متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
هل للمحيط والبيئة تأثير في العصمة - من نتائج ما تقدم
الكتاب : مأساة الزهراء عليها السلام .. شبهات وردود ج1    |    القسم : مكتبة رد الشبهات

هل للمحيط والبيئة تأثير في العصمة :

وأما بالنسبة لما قيل عن تأثير البيئة والمحيط الإيماني في شخصية الزهراء عليها السلام : فإننا نقول فيه : إن الزهراء النور التي خلقت من ثمر الجنة ، وكانت تحدث أمها وهي في بطنها ، قبل أن تولد .

هي خيرة الله سبحانه ، قد اصطفاها لتكون المعصومة ( 1 ) الطاهرة ، والصفوة الزاكية ، قبل دخولها في هذه البيئة التي يتحدث البعض عنها على أنها هي السبب الرئيسي في ما للزهراء من مقامات وكرامات .

وحديثه هذا يستبطن : أن الزهراء نفسها عليه السلام لو عاشت في بيئة أخرى ليست بيئة صلاح وخير وإيمان ، فلسوف تطبعها بطابعها الخاص ، فتكون المرأة الشريرة والمنحرفة ، والعياذ بالله ! ! فهل هذا مقبول أو معقول ؟ ! . . إننا نصر على أن المحيط الذي عاشت فيه الزهراء عليها السلام ،

  ( 1 ) العصمة في الأنبياء والأوصياء ثابتة بدليل العقل ، لاقتضاء مقام النبوة والإمامة لها . ويؤيدها النقل ، وقد يتعرض النقل أيضا لبيان حدودها وآفاقها ، وغير ذلك من خصوصيات . . أما عصمة الزهراء عليها السلام ، فهي ثابتة بالنقل الصحيح الثابت عن الرسول ( ص ) ، وبنص القرآن الكريم ، وهي من ضروريات المذهب وثوابته .

وبديهي أن لا تعرف العصمة إلا بالنقل ، لأن الأوامر والزواجر الإلهية لا تنحصر بأعمال الجوارح الظاهرية ، بل تتعداها إلى القلب والنفس والروح ، وإلى صياغة مواصفات الإنسان ، ومشاعره وأحاسيسه ، مثل الشجاعة والكرم والحسد ، والحب والبغض ، والإيمان والنفاق ، والنوايا وغير ذلك مما لا سبيل لنا للاطلاع عليه بغير النقل عن المعصوم . ( * )

 
 

- ص 66 -

لم يكن هو محض السبب في وصول الزهراء إلى مقام الكرامة والزلفى ، ولا كان هو الذي صاغ وبلور شخصيتها الإيمانية ، وحقق عصمتها ، وكمالها الإنساني ، بل إن فطرتها السليمة ، وروحها الصافية ، وعقلها الراجح ، وتوازنها في خصائصها وكمالاتها الإنسانية ، ثم رعاية الله سبحانه لها ، ومزيد لطفه بها ، وتسديده وتوفيقه ، وسعيها باختيارها إلى الحصول على المزيد من الخلوص والصفاء ، والطهر ، والوصول إلى درجات القرب والرضا ، إن ذلك كله هو الذي أنتج شخصية الزهراء المعصومة والمطهرة .

فالعصمة لا تعني العجز عن فعل شئ ، وإنما تعني القدرة والمعرفة ، والاختيار الصالح ، والإرادة القوية الفاعلة مع العقل الكبير ، واللطف والرعاية والتسديد الإلهي .

أما كبر السن أو صغره ، أو مقدار النمو الجسدي ، فليس هو المعيار في صفاء الروح ، أو كمال الملكات ، والخصال الإنسانية ، ولا في فعلية التعقل ، أو قوة العقل والإدراك ، ولا في سعة المعرفة ، واستحقاق منازل الكرامة ، فقد آتى الله يحيى عليه السلام الحكم صبيا ، كما أن عيسى عليه السلام قد تكلم في المهد : * ( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) * ( 1 ) .

