متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثالثا - أضواء على قيادة علي
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثالثا - أضواء على قيادة علي:

مما سبق علمنا أن اختيار الله تعالى لشخص علي بن أبي طالب قد حدث في أماكن عديدة على امتداد الرسالة المحمدية. ففي المسجد سد النبي جميع الأبواب إلا باب علي. وعند بناء قباء لم تسر الناقة إلا بعلي. وفي ميدان من ميدان الحرب ناجى رسول الله عليا. وفي منزل الرسول أخرج الله أناس وأدخل عليا. وفي خيبر أخذ الراية عليا. فهذه الأحداث تدل حركتها على أن هناك ضوءا محددا على شخص محدد وهذا الضوء يبتغي ثقافة محددة للناس.

وعلى امتداد هذا الطريق كان هناك طريق آخر يسير بجانبه. هدفه أيضا الوصول إلى هذه بثقافة التي ينبغي في النهاية تكوين رأي عام. ومن أحاديث هذا الطريق. الحديث الصحيح عن علي قال: لما نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (2)، جمع النبي عشيرته. فاجتمع ثلاثون. فأكلوا وشربوا. فقال لهم النبي: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي. فقال رجل: يا رسول الله أنت كنت بحرا. من يقوم بهذا. فعرض الرسول هذا عليهم واحدا واحدا. فقال علي: أنا (3)، وفي رواية: أيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي. فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر

____________

(1) تحفة الأحواذي 124 / 10.

(2) سورة الشعراء: الآية 214.

(3) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 122 / 23) وقال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير حبة العرفي وقد وثقه. ورواه ابن جرير وصححه والضياء وصححه، ورواه الطحاوي (كنز العمال 129 / 13) وذكره ابن كثير في التفسير (350 / 3).

الصفحة 156
القوم (1)، وفي رواية: " قال النبي: من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليكم من بعدي. فمددت وقلت: أنا أبايعك. وأنا يومئذ أصغر القوم. فبايعني على ذلك (2)، وفي رواية عند ابن إسحاق وابن جرير وابن حاتم وابن مردويه وأبو نعيم أن النبي قال عندما بايعه علي: " إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن نسمع ونطيع لعلي " (3).

فالآية تصرح إنذار العشيرة الأقربين. ولم تصرح بإنذار قريش. والعشيرة الأقربين إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم، وفي مجمع البيان " عشيرة الرجل.

قرابته سموا بذلك لأنه يعاشرهم وهم يعاشرونه "، وخص عشيرته وقرابته الأقربين بالذكر. تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية. ولا مهادنة ولا مساهلة. فلا فرق في تعلق الانذار بين النبي وأمته. ولا بين الأقارب والأجانب. فالجميع عبيد الله والله مولاهم.

وإنذار العشيرة الأقربين. كان هو المقدمة الأولى لإلقاء الضوء على علي بن أبي طالب - ضوء في مركز الدائرة التي قدر لها أن تتسع شيئا فشيئا.

اتساع يواكب حركة الدعوة ويضع في اعتباره النفس القبائلية العشائرية التي ترفض فرض أي قيادة عليها وفقا للتصور الجاهلي. وإذا كان علي بن أبي طالب قد أصبح بعد مبايعته الرسول رأس القوم رغم صغر سنه (4). فإنه بنص آية أخرى ارتقى إلى مرتبة أعلى، قال تعالى لرسوله: (إنما أنت منذر ولكل قوم

____________

(1) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 174 / 13) (الفتح الرباني وقال إسناده (224 / 20).

(2) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز 175 / 13) وذكره ابن كثير في التفسير (350 / 3).

(3) (كنز العمال 133 / 13) تفسير ابن كثير (350 / 3).

(4) من العجيب أن هناك العديد يرفضون كون عليا رغم صغر سنه هو رأس القوم. في حين أن هؤلاء الرافضين يخضعون لفقه يجيز ولاية الفاسق. بل وعلى امتداد التاريخ الإسلامي كانوا يبايعون لابن الخليفة وهو في بطن أمه.

الصفحة 157
هاد) (1)، قال المفسرون: إنما أنا وأنت يا محمد هاد تهديهم من طريق الانذار. وقد جرت سنة الله في عباده أن يبعث في كل قوم هاديا يهديهم. والآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحق. إما نبي منذر وإما هاد غيره يهدي بأمر الله. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجار. قال: لما نزلت: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر. وأومأ بيده إلى منكب علي فقال: " أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي " (2)، وروى الحاكم عن بريدة الأسلمي قال: " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد علي بعدما تطهر. فألصقها بصدره ثم قال: " إنما أنت تنذر " ويعني نفسه. ثم ردها إلى صدر علي ثم قال: " ولكل قوم هاد " ثم قال له:

أنت منار الأنام وغاية الهدى وأمير القراء وأشهد على ذلك إنك كذلك. وفي تفسير ابن كثير عن علي قال: " ولكل قوم هاد " الهادي رجل من بني هاشم. قال الجنيد: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه (3).

