متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
7ـ أخطار التدخين .. ونوادر علمائنا الأعلام
الكتاب : فقه الحضارة    |    القسم : مكتبة الفقه
(7)
أخطار التدخين ونوادر علمائنا الأعلام

أـ أخطار التدخين
التدخين من الظاهر الشائعة في العالم بنسبة 60% من مجموع الكائن البشري على وجه الكرة الأرضية ، وهي نسبة عالية جداً إذا استثنينا الأطفال وأكثر النساء من استقبال الدخان ، وهناك الآف المعامل المتطورة تقنياً وإنتاجياً تعمل ليل نهار لإخراج الآف الأنواع من السجائر المصنعة من أجود أصناف التبوغ المعطّرة والمصفاة الهادئة والحارة والمعتدلة ، وهناك الإعلانات الدعائية في الإعلام للإشارة إلى تلك السيجارة أو هذه ، وهو أمر تدأب على الترويج له كبريات شركات الدخان في العالم.
أما استهلاك كل أنواع السجائر في سكان المعمورة ، فقد يتجاوز حد المعقول والقصور في مليارات العملات المالية والنقدية مما يكفي عادة لإدارة أكبر دولة عظمى .. والناس يتهافتون على التدخين بشكل مسرف عند بعضهم ، وعلى مستوى معتدل عند الآخرين ، ومما يؤسف له حقاً اليوم تهافت الشباب


( 38 )

والناس لا سيما في أوروبا على الإفراط بالتدخين مما يعني استقبال آفات جديدة قد تؤثر على الأجنّة فيما بعد ، ويقسم التدخين عادة إلى مباشر وغير مباشر ، فالمباشر هو تدخين المرء نفسه ، وغير المباشر هو الجالس الذي يشم دخان المدخنين ، لهذا تجد في أوروبا أن القطارات والسيارات والأماكن العامة وصالات الاجتماعات الكبرى تنقسم إلى قسمين يكتب على أحدها Smoken ويكتب على القسم الآخر من القاطرة أو السيارة أو الصالة No Smoken ، وتعني الأولى السماح بالتدخين ، كما تعني الثانية منع التدخين ، وهناك تجد الأماكن المخصصة للمدخنين وغير المدخنين درءاً لأضرار التدخين غير المباشر. ولقد تنبهت منظمة الصحة العالمية للأخطار والأضرار المحدقة من التدخين ، ففرضت أن يكتب على علب السجائر بعض العبارات المحذّرة من التدخين كقولهم : التدخين يسبب مرض القلب ، وتصلب الشرايين ، وسرطان الرئة ، وقرحة المعدة ، ويورث ضغط الدم ، ويؤثر على النسل ، ولكن المدخّن يرى ذلك ولا يقرؤه ، أو يقرؤه ، ولا يعبأ به.
ومهما يكن من أمر فقد عالج سيدنا الأجل دام ظله هذه الظاهرة من جوانبها المتعددة ، فعنده أن الإنسان إنما يحرم عليه التدخين ، إذا كان يلحق به ضرراً بليغاً آنياً أو مستقبلياً ، سواء أكان الضرر البليغ معلوماً ، أو مظنوناً ، أم محتملاً بدرجة يصدق معه الخوف عند العقلاء ، وأما مع الأمن من الضرر البليغ ولو من جهة عدم الإكثار منه ، فلا بأس ، هذا بالنسبة للمبتدي في التدخين ، وأما المعتاد عليه ، فإذا كان استمراره في التدخين يلحق


( 39 )

عليه ضرراً بليغاً على نحو ما مرّ ، لزمه الإقلاع عنه ، إلاّ إذا كان يتضرر بتركه ضرراً مماثلاً لضرر الاستمرار عليه ، أو أشد من ذلك الضرر ، أو كان يجد حرجاً كبيراً في الإقلاع عنه بحد لا يُتَحمّل عادة.
هذا في التدخين المباشر ، وأما التدخين غير المباشر ، فعند السيد دام ظله أنه يجري عليه نظير التفصيل المتقدم لدى المدخن المبتدىء(1).
هكذا عالج سيدنا دام علاه هذه الظاهرة من جوانبها كافة ، وأعطى رأي الشرع الحنيف فيها.
ب ـ نوادر علمائنا الأعلام والتدخين
المراجع العظام في النجف الأشرف لهم نوادر هادفة تدور حول التدخين تمثل الاتجاه المعاكس حيناً ، والاتجاه المطّرد حيناً آخر ، فهي حلقة مفرغة بين الإيجابية المطلقة ، وبين السلبية المحددة ، إلا أنها تمثل روح المعاصرة في النية الصادقة والطرفة البريئة ، وقد أدركت هذا المناخ ميدانياً خلال نصف قرن من الزمان. وأنا أرويه لك بأمانة ودقة متناهيتين ، فقد أحطتُ به خبراً عن قرب ، ليعبر لك عن مدى الاستجابة والرفض في ظروف متماثلة أو متباينة ، وهذه الطبقة المثلى هي التي نتلقّى منها أحكامنا الشرعية ، وهي بعد أطهر من ماء السماء.
1ـ الإمام السيد محسن الحكيم قدس سره الشريف أصيب
____________
(1) فتوى خطية مصورة في حوزة المؤلف عليها ختمه الشريف.
( 40 )