ولم تكن الزهراء ( عليها السلام ) في أي وقت من الأوقات بعقلية طفل ، ولا بمستوى ملكات وإدراكات وطموحات وليد . وقد تكلم علي ، والزهراء عليهما السلام حين ولادتهما ، وحدثت الزهراء أمها قبل أن تولد .

  ( 1 ) سورة مريم : 20 / 22 . ( * )  
 

- ص 67 -

وقد ذكرت لنا الروايات وكتب التاريخ وغيرها من مصادر الفريقين كثيرا من هذا وأمثاله مما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام . مما يدل على هذه الحقيقة فيهم وفيما صلوات الله وسلامه عليهم وعليها ، وعلى شيعتها ومحبيها إلى يوم الدين .

إمكانية التمرد على البيئة والمحيط : أما فيما يرتبط بالمحيط والبيئة ، فلسنا ننكر ما له من تأثير على روح الإنسان وسلوكه وأخلاقياته ونفسيته .

ولكننا نقول : إن ذلك ليس مطردا في جميع الناس ، ولا هو حتمي الحصول ، إلى درجة أن يفقد الإنسان معه إرادته ، ويأسره ، ويمنعه من الاختيار ويقيده عن الحركة باتجاه الخير ، والصلاح ، والنجاح والفلاح .

وقد أوضح القرآن الكريم لنا ذلك بما لا يدع مجالا للشك حينما تحدث عن نساء جعلهن مثلا يحتذى كمريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ثم تحدث عن أخريات مثلا للعبرة والحذر كامرأة نوح ولوط .

فقد قال سبحانه وهو يتحدث عن إحدى زوجات النبي ( ص ) ، كان النبي ( ص ) قد أسر إليها حديثا هاما جدا فأفشته وزادت فيه : * ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ

- ص 68 -

فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) * ( 1 ) . فنجده سبحانه قد ضرب مثلا للذين آمنوا - وليس لخصوص النساء المؤمنات - بآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران .

وضرب مثلا للذين كفروا - وليس لخصوص النساء الكافرات . بزوجتي نوح ولوط - ولتوضيح ذلك نقول :

 ألف : زوجتا النبي نوح والنبي لوط ( ع ) : إن الذي يساعد على وضوح ما نريد بيانه في معنى الآيات ، هو ملاحظة الأمور التالية :

 1 - أشار في الآية إلى وقوف امرأة في مقابل رجل ، ولعل البعض يرى للرجال على النساء تميزا في جهات معينة ، تعطي للرجل الأفضلية والأولوية في أمور كثيرة .

 2 - إن هذين الرجلين هما في موقع الزوجية ، وللزوج موقعه القوي في داخل بيت الزوجية على الأقل .

 3 - ومع صرف النظر عما تقدم ، فإن الزوج عادة هو أعرف الناس حتى من الأم والأب ، بأحوال زوجته ، وبطبائعها ، وبنقاط ضعفها وقوتها ، لأنه على احتكاك عملي مستمر معها ، وهي تعيش معه

  ( 1 ) سورة التحريم : 10 / 12 . ( * )  
 

- ص 69 -

- عادة - الوضوح بأقصى حالاته وأرفع درجاته .

 4 - وهذا الرجل يملك من صفات الكمال الإنساني كل أسباب القوة خصوصا في وعيه ، وتدبيره ، وعقله وحكمته ، ومن حيث مستواه الفكري ، وسلامة هذا الفكر ، ومن حيث قدراته الاقناعية ، فضلا عما سوى ذلك ، بل هو القمة في ذلك كله ، حتى استحق أن يكون نبيا ، بل رسولا ، بل إن أحدهما وهو نوح ، من أولي العزم الذين يملكون أعلى درجات الثبات والحصانة والقوة . وهل هناك أعرف من النبي الرسول بأساليب الإقناع ووسائله وأدواته ؟ أم هناك أكثر منه استجماعا للمفردات الفكرية وغيرها مما يحتاج إليه في ذلك ؟ ! .