لقد كان الضوء يتسع شيئا فشيئا. اتسع بيوم المباهلة ويوم الكساء ويوم سد الأبواب إلا باب علي. ويوم إن دعا الكتاب إلى مودة ذو القربى وسهم ذي القربى. إلى غير ذلك. حتى جاء اليوم الذي وضع فيه حول علي منقبه من أعظم المناقب لأن عليها تدور الحركة الواسعة للدعوة الإسلامية. روى الإمام مسلم عن علي قال: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي الأمي إلي. أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " (4)، وعن أم سلمة قال: كان رسول الله

____________

(1) سورة الرعد: الآية: الآية 7.

(2) راجع تفسير ابن كثير 502 / 2.

(3) تفسير ابن كثير 502 / 2.

(4) رواه مسلم ك الإيمان ب حب علي بن الإيمان (الصحيح 64 / 2)، وأحمد (الفتح الرباني 122 / 23) وابن أبي شيبة والنسائي وابن ماجة وابن حبان وابن أبي عاصم (كنز العمال 20 / 12) (كنز 598 / 11).

الصفحة 158
صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن " (1)، وعن أبي سعيد الخدري قال: " إنا كنا نعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب " (2)، فهذه المنقبة هي عين المواجهة بين الدعوة وبين دائرة الرجس التي تسترت بجلباب الدين وما هي من الدين.

وبدأت دائرة الضوء تتسع. حتى كان يوم تبوك. اليوم الذي عزم فيه التيار التخريبي لدائرة الرجس ودائرة البخس على اغتيال الرسول. وافتتاح المسجد الضرار. وفتح الأبواب لاستقبال الغزو الخارجي الذي تحمل أعلامه جيوش قيصر (3). وما بين أيدينا من روايات. يؤكد أن المنافقين ما كانوا يريدون علي بن أبي طالب في المدينة. لقد استعملوا أسلوب الحرب النفسية ضد علي عندما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيخلفه على المدينة. ولكن النبي قطع عليهم حبل تفكيرهم ووضع حول علي منقبة ارتبطت بمنقبة لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن برباط وثيق. قال له النبي كما وردت في صحيح مسلم " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (4)، وفي رواية عن ابن عباس: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست مني أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي " (5)، وفي رواية: " إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي " (6).

لقد أشاعوا أن النبي ترك عليا بين النساء والصبيان كما ورد في أحاديث

____________

(1) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 635 / 5) ورواه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23).

(2) رواه الترمذي وقال حديث غريب (الجامع 635 / 5). ورواه الخطيب عن أبي ذر بلفظ.

ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلا بثلاث:

بتكذيبهم الله ورسوله. والتخلف عن الصلاة. وببغضهم علي بن أبي طالب (كنز العمال 106 / 13).

(3) ذكرنا ذلك فيما سبق عند الحديث عن دائرة الرجس.

(4) رواه مسلم (الصحيح 174 / 15).

(5) رواه الإمام أحمد (الفتح 204 / 21) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 133 / 3).

(6) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده حسن ورجاله ثقات (كتاب السنة 565 / 2).

الصفحة 159
صحيحة وأشاعوا غير ذلك كما ورد في تاريخ الطبري، قال علي للنبي: " زعم المنافقون إنك إنما خلفتني إنك استثقلتني وتخففت مني "، فقال له النبي:

كذبوا... أما ترضي يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1). لقد كان عليا مقياسا لما يجري على طريق تبوك. به يظهر النفاق ويشع. ووجوده في المدينة في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد الخنادق بدقة. فأي ثقافة تخرج من المسجد الضرار لا يرضى عنها علي فهي ثقافة نفاق. وأي حشد في اتجاه المدينة لا يرضى عنه علي فهو حشد نفاق. وأي معارض يعارض أمرا لعلي فهو في دائرة النفاق. كما ذكر أبو سعيد الخدري " كنا نعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب " (2).

" حديث المنزلة رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. وقال ابن عساكر. وقد روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وغيرهم. وقد تقصى ابن عساكر هذا الحديث في ترجمة علي في تاريخه فأجاد وأفاد وبرز مع النظراء والأشباه والأنداد (3).

