متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
تصدير - بقلم الدكتور عاطف سلام
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

تصدير
بقلم الدكتور عاطف سلام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الأطهار الطيبين، وصحابته المنتجبين.

أما بعد فإن الكتاب الذي بين أيدينا يتناول تلك الحقبة التاريخية التي تلت وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وامتدت بعد ذلك إلى عدة عقود، وعلى الرغم من الأهمية البالغة التي تتميز بها تلك الحقبة الحساسة، حيث قد تشكلت فيها الجذور السياسية والاجتماعية والثقافية للمسلمين إلا أنها لم تحظ بالاهتمام المرجو من قبل الباحثين والمفكرين، وأصبح الكثير من المثقفين لا يعرف سوى النزر اليسير عنها، وبالنسبة لبعض الدراسات القليلة المتناثرة التي دارت حولها فإن أساليب تناول تلك الحقبة قد تعددت واختلفت على نحو لا يروي ظمأ طلاب العلم والحقيقة، ولا يعينهم على استيعابها وإدراك أثارها، فهناك الاتجاه الأدبي الذي تناول تلك الحقبة بشكل ضيق محدود، وسار على منهج مميع لا يفضي إلى نتائج محددة أو مفاهيم واضحة عنها، وكان يفتقر إلى ميزان ثابت منبثق عن الدعوة الإسلامية ذاتها يمكن أن يقاس عليه وقائع تلك الحقبة، ولعل هذا الاتجاه كان


الصفحة 6

يرمي إلى الناحية الأدبية اللغوية فحسب بعيدا عن الرؤى العقائدية، وهناك الاتجاه الصامت المنغلق الذي يرى عدم تناول تلك الحقبة بالبحث والدراسة مطلقا، بل وصل الأمر إلى حد التحذير من محاولة فحص وقائعها وأحداثها بحجة أن ذلك قد يقود إلى إساءة الظن ببعض الشخصيات والتجمعات البارزة التي تنتمي إليها، وهناك الاتجاه الممالئ المتملق الذي دأب على مجرد المدح والإطراء، ولم يدخر وسعا في قلب الأمور رأسا على عقب وبتر الحقائق من أجل تصويب وقائع تلك الحقبة ومواقف أصحابها على نحو يصعب تصديقه أو التسليم به بالنسبة للقارئ العادي... إلى غير ذلك من الأساليب والاتجاهات التي كانت غالبا ما تقصر عن الوفاء بأمانة البحث العلمي المحض الذي يؤدي في النهاية إلى توعية القارئ بطبيعة تلك الحقبة، وتوضيح الرؤية حولها، والخلوص بتقييم موضوعي لها، وتحديد علاقتها - ولو إجمالا - بالواقع الحالي.

إن تناول تلك الحقبة بالبحث والدراسة يقودنا - لا محالة - إلى طرح التساؤل الآتي: هل كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفكر جديا بمستقبل الأمة من بعده، وما الإجراءات التي اتخذها في هذه السبيل؟

إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يمثل القلب النابض والعقل المفكر لتلك الدولة الناهضة، فهل أعد منهجا واضحا لتشكيل القيادة من بعده، بحيث يكفل ذلك الاستمرارية والاستقرار على النحو الذي ينشده للمسيرة التي بدأها؟

وعلى فرض وجود منهج واضح حول القيادة قد حدده الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهل قام بتوعية الأمة به؟

وعلى فرض قيامه بذلك، فهل خرج هذا المنهج من بعده إلى حيز التنفيذ بشكل كامل، أم خرج بشكل جزئي، أم لم يخرج قط نتيجة الظروف والمتغيرات التي طرأت على واقع الأمة إبان وفاته؟

من ناحية أخرى فإن أهمية البحث في تلك الجذور التاريخية وفحص وقائعها البارزة تمكن في انعكاسها بشكل أو بآخر على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي امتد من خلالها عبر القرون التالية إلى اليوم.


الصفحة 7
إن الدعوة القائلة بأن نغض الطرف عن وقائع تلك الحقبة الهامة، وأن نجعل بيننا وبينها حجابا مستورا لا تخدم الحقيقة، بل لا تخدم الإسلام ذاته، حيث إن تراكمات الماضي وتداعياته لا يمكن أن تنفصل عن الواقع الحالي، إن لم تكن قد ساهمت في صياغته إلى حد بعيد.

إننا بحاجة ماسة إلى إلقاء الضوء على تلك الجذور التاريخية من أجل التوصل إلى فهم سليم وموضوعي مبني على أساس علمي لها، واستخلاص العبر والدروس منها، وتحديد نقاط الضعف والقوة فيها بالقدر الذي يعيننا على فهم الحاضر المحيط بنا، ويجعلنا قادرين على رؤية المستقبل بوعي وواقعية، وتحديد ملامحه بعين باصرة غير قاصرة.

إن الكتاب الذي بين أيدينا هو محاولة جادة من المؤلف لتسليط الضوء على تلك الحقبة التاريخية الهامة، ملتزما بقواعد البحث العلمي المتفق عليها، ومتوخيا ذات المقاصد التي أومأنا إليها آنفا، والذي لفت نظري في منهجه أنه اعتمد في دراسته على مصادر الحديث والتاريخ والتراجم المعتبرة التي تحظى بثقة أهل العلم والمعرفة قاطبة، كما أنه قام بالربط بين الأحاديث النبوية من جهة والأحداث التاريخية من جهة أخرى، بحيث يصدق بعضها بعضا، وكأن الكتاب قد جاء يحمل بين دفتيه تفسيرا نبويا للتاريخ، ولا جرم أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) قد تركنا على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، والتي لا يضل عنها إلا هالك، وفي اعتقادي أن ذلك لا يتحقق بوجه كامل إلا من خلال الأحاديث التي تكشف المستقبل، وترصد حركته بعين الوحي فضلا عن الوعي.

ومما يستلفت النظر - أيضا - قيام المؤلف بالفصل بين " تاريخ الإسلام " و " تاريخ المسلمين "، حيث يرى أن " تاريخ الإسلام " هو تاريخ الفطرة الأزلية التي تمثل إرادة الله في الكون، وبالنسبة للبشر فقد بدأ مطلعه بقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..).

وفوق الأرض قام بصنعه الأنبياء والمرسلون من لدن آدم إلى الخاتم،

الصفحة 8
والمقصود من ذلك هو أن " التاريخ الإسلامي " يقتصر على مجموعة الأقوال والأفعال والمواقف والأحداث التي يمكن أن تحسب على الإسلام ذاته لكونها تمثل واقعه وحقيقته، ولا يقوم بصنعه سوى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو من ينوب عنه بتفويض مباشر عنه.

أما بالنسبة ل‍ " تاريخ المسلمين " فهو تدوين لمجموعة الأقوال والأفعال والمواقف والأحداث التي قام بصنعها أولئك الأفراد والتجمعات التي أعلنت انتماءها لهذا الدين تعبيرا عن أنفسهم وواقع حالهم فحسب، ولا يمكن أن تحسب على الإسلام ذاته كمقياس له.

هذه رؤية المؤلف، وهي وجهة نظر جديرة بالبحث والملاحظة، وتدعونا إلى التأمل وإعادة النظر في مدلول كلمة " التاريخ " الذي بين أيدينا، فهل هو " تاريخ إسلامي " يعبر عن واقع الإسلام وحقيقته وأهدافه، أم هو " تاريخ المسلمين " الذي يمثل نوازعهم الذاتية ومواقفهم وأهدافهم الخاصة بهم؟

هذا وبالله التوفيق.

د. عاطف سلام


الصفحة 9


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net