 5 - كما أن هذه المرأة تعيش في محيط هدى ، وفي أجواء الطهر ، والصفاء ، والاستقامة ، والفضيلة ، والإيمان ، والخير ، والصلاح ، حيث يتجسد ذلك كله واقعا تتلمسه بصورة مباشرة ، وليس مجرد نظريات . أما الانحراف والسوء والشرك فلن يكون في هذا المحيط إلا غريبا ، مرفوضا ، ومنبوذا ، لا يجد حرية الحركة ، ولن ينعم بالقبول والرضا أبدا .

 6 - إن هذين الرجلين النبيين ، وأحدهما من أولي العزم ، يتحملان مسؤولية هداية الأمة ، والذب عنها ، وإبعادها عن مزالق الانحراف وآفاته . بل إن هذه الهداية هي مسؤوليتهما الأولى والأساس ، وهي كل شئ في حياتهما الرسالية الهادية . وليست أمرا عارضا ، كالمال

- ص 70 -

الذي يمكن تعويضه ، أو الجاه الذي يمكن العيش بدونه ، ولا هي من قبيل السلطة ، والنفوذ ، وإدارة البيت ولا هي مصلحة مادية ، ولا أي شأن من شؤون الحياة ، مما يمكن التغاضي عنه . بل المساس بها مساس بالمصير ، وبالوجود ، وبالمستقبل ، وبالآخرة والدنيا . إنه ينظر إلى هذه المهمة ويتعامل معها من موقع التقديس ، ومن موقع التعبد والتدين . وتتحداه زوجته التي لا تدانيه في شئ مما ذكرناه ، وتتمرد عليه في صميم مسؤوليته ، وفي أعز وأغلى وأقدس شئ لديه .

 7 - وهذا التحدي هو للمحيط وللبيئة ، لأنه ينبع من داخل بيئة الصلاح ، والإيمان والخير ، والهدى .

 8 - ويزيد في الألم والمرارة ، أنها تتحداه في شئ يندفع إليه بفطرته ، ويرتبط به بقلبه ووجدانه ، وبأحاسيسه ، وبعمق مشاعره ، وبهيمنات روحه ، وبكل وجوده .

والأكثر مرارة في هذا الأمر ، أنها تريد أن تكون النقيض الذي لا يقتصر على مجرد الانحراف ، بل هي تعمل على تقويض وهدم ما يبنيه ، مستفيدة من المحيط المنحرف الذي قد يعينها على تحقيق ما تعمل من أجله ، ويعطيها نفحة قوة ، وفضل عزيمة .

ومن جهة أخرى : فإن هذا الأمر لا يختص بمورد واحد يمكن اعتباره حالة عفوية أو استثناء أو حالة شاذة ، فقد تكررت القضية ذاتها وشملت نوحا ولوطا عليهما السلام اللذين ضرب الله المثل بما جرى لهما .

- ص 71 -

 ب : زوجة فرعون : وفي الجهة المقابلة تقف المرأة المجاهدة الصابرة آسية بنت مزاحم الشهيدة . ونوضح ما نرمي إليه في حديثنا عنها فيما يلي من نقاط :

 1 - إن آسية بنت مزاحم امرأة في مقابل رجل ، هو فرعون بالذات .

 2 - وفرعون هذا هو الزوج المهيمن والقوي ، وهو يتعامل مع هذه المرأة الصالحة من موقع الزوجية .

 3 - وفرعون الرجل والزوج ، لا يملك شيئا من المثل والقيم الإنسانية والرسالية ، ولا يردعه رادع عن فعل أي شئ ، وفي أي موقع من مواقع حياته ، فهو يسترسل مع شهواته ، وطموحاته ، ومصالحه ، بلا حدود ولا قيود ، ودونما وازع أو رادع . أما آسية فعلى النقيض من ذلك ، ترى نفسها محكومة لضوابط الدين والقيم والمثل ، وهي تهيمن على كل وجودها فلا تستطيع أن تسترسل في حركتها ، ولا يمكنها أن تتوسل بكل ما يحلو لها .