ولقد ناقش العديد من الأفاضل هذا الحديث على خلفية أن هارون (ع) مات قبل موسى (ع) وتركوا لفظ " منزلة " وهو الذي يدور عليه الحديث. ومنزلة هارون ينبغي أن تناقش في ضوء الآيات القرآنية وليس في ضوء التواريخ الإسرائيلية. فقد قال تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده) (4)، فالآية تخبر أن موسى عليه السلام جاءهم بالبينات. واتخاذهم العجل من بعده، استمرارا لفعلهم. فهم في الحقيقة اتخذوا العجل في حياة موسى.

وهارون عليه السلام كان عليه شعاع من الضوء في حياة موسى عليه السلام.

____________

(1) تاريخ الأمم والملوك 144 / 3.

(2) سبق التخريج.

(3) البداية والنهاية 342 / 7.

(4) سورة البقرة: الآية 92.

الصفحة 160
فقبل ذهاب موسى لميقات ربه قال لأخبره كما أخبر تعالى: (قال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح) (1)، فهارون عليه السلام نبي وخليفة (اخلفني في قومي) والشعاع الذي حول علي بن أبي طالب يطول منزلة الخلافة التي تقلدها هارون بنص الحديث الذي رواه الشيخان ولا يطول منزلة النبوة حيث لا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب المسجد الضرار في بني إسرائيل نصبوا العجل في دائرته. ولما حاول هارون الاصلاح استضعفوه. قال هارون عليه السلام كما أخبر تعالى: (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (2)، ولأن القاعدة الأساسية في دين الفطرة أنه لا إكراه في الدين، وأن الله غني عن العالمين. فإن هارون بعد أن أقام عليهم الحجة اعتزل هو ومن آمن معه. وبعد عودة موسى عليه السلام قال لأخيه كما أخبر تعالى: (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) (3)، لقد عمل هارون من أجل المحافظة على الرمز والشعار الإسلامي وكفى به في عالم المعابد الضرار.

أما موسى عليه السلام. فلقد كان له رأي فيهم بعد أن خرجوا عن خط الخلافة الذي حدده. قال لهم فيما أخبر الله: (قال بئسما خلفتموني من بعدي) (4). ثم دعا موسى ربه: (قال رب اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) (5). أما الذين اتخذوا العجل فضربهم الجزاء العادل بعد أن أشربوا في قلوبهم حب العجل، قال تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) (6)،

____________

(1) سورة الأعراف: الآية 142.

(2) سورة الأعراف: الآية 150.

(3) سورة طه: الآية 92 - 94.

(4) سورة الأعراف: الآية 150.

(5) سورة الأعراف: الآية 151.

(6) سورة الأعراف: الآية 152.

الصفحة 161
فهذه منزلة هارون أخو موسى عليهما السلام وعلى هذا يجب أن تقاس منزلة علي بن أبي طالب أخي رسول الله - كما جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: " أنت أخي وأنا أخوك فإن ذكرك أحد فقل أنا عبد الله وأخو رسول الله لا يدعيها بعد إلا كذاب " (1).

فموسى عليه السلام في أول الأيام يتلقى كلمات ربه جل وعلا وخلف أخاه هارون بعده على قومه. ومحمد صلى الله عليه وسلم في البعثة الخاتمة ذهب ليضرب من أجل. كلمة ربه. وخلف أخاه عليا بعده على قومه. وبعد عودة موسى عليه السلام أبلغه هارون بالأحداث فحرق العجل ونسفه في اليم نسفا.

وبعد عودة محمد صلى الله عليه وسلم حرق المسجد الضرار. وبعد موسى جرى حب العجل في الدماء، وبعد محمد صلى الله عليه وسلم جرت الريبة في قلوب الذين اتخذوا المسجد الضرار. ولله في خلقه شؤون.

ومناقب علي بن أبي طالب ومنزلته لم تقف عند تدمير المسجد الضرار.

فالأحاديث الصحيحة تبين أن دائرة النور حول علي بدأت تتسع على شكل لم يسبق له مثيل بعد تبوك. ويبدو والله أعلم أن هناك أحداثا جرت بعد فشل عملية اغتيال الرسول وثقافة المسجد الضرار، فمجموعة التخريب التي تتكون من اثني عشر رجلا والتي حملت على عاتقها عملية قتل الرسول. كان من بينهم رجال من قريش. والأحداث بعد ذلك تقول أن الأمور حول مكة لم تكن تجري على الوضع الطبيعي.

