبثوا بمصائر البلدان الإسلامية ولكني كنت أود أن يبدأ حديث الخلافة ومشكلتها في الصور الجذرية التي بدأت بانتقال الرسول صلوات الله عليه إلى الرفيق الأعلى .

وقد أنصف المؤلف تاريخ الإمام ( علي ) حين صور المشاكل التي كانت تحيط خلافته من خروج أم المؤمنين ( عائشة ) إلى مؤامرات ( معاوية ) وعبثه بشخصيتين كبيرتين هما : ( طلحة ) و ( الزبير ) حين بايعهما لا لذاتهما ولا لسبقهما في الإسلام ، ولكن ليجعل منهما جسرا لمعارضته وموضوعا لبث أهوائه الشخصية ، إلى غير ذلك من المطالبة بدم عثمان ، وعلي برئ من هذا الدم .

وقد كانت هذه المشاكل من الكثيرة بالقدر الذي استعصى على فلاسفة التاريخ من عرب ومستشرقين ، فأخطأوا فهم شخصية ( الإمام علي ) ونزعوا عنه صفة السياسة واكتفوا بوصفه بالورع والزهد ولكن اجتهاد الإمام عليه السلام ونزوعه الشديد إلى منهج التوفيق بين الورع في الدين والصراحة في السياسة كان فوق مدارك هؤلاء المؤرخين وكم كنت أود أن يشير مؤرخنا البارع إلى مهاترات المستشرقين ، وضحالة تفكيرهم في إدراك معنى ( التكامل النفسي ) - كما أسميه - في شخصية ( الإمام علي ) وهو القدر

- ص 48 -

الذي أخطأ فيه ( جولد تسيهر ) وغيره ونحن نرى أن انتصار معاوية على الإمام إنما هو صورة من صور الثأر والتآمر التي نزع إليها الشرك بعد أن غلبه الإسلام ، فيه على حد تعبيرنا قصاص المتمسلمين وأدعياء الإسلام من المسلمين المؤمنين حقا . . وهم الذين قتلوا آباءهم وأجدادهم من أجل الحق وإعلاء كلمة الإسلام ولا أحب أن أطيل في التعليق على هذا الكتاب القيم الذي أعتبره دائرة معارف عامة وموسوعة قيمة في تاريخ المذهب الجعفري و المذاهب الفقهية لا غنى للباحثين عنه وأوثر في ختام هذه الكلمة أن أنوه بما كتبه المؤلف عن محمد بن إسماعيل البخاري وكتابه في الحديث وقد لاحظت في تعليق المؤلف على ( البخاري ) جانبين : ( جانب موضوعي وهو الذي تناول فيه المؤلف الأحاديث الموجودة في هذا الصحيح كما تناول أسانيدها ورجالها اجتهادي تحدث فيه المؤلف عن انصراف البخاري عن الأحاديث التي تروي في فضائل بيت النبوة .

أما الجانب الأول فنحن فيه على اتفاق تام ، ذلك لأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تدون في حياته إلا ما روي عن صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن ثم لا بد من أن يخضع الحديث سندا ومتنا للنقد النزيه ، فما وافق منه القرآن الكريم ، وروح السيرة النبوية العطرة ، جزمنا بصحته ، وما كان بعيدا عنهما صار موضع نظر ، وهنا يأتي - فقط الخلاف بين نقاد الحديث .

وأما الجانب الثاني - وهو الذي يتلخص - ظاهرا - في إعراض

- ص 49 -

البخاري عن الأحاديث المروية عن أئمة آل بيت النبوة فإني أرى فيه رأيا لا ألزم فيه أخي المؤلف ذلك أن هذا الإعراض عن أحاديث هؤلاء السادة هو من أفعال القلوب التي لا تستطيع الحكم عليها إلا بعد الاستقصاء التام ، وكما نستطيع أن نقول : إن أعراضه عن الأحاديث المروية عن الأئمة كان آتيا بدافع عدم التوثيق ، نستطيع - بلا شك ولا ريب - أن نقول : أنه امتنع عن روايتها خوفا وفرقا من حكام العباسيين الذين كانوا يناصبون آل محمد العداء وهو يعلم أنه لو روى عنهم لأهمل كتابه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لقضي عليه وقبر وهو في مهده .

فإذا كانت الشجاعة الأدبية قد تخطت الإمام البخاري فيما يتعلق بأحاديث فضائل آل محمد . . فإن ذلك لا يقضي على ما بذله من جهد ، ولا أقل من أن يقال في هذا الصدد : أنه اجتهد وأخطأ ، ولعل إهماله لهذا الجانب من الأحاديث كان درءا لما يخشاه من سطوة الحاكم ، فاكتفى من ذلك أن يقر بقلبه دون المشافهة باللسان والتسجيل بالقلم وذلك ما يطابق أضعف الإيمان هذا إن ثبت خوفه من حكام ذلك العصر - وإلا فإننا لا نستبعد أنه حاول الرواية عن رجال البيت النبوي ، واستعصى ذلك عليه بسبب ما كان يضربه الحكام حول أفراد هذا البيت من سياج منيع ، ليحولوا بينهم وبين اتصال طلاب العلم بهم ، ونحن نعرف مدى اضطهاد الحكام لهم و حقدهم عليهم وقصارى القول فإن إغفال البخاري لهذه الأحاديث لا يضعف من شأنها

- ص 50 -

ولا ينقص من قدرها وقد رواها أصحاب السنن ، كما أن ذلك - علميا - لا يصبح دليلا قاطعا على موقفه من الأئمة رضوان الله عليهم وإني لأرجو الله سبحانه أن يؤاتينا فنتصفح ما فاتنا من صفحات هذا الكتاب القيم ، متمنين لمؤلفه العلامة الأستاذ أسد حيدر ( 1 ) التوفيق والسداد في إتمام ما بدأ ، وإنا لمنتظرون .

 

( 1 ) من الأعلام والكتاب البارزين في العراق ومن أشهر المؤلفين في العالم الإسلامي يستهدف في كتاباته نشر الدعوة الإسلامية ، وهو من أعمدة الحوزة العلمية في جامعة النجف الأشرف - العراق وله عدة مؤلفات قيمة أشهرها كتابه الخالد ( الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ) الذي جسد فيه دور الإمام الصادق القيادي ، في النهضة العلمية ، والحضارة الإسلامية التي حمل لواءها بعد ذلك تلاميذه الفقهاء أصحاب المذاهب الإسلامية ، وتلاميذته المفكرون في الفلسفة الإسلامية ، والتجريبيون في الكيمياء والطبيعة ، وقد طبع هذا الكتاب طباعة أنيقة في ستة أجزاء لأول مرة في النجف الأشرف وتوالت طباعته في العراق ، ولبنان وإيران وقد أصبح الكتاب من مصادر الأبحاث التاريخية للتشريع الفقهي في أروقة الجامعات التي تعنى بالفقه الإسلامي المقارن كما أن له مؤلفات أخرى تمتاز بنفس المستوى العلمي ومن ذلك كتابه : ( الشيعة في قفص الاتهام ) وكتابه : ( مع الحسين في نهضته ) الذي صدر في عام 1395 ه‍ في لبنان ، وله ( مع العلوي الثائر ) وهو دراسة عن الثورات التي هي امتداد لثورة الإمام الحسين عليه السلام وقدم إلى الطبع في بيروت ، وله الجزء السابع من كتابه الخالد ( الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ) سوف يقدم إلى المطبعة إن شاء الله


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net