 4 - وفرعون يمثل أقصى حالات الاستكبار في عمق وجوده ، وذاته ، حتى ليدعي الربوبية ، ويقول للناس : " أنا ربكم الأعلى " ، فلا يرى أن أحدا قادر على أن يخضعه ، أو أن يملي عليه رأيه وإرادته ، بل تراه يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه وطموحاته .

فرعون هذا تتحداه امرأته ! ! في صميم كبريائه ، وفي رمز استكباره وعلوه ، وعنفوانه ، وعمق طموحاته ، في ادعائه الربوبية ، وفي

- ص 72 -

كل ما يرتكبه من موبقات ، وما يمثله من انحراف .

 5 - وفرعون ملك لديه الجاه العريض ، وغرور السلطان ، وعنجهيته ، وجاذبيته ، وعنفوانه ، وزهوه . وما أحب تلك المظاهر الخادعة إلى قلب المرأة ، وما أولعها بها . وإذا كانت المرأة تميل إلى الزهو ، فإنها إلى زهو الملك العريض أميل ، وإذا كان الجاه العريض يستثيرها ، فهل ثمة جاه كجاه السلطان ، فكيف وهو يدعي الربوبية لنفسه ؟ !

 6 - أما المغريات فهي بكل صنوفها ، وفي أعلى درجات الإغراء فيها ، متوفرة لفرعون ، فلديه الدور والقصور ، والبساتين ، والحدائق الغناء ، ولديه اللذائذ والأموال ، والخدم والحشم ، ولديه الزبارج والبهارج وزينة الحياة الدنيا . وهل ثمة أحب إلى قلب المرأة من القصر الشاهق ، ومن الأثاث الفاخر ، واللائق ، ومن وصائف كالحور ، وغير ذلك من بواعث البهجة والسرور ؟ !

 7 - وعند فرعون الرجال والسلاح ، وكل قوى القهر ، والتسلط ، والجبروت ، والهيمنة ، ولذلك أثره في بث الرهبة ، والرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد ، والخلاف .

 8 - وعند فرعون أيضا المتزلفون ، والطامعون ، والطامحون ، الذين هم وسائله وأدواته الطيعة ، التي تحقق رغباته ، وتلبي طلباته ، مهما كانت ، وفي أي اتجاه تحركت .

 9 - وهناك الواقع المنحرف الذي تهيمن عليه المفاهيم الجاهلية . والجهل الذريع ، والافتتان الطاغي بالحياة الدنيا ، هذا الواقع الذي تفوح

- ص 73 -

منه الروائح الكريهة للشهوات البهيمية ، وتنبعث فيه الأهواء ، وتضج فيه الجرائم .

 10 - وفي محيط فرعون ، تريد امرأة فرعون أن تتخلى عن لذات محسوسة وحاضرة من أجل لذة غائبة عنها ، مع أن الإنسان كثيرا ما يرتبط بما يحس ويشعر به ، أكثر ما يرتبط بما يتخيله أو يسمع به ، بل هو يستصعب الانتقال من لذة محسوسة إلى لذة أخرى مماثلة لها ، فكيف يؤثر الانتقال إلى ما هو غائب عنه ، ولا يعيشه إلا في نطاق التصور والأمل بحصوله في المستقبل ، ثقة بالوعد الإلهي له . بل إنها عليها السلام تريد أن تستبدل لذة وسعادة ونعيما حاضرا بألم وشقاء ، وبلاء ، بل بموت محتم لقاء لذة موعودة .