بعارض للقلب عام 1953 م ، فترجح سكناه في داره بكربلاء قرب التل الزينبي تخفيفاً عن أعباء المرجعية ، فسكن هناك فترة يعتدّ بها ، وزرته بخدمة سيدي الوالد الشيخ علي الصغير رحمه الله ( ت 1395 هـ ـ 1975 ) واستدعي له الدكتور محمود الجليلي اختصاصي أمراض القلب فنهاه عن التدخين والكلام ، فأخرج السيد علبة الدخان ، وطرحها جانباً على الفور ، فكان هذا آخر عهده بالتدخين حتى وفاته في ربيع الثاني 1390 هـ = 1|6|1970 م ، والطريف أن استفسر الطبيب عن بعض حالاته منه ، فما أجابه ، لأنه منعه عن الكلام ، فقال الدكتور الجليلي : أطال الله عمر السيد ، هو ممنوع عن الكلام مع الناس ، وليتحدث مع الأطباء لنشخص الحالة.
وقد توفي السيد الحكيم في مستشفى ابن سينا ببغداد ، ونقل جثمانه إلى النجف ومعه عشرات الآلاف من السيارات ، ودفن بمقبرته التي أعدّها لنفسه وأبنائه بجوار مسجد الهندي في الطابق الأرضي من مكتبته العامة ، وقد أرخت عام وفاته لترقم على ضريحه بالقاشاني ، ولكنها عند المباشرة في العمل فقدت من قبل أحد أبنائه ، وأنا خارج العراق ، فاستبدلت بغيرها ، والأبيات مع التاريخ هي :

قضى « الحكيمُ » « مُحسناً » فاستقبلت * مِنـهُ الجنــان العَلَــمَ المُـجَـدّدا(1)

____________
(1) كان الإمام الحكيم من مجددي الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري.
( 41 )

قد تَوّج الأجيالَ فــي « مستمسك » * بـ « العروة الوثقى » غَدَا مُقيّــدا(1)
واستَعبَر الإسلامُ أرخ « مُعـــولاً * تَهَدّمت والله أركــانُ الهُــدى »(2)
1390هـ
2ـ الإمام السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره كان مدخناً مكثراً ، فمنعه الأطباء عدة مراة عن التدخين خلال ربع قرن ، فكان لا يمتنع لأنه يرى في نفسه حرجاً كبيراً من ذلك ، ويلمس عسراً شديداً لا يطاق ، حتى إذا أصيب بنكسة قلبية في أوائل 1993م أدخل أثرها مستشفى ابن النفيس ببغداد ، وكان عمره الشريف قد بلغ ستة وتسعين عاماً ، فأجريت له عملية وضع جهاز تحت القلب يساعد القلب على مقاومة العجز الذي أصيب به ، فترجح عند فريق الأطباء المعالج منعه من التدخين ، وما مضت إلا ساعات قلائل على هذا المنع ، حتى قال لولده العلامة السيد محمد تقي الخوئي رحمه الله ، قل للأطباء فليسمحوا لي بالتدخين فإنني أجد حرجاً بالغاً في تركه ، واستجاب له الأطباء فعاد إلى التدخين حتى وفاته في العام نفسه 1993م = صفر 1413هـ ، وقد أرختُ عام وفاته بأبيات رقمت بالقشاني على واجهة ضريحه الشريف داخل مسجد الخضراء بجوار أمير المؤمنين ، وهي باقية
____________
(1) مستمسك العروة الوثقى : موسوعته الفقهية الاستدلالية.
(2) روي معتبراً أنه : حينما استشهد أمير المؤمنين في رمضان سنة أربعين من الهجرة نادى منادٍ بين السماء والأرض قائلاً : « تهدمت والله أركان الهدى ، وانفصمت العروة الوثقى .. ».

