متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
تفسير ثالث في بيان حقيقة الإقرار في الآيات
الكتاب : الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني    |    القسم : مكتبة رد الشبهات

تفسير ثالث في بيان حقيقة الإقرار في الآيات

فتجد في كلمات بعض المفسرين رأيا ثالثا لا يتعارض مع القول بأن مشركي قريش أشركوا في الربوبية ، خلاصته أن الآية تتحدث عن نوع معين من المشركين ممن عبد الآلهة التي زعموا أنها بنات الله لقصد التقرب إلى الإله الأكبر ، مقابل أن النوع الآخر الذين عبدوها لأنها تضر وتنفع لقدراتها الذاتية فاتخذوها أربابا ، وهذه الآيات

116 ...................................................................... الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني

تتحدث عن النوع الأول ، فهذا الرأي يوافق الرؤية الوهابية فيما تقول من أنه إقرار حقيقي بتوحيد الله في الخالقية والتدبير ، ولكن لا يوافقها في أنها عقيدة كل مشركي العرب بل العكس هي عقيدة الأقل كما سيظهر من بعض العبارات وجل العرب كان مشركا في الربوبية يعبد الأصنام لأنه يراها تضر وتنفع في نفسها ولقدراتها الذاتية .

الارتباط بين آيات الإقرار وآية الزلفى
فلا شك بوجود البعض المختلف في تفاصيل عقائده الشركية ، ولا شك بأن قوله تعالى ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر / 3-4 حديث عن بعض تلك العقائد الخاصة لبعض العرب لا كلهم ، هذا إن كانت المقولة المذكورة في الآية واقعية وليست كذبا صدر من القائل بسبب إحراج نبع من إشكال أراد التخلص منه بهذا الجواب أي قوله ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) كما هو الراجح .

وصريح كلمات بعض المفسرين بأن الآية الأخيرة هي قول بعض المشركين ، قال ابن عطية : " وهذه مقالة شائعة في العرب يقول كثير منهم في الجاهلية : الملائكة بنات الله ونحن نعبدهم ليقربونا ... ... وكأن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته " (1) ، وقال في آية الشفعاء : " وقولهم ( هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا ) هو مذهب النبلاء منهم " (2) .

وفي الخبر الذي رواه السيوطي عن ابن جرير تصريح بأن هذا قول عدد محدود من قبائل العرب ، قال : " وأخرج ابن جرير من طريق جويبر عن ابن عباس ( رض )

 

(1) المحرر الوجير ج14 ص 59 .

(2) المصدر السابق ج9 ص 21 .  
 

117 ...................................................................... الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ) قال : أنزلت في ثلاثة أحياء عامر وكنانة وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون : الملائكة بناته ، فقالوا ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) " (1) .

وقال المسعودي : " وكان من العرب من أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم وأقر بالبعث والإعادة وأنكر الرسل وعكف على عبادة الأصنام ، وهم الذين حكى الله عز وجل قولهم ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ، وهذا الصنف هم الذين حجوا إلى الأصنام وقصدوها ، ونحروا لها البدن ونسكوا لها المناسك وأحلوا وحرموا " (2) .

قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) الزخرف / 45 : " ( يُعْبَدُونَ ) لنفي أن يكون الله يرضى بعبادة غيره فضلا عن أن يكون غيره إلها مثله وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام وكانوا في عقائدهم أشتاتا ، فمنهم من يجعل الأصنام آلهة شركاء لله ، ومنهم من يزعم أنه يعبدهم ليقربوه من الله زلفى , ومنهم من يزعمهم شفعاء لهم عند الله ، فلما نفى بهذه الآية أن يكون جعل آلهة يعبدون أبطل جميع هذه التمحلات " (3) .

وينبغي أن نفصل الحديث عن هذه الآية أكثر لأنه كثيرا ما ينظر لها على أنها تسند الرأي القائل بأن المشركين وحدوا الله في الربوبية وتتلاءم مع الآيات التي ظاهرها إقرار المشركين والتي شكلت أساسا للرؤية الوهابية ، بل أعتقد بأن كثيرا من السابقين ذهب إلى هذا الرأي بسبب انضمام هذه الآية إلى الآيات التي يقر فيها المشركون

 

(1) الدر المنثور ج7 ص 211 .

(2) تاريخ المسعودي ج1 ص 439 . (3) التحرير والتنوير ج25 ص 262 - 263 .  
 

118 ...................................................................... الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني

بخالقية الله ، مع التنبيه على أن الآية وبلا شك تتحدث عن المشركين المعتقدين بوجود أبناء لله لأن الآية التالية هي قوله تعالى ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وكما قلنا سابقا لا يضر الحصر المذكور في الآية بالرؤية التي نعرضها ونتبناها خلافا للرأي الآخر الذي تبنته الوهابية ، لأن الحصر حصر لسبب العبادة وأنها ليست إلا بقصد التقرب إلى الله بمعنى أنه ينفي الأسباب والأهداف الأخرى لعبادة تلك الآلهة ، وهذا الحصر كما قلنا لا ينفي وجود قيمة أخرى للآلهة من قبيل طلب الحوائج منها باعتبار قدراتها المميزة عن الموجودات الأخرى .

نعم يمكن أن يقال إن الآية تتنافى مع رؤيتكم باعتبار أنها رؤية تعتمد على فرضية التلازم العرفي والعادي - عند أهل الديانات بمختلف مشاربها - بين صفة الخالقية والتدبير والقدرة على الضر والنفع الذاتيين لموجود ما واستحقاق عبادته ، وهذا التلازم يعني أن البشر عادة يعبدون من يرونه خلاّقا ذا قدرة ذاتية على النفع والضر ، فالموجود الذي يؤمنون بتملكه مثل هذه القدرة يعبدونه ، ومن عبدوه يعني أنهم آمنوا بامتلاكه مثل تلك القدرات الربوبية .

وهذه الآية أي آية الزلفى تصرح بأنهم اعتبروا السبب الوحيد الذي أوجب عبادتهم لتلك الآلهة هو تقريبها لله لا قدراتها الذاتية ، وهذا يعني أنهم لم يعبدوا تلك الآلهة لوجود قدرات ذاتية لها ، وممن ثم يعني إقرارا بأن الآلهة لا تخلق ولا تدبر ولا تنفع أو تضر بنفسها ، وبعبارة أخرى لو كانت هناك قدرات ذاتية للآلهة لما اقتصروا على التقريب والشفاعة كسبب للعبادة بل لذكر سبب آخر وهو رجاء نفعها وضرها الذاتيين بسبب قدراتها الإلهية .

وبصيغة ثالثة صحيح أن المذكور في الآية مجرد حصر سبب العبادة بالتقرب إلى الله ، وليس فيها نفي للخصوصيات الأخرى للآلهة كالقدرات الذاتية لها ، ولكن لو كانت

119 ...................................................................... الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني

لها القدرات الذاتية لعبدت لهذا السبب وما دام كل سبب غير التقرب إلى الله الإله الأكبر تم نفيه واستبعاده فهذا يعني أنها لا تمتلك تلك القدرات في نظرهم ، فلا يمتلكها إلا الله ، وهذا هو التوحيد في الربوبية فقط .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net