 11 - وبعد ذلك كله ، إن هذه المرأة لا تواجه رجلا كسائر الرجال ، بل تواجه رجلا عرف بالحنكة ، والدهاء ، والذكاء . فكما كان عليها أن تواجه استكباره ، وسلطانه ، وبغيه ، وكل إرهابه ، وإغراءه ، فقد كان عليها أيضا أن تواجه مكره ، وأحابيله ، وتزويره ، وأساليبه الذكية الخداعة ، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه . وقد ظهرت بعض فصول هذا الكيد والمكر في الحوار الذي سجله الله سبحانه له مع موسى ، ومع السحرة الذين جاء بهم هو ، فآمنوا بإله موسى ( 1 ) .

  ( 1 ) إن حنكة فرعون كانت عالية إلى درجة أنه - كما قال القرآن الكريم - استخف قومه فأطاعوه ، أي أنه قد تسبب في التأثير على مستوى تفكيرهم ، وخفف من مستوى وعيهم للأمور . . كما أننا حين نقرأ ما جرى بينه وبين موسى والسحرة ، نجده أيضا في غاية الفطنة والدهاء ، فقد قال تعالى : =>  
 

- ص 74 -

..................

 

=> . . * ( . . قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) * . سورة الشعراء ، الآيات 23 - 27 .

فيلاحظ : إنه حاول في بادئ الأمر أنه يسفه ما جاء به موسى بطريقة إظهار التعجب والاستهجان . فلما رأى إصرار موسى على مواصلة الاعلان بما جاء به لجأ إلى اتهامه بالجنون .

ولكنه أيضا وجد أن موسى يواصل بعزم ثابت ، وإصرار أكيد ، إعلانه المخيف لفرعون فالتجأ إلى استعمال أسلوب القهر والقمع ، فقال لموسى : * ( قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) * .

فواجهه موسى ( ع ) بإبطال كيده هذا ، وجرده من هذا السلاح ، حيث قال له : * ( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ) * فاضطره أمام الناس إلى الرضوخ لذلك فقال : * ( فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) * فأظهر موسى المعجزة التي جردته من سلاح المنطق والحجة .

ولكنه مع ذلك لم يستسلم بل التجأ إلى سلاح آخر ، يدلل على حنكته البالغة ودهائه العظيم وعلى درجة عالية من الذكاء ، حيث نقل المعركة فورا من ساحته هذه إلى ساحة الآخرين ، وأخرج نفسه عن دائرتها ، وجعل من نفسه إنسانا غيورا على مصلحة الناس ، يريد أن يدفع الشر عنهم ، وأن يحفظ لهم مواقعهم فأظهر أن ما جاء به موسى ( ع ) لا يعنيه هو ولا يهدد موقعه ، وإنما هو يستهدفهم دونه فالقضية إذن هي قضيتهم ، فلا بد أن يبادر كل منهم لمواجهتها ، وليست هي قضية يمكن التفريط في شأنها ، ولا هي تسمح لهم باللامبالاة ، أو التأجيل ، أو التواكل ، مستفيدا من طبيعة المعجزة عنصر التمويه عليهم والتشويه للحقيقة ، حيث اعتبر إن انقلاب العصا إلى ثعبان وخروج اليد بيضاء ، سحرا يريد موسى أن يتوسل به إلى إخراجهم من أرضهم ، فهو قد حول المعجزة القاهرة إلى دليل له ، يبطل به دعوى موسى التي جاءت المعجزة لإثباتها وتأكيدها ، ثم ألقى الكرة في ملعبهم ، وجعل القرار لهم . واستطاع من خلال ذلك أن يقتنص فرصة جديدة يستدرك بها شيئا من القوة لمواجهة موسى . . وهذا هو ما أوضحته الآيات التالية : =>

 
 

- ص 75 -

خلاصة :

كانت تلك بعض لمحات الواقع الذي واجهته امرأة فرعون ، التي هي من جنس البشر ، ومن لحم ودم ، لها ميولها ، وغرائزها ، وطموحاتها ، ومشاعرها ، وأحاسيسها . وقد واجهت رحمها الله كل هذا الواقع الصعب بصبر وثبات ، ولم تكن تملك إلا نفسها ، وقوى إرادتها ، وقويم وعيها ، الذي جعلها تدرك : أن ما يجري حولها هو خطأ ، وجريمة ، وانحراف وخزي ،

  => * ( قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) * سورة الشعراء : 28 و 36 وراجع سورة طه : 47 / 57 .