( 42 )

حتى اليوم ومذيلة باسم ناظمها كاتب هذه السطور ، وهي :

لمّا اصطفينا للهُدى مَضجَعا * وأصبحَ « الخوئيُّ » فيهِ دَفين
ومن « عليًّ » قد دنا مَوقِعا * وهكـذا عاقبـةُ المؤمنيــن
نُوديَ : فاهتزّ لهـا مَسمَعـا * « إنّا فتحنا لك فتحـاً مبين »
وأنشدَ التأريــخُ لمّا دَعَـا * « أزلفتِ الجَنةُ لِلمُتّقيــن »
1413 هـ

3ـ أية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدس سره ، كان يدخن « النارجيلة » ويقوم بنفسه على مقدماتها دون الاستعانة بأحد ، حتى إذا تكامل صنعها نقلها من الايوان إلى الديوان ، وهو ديوان السيد علي بحر العلوم الذي قضى فيه أكثر حياته ، وأخذ بسحب أنفاسها متأملاً ، وهو يجد لذلك لذة عظيمة.
وفي إحدى الليالي توجه له سماحة الحجة السيد عز الدين بحر العلوم بقوله : عمي إلى متى أنت تدخن ، فلو أقلعت عن النارجيلة ، فقال له مستنكراً : النارجيلة لذتي الوحيدة في الدنيا ، وانت تنهاني عنها ، دع عنك هذا ، أي راحة أجد في الدنيا.
4ـ سيدنا المرجع الأعلى للمسلمين السيد علي الحسيني السيستاني مدّ ظله ، مدخّن مُقلّ ، ولكنه لا يدخن أمام أحد قط ، حتى لو اجتمعنا منفردين فأنا أدخّن وهو لا يدخّن ، وإنما يدخّن


( 43 )

إذا خلا بنفسه وحده ، وقد لا يعلم أحد في الحوزة العلمية في النجف الأشرف التي هو زعيمها اليوم : أن السيد من المدخنين.
5ـ أستاذنا المعظّم آية الله السيد محمد علي الحكيم أصيب عام 1989م بعارض في القلب ، فاقترح طبيب القلب الدكتور مجيد عبد الأمير حرسه الله أن يمتنع من التدخين باستثناء اربع أو خمس سجائر يومياً ، فالتزم بهذا العدد طيلة عشر سنوات حتى اليوم ، فما أزاد سيجارة واحدة قط.
6ـ آية الله التقي الورع السيد محمد رضا الموسوي الخرسان مد ظله ترك « النارجيلة » منذ سنين ، وأعقبها بترك التدخين ، وكنّا هذا العام في عمّان سوية للعلاج والاستشفاء ، فسافرنا إلى مدينة جرش ، وهي تبعد عن عمّان خمسين كيلو متراً ، وذلك صباح الأحد 15|8|1999م مع رفقة أبرار لغرض النزهة والسياحة وشم النسيم كما يقولون. وتناولنا الغذاء في مطعم ريفي قائم بين السهول والجبال ، وبعد الغداء أخذ سماحة السيد بالنظر الناطق وهو يبتسم ، قلت له ماذا ؟ قال : أريد « نرجيلة » أجدد بها العهود السابقة ، فأحضرت له نرجيلة بكل مواصفاتها الراقية ، فتمتع بها برهة من الزمن رأينا فيها البشر والفرح يغمرانه بسعادة شاملة.
7ـ آية الله السيد حسين نجل التقي آل بحر العلوم دام ظله ، ينفرد بالقول بحرمة التدخين ابتداء ، وقد يشاركه غيره في هذا الرأي ، ولكنني لم أطلع عليه ، ومعنى هذا أن المدخّن المعتاد لا أثم عليه مع عدم احتمال الضرر البليغ أو القطع به ، ولكن الشاب غير المدخن ، يحرم عليه الإقدام على التدخين ابتداءً.


( 44 )

ولقد تناوب عليّ أكثر من عشرة أطباء ينهوني عن التدخين ، ولكنني أرى في ذلك عسراً شديداً وحرجاً قائلاً ، حتى أنني أجيب كل طبيب بقولي :

كل شيء نفّذتُهُ لطبيب القلـ... * ـب إلا قضيــة التدخيــن
فهو السلوةُ الوحيدةُ في العمــ * ـر.. فدعني وسلوتي وشؤوني

وفي أيلول هذا العام 1999 غادرت مستشفى الأردن في عمّان ، واحتفل بي جماعة من الأصدقاء أو احتفلت بهم ، وفيهم الأطباء والأساتذة والأدباء ، بوليمة أقيمت في منتجع قصر الصنوبر القائم في طريق المطار للداخل إلى عمّان وكان حديث الأطباء بخاصة أن أترك التدخين لإصابتي بالربو وتضيّق القصبات ، فقلت لهم : أنا لا أترك التدخين من أجل صدري ، بل أريد صدراً أدخن فيه ، فعليكم أن تعالجوا الصدر كما تشاؤون ، وعليّ أن أدخن كما أشاء.


( 45 )

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net