فكل ذلك يشير إلى أن فرعون لم يكن رجلا عاديا ، بل كان على درجة عالية من الذكاء والمكر والدهاء ، وأنه في حين كان قد استخدم كل قدراته من مال وجاه وجيوش ، وقمع وقهر ، في سبيل الوصول إلى مبتغاه ، فإنه أيضا قد استخدم ذكاءه وأساليبه المماكرة في سبيل ذلك ، حتى * ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) * سورة الزخرف : 54 .

ولننظر بدقة إلى قوله تعالى * ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) * سورة غافر : 26 . ولنتأمل في موقف فرعون من السحرة ، وطريقة مواجهته للصدمة التي نتجت عن إيمانهم بما جاء به موسى ، فإنه هو الآخر ، دليل آخر يضاف إلى ما تقدم على حنكته وذكائه ، وطبيعة أساليبه الماكرة والفاجرة .

ولسنا هنا بصدد التوسع في هذا الموضوع ، ولم نرد إلا التنويه والإشارة لندلل من خلال ذلك على عظمة الانجاز ، وقيمة النصر الذي حققه نبي الله موسى ( ع ) على هذه الطاغية المستكبر والماكر . ( * )

 
 

- ص 76 -

فرفضت ذلك كله من موقع البصيرة والإيمان ، وواجهت كل وسائل الإغراء والقهر ، ولم تبال بحشود فرعون ، ولا بأمواله ، ولا بجاهه العريض ، ولا بزينته ومغرياته ، ولا بمكره وحيله وحبائله . . وطلبت من الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لها سبل النجاة من فرعونية فرعون ، ومن أعمال فرعون ، ومن محيط القوم الظالمين .

ولم يؤثر شئ من ذلك كله ، من البيئة والمحيط وغير ذلك ، في زعزعة ثقتها بدينها وربها ، أو في سلب إرادتها ، أو في سلامة وصحة خيارها واختيارها . وكان دعائها : " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ، ونجني من فرعون وعمله ، ونجني من القوم الظالمين " . فهي تعتبر الابتعاد عن فرعون ، وعن ممارسات فرعون نجاة ، وتعتبر الابتعاد عن دنس الإنحراف والخروج من البيئة الظالمة نجاة أيضا . . وهي لا تريد من الله قصورا ولا زينة ، ولا ذهبا ولا جاها ، بل تريد أن تفوز بنعمة القرب منه تعالى . ( عندك ) ، وبمقام الرضا ، على قاعدة : ( رضا الله رضانا أهل البيت ) .

 ج : مريم ( ع ) في مواجهة التحدي : أما التحدي في قضية مريم عليها السلام فهو الآخر قاس ومرير ، إنه تخد في أمر يمس شخصيتها وكيانها ، وهو من أكثر الأمور حساسية بالنسبة إليها كأنثى ، تعتبر نفسها أمام قومها رائدة الطهر والفضيلة ، وتنعى عليهم رجسهم وانحرافهم ، إنه التحدي في أمر العفة والطهر ،

- ص 77 -

وقد جاء بطريقة تفقد معها كل وسائل الدفاع عن نفسها ، إذ كيف يمكن لامرأة أن تأتي قومها بمولود لها ، ثم تزعم لهم أنها لم تقارف إثما ، ولا علاقة لها برجل .

إنها تزعم : أنها قد حملت بطفل ولم يمسسها بشر ، وتصر على أنها تحتفظ بمعنى العفة والطهارة بالمعنى الدقيق للكلمة ، بل هي لا تقبل أي تأويل في هذا المجال ، ولو كان من قبيل حالات العنف التي تعذر فيها المرأة .

بل وحتى المرأة ، المتزوجة حين تلد فإنها في الأيام الأولى تكون خجلى الى درجة كبيرة ، لا سيما أمام من عرفوها وعرفتهم وألفوها وألفتهم .

فكيف إذا كانت تأتي قومها بطفل تحمله ، وقد ولدته ولم تكن قد تزوجت ، ثم هي تصر على أنها لم يمسسها بشر ! ! أو لا ترضى منهم أن يعتقدوا أو حتى أن يتوهموا غير ذلك .

ولم يهتز إيمان مريم ، ولم تتراجع ، ولم تبادر إلى إخفاء هذا الطفل ، ولا إلى إبعاده ولا إلى التبرء منه ، بل قبلت ، ورضيت ، وصبرت ، وتحملت في سبيل رضا الله سبحانه ، فكانت سيدة نساء زمانها بحق ، وبجدارة فائقة ، لأنها صدقت بكلمات الله ، وكانت من القانتين .

أما الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها ، فقد أخبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنها أفضل من جميع نساء العالمين من الأولين والآخرين بمن فيهم مريم وآسية وسواهما ، رغم كل ما قاسوه وما واجهوه مما ينبؤك عن عظيم مكانتها

- ص 78 -

وبلائها لقوله ( ع ) : إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل ( 1 ) .

من نتائج ما تقدم :

ونستخلص مما تقدم نتائج كثيرة ، نذكر منها هنا ما يلي :

 1 - قد ظهر مما تقدم من خلال عرض ما ضربه الله مثلا : أن البيئة والمحيط ليس هو الذي يصنع شخصية الإنسان ، وإن كان ربما يؤثر فيها أحيانا ، إذا فقدت الرقابة الواعية ، حيث يستسلم الإنسان للخضوع والخنوع .

فلا مجال إذن لقول هذا البعض : إن شخصية الزهراء عليها السلام ، هي من نتاج المحيط والبيئة التي عاشتها ، ولن نقبل أن يقال : إنها عليها السلام لو عاشت في محيط آخر - فاسد مثلا - لكانت قد عاشت واقع محيطها الفاسد أيضا .

 2 - إن مواجهة مريم لضغوطات محيط الانحراف ، في أشد الأمور حساسية وأهمية بالنسبة إليها ، وهي لا تملك أي وسيلة مألوفة للدفاع عن نفسها ، سوى هذا الإيمان الصافي ، والثقة الكبيرة بالله تعالى .

ثم تحرك آسية بنت مزاحم في عمق وكر الانحراف والشرك ، وفي صميم محيطه ، وبيئته ، لمواجهة أعتى القوى ، وأكثرها استجماعا لوسائل القهر ، والاغراء ، والتحدي ، وأشدها بغيا ، وظلما ، واستكبارا . .

  ( 1 ) راجع البحار : ج 64 ص 200 . ( * )  
 

- ص 79 -

إن هذا وذاك يدل على أنه لا مجال لتبرير الانحراف بضغوطات المحيط ، والبيئة ، أو السلطة ، أو الخضوع لإرادة الزوج ، وما إلى ذلك .

 3 - قد ظهر مما تقدم : أن للمرأة كما للرجل ، قوة حقيقية ، وقدرة على التحكم بالقرار النهائي في أية قضية ترتبط بها ، وأنها في مستوى الخطاب الإلهي ، وتستطيع أن تصل إلى أرقى الدرجات التي تؤهلها لأسمى المقامات ، في نطاق الكرامة والرعاية الإلهية .

 4 - إن الاندفاع نحو إحقاق الحق ، وإقامة شرائع الله ، والعمل بأحكامه ، والتزام طريق الهدى والخير أمر موافق للفطرة والعقل دون ريب ، وإن الانحراف عن ذلك ما هو إلا تخلف عن مقتضيات الفطرة ، واستخفاف بأحكام العقل ، وتفريط بمعاني الإنسانية والسداد والرشاد .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net