ومن المعروف أن فتح مكة كان في العام الثامن الهجري. وفي هذا العام دخل الإسلام مجموعة تسترت برداء الإسلام وكان لها الأثر البالغ في إيجاد الانحرافات التي حفرت في الجسد الإسلامي حفر نازفة سنتعرض لها في حينه، وبعد فتح مكة وفي العام التاسع كانت فورة النفاق. حيث دبرت حادثة اغتيال

____________

(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن بلفظ " أنت أخي في الدنيا والآخرة " (الجامع 636 / 5) ورواه أحمد عن عمر بن عبد الله عن أبيه عن جده (222 / 10 تحفة الأحوازي) ورواه أبو يعلى عن علي (كنز العمال 140 / 13) ورواه الحاكم عن ابن عمر (598 / 11 كنز).

الصفحة 162
الرسول وبناء المسجد الضرار. وعلى إثر هذه التطورات كان للدعوة موقفها الجازم من خدمة النفاق والشرك. فقبل نزول سورة براءة كانت سيرة الرسول. أن لا يقاتل إلا من قاتله ولا يحارب إلا من حاربه وأراده. وقد كان أنزل عليه في ذلك: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يقاتل أحدا قد تنحى عنه واعتزله. حتى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين. من اعتزله ومن لم يعتزله إلا الذين قد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إلى مدة. ومنهم: صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو. فقال تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) (1)، لقد جعلهم في مأمن من هذه البرهة من الزمان. وتركهم بحيث لا يتعرض لهم بشر حتى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو الفناء. وأخبرهم أن الأصلح بحالهم رفض الشرك فإذا انتهت المدة ولم يستقروا على الأصلح. فالفناء (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (2)، فالبراءة بعد العهد لا بد أن يكون سببها التعدي من جانب المخلوق. وسورة براءة نزلت بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من عزوة تبوك سنة تسع من الهجرة. وكان الصحابة يسمونها السورة الفاضحة. نظرا لأنها كشفت المخططات ووضعت الجهاز التخريبي في مأزق كما يستفاد من رواية ابن عباس في صحيح مسلم. فعن سعيد بن جبير قال. قلت لابن عباس: سورة التوبة. قال: التوبة!!

بل هي الفاضحة!! ما زالت تنزل. ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحدا إلا ذكر فيها (3).

فما هي الأحداث التي أدت إلى نزول الوحي بقوله تعالى: (كيف يكون

____________

(1) سورة التوبة: الآية 1.

(2) سورة التوبة: الآية 5.

(3) رواه مسلم (كنز العمال 420 / 2).

الصفحة 163
للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلى قوله تعالى - قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم...) (1)، ومن المعلوم أن أبا عامر مؤسس المسجد الضرار كان على علاقة وطيدة بمشركي المغرب والمنافقين في كل مكان. ولقد اتفق مع الجميع على أن يتوجه إلى قيصر الروم ويحثه على غزو المدينة، وعلى امتداد هذه المساحة تمت محاولة اغتيال الرسول وبناء المسجد الضرار ويبدو أن هناك مؤامرة اتفق عليها الحاقدون على الإسلام في مكة بعد فتحها وطائفة المشركين وتيارات النفاق - والدليل على ذلك فورة الصد عن سبيل الله التي تحدث القرآن والسنة عنها بعد فتحة مكة. تلك الفورة التي اختفت وراء جدار يرتدي ثياب الإسلام. ومن الدليل أيضا أن هذه الفورة استهدفت علي بن أبي طالب أيضا.

وذلك حينما أشاعوا يوم أن تركه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يوم ذهابه إلى تبوك. إن النبي تركه مع النساء والصبيان وأنه قد استثقله وتخفف منه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر مشركي مكة بعد صلح الحديبية. أن لهم يوما من علي بن أبي طالب حيث سيقاتلهم على تأويل القرآن كما قاتلهم على تنزيله.

وسنتحدث عن هذه الأخبار في حينه. فدائرة الحقد على الإسلام كانت تختزن في ذاكرتها ما تخبئه لهم الأيام. وظل اتباع هذه الدائرة يكيدون للدعوة في حياة الرسول وبعد مماته صلى الله عليه وسلم على هذا الأساس فضلا على كراهيتهم الأصيلة للدعوة.

ومن الواضح أن دائرة الرجس ودائرة الدنس. اتفقتا على ثقافة يقتحمون بشذوذها المجتمع الإسلامي. ويتبين هذا من الحكم الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب إلى المشركين. حيث قال: " لا يطوفن بالبيت عريان "، وكانت سنة العرب في الجاهلية عندما يقصدون البيت الحرام. إن من دخل مكة وطاف البيت في ثيابه. لم يحل له إمساكها. وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف. فكان من جاء إلى مكة يستعير ثوبا ويطوف فيه ثم يرده.

ومن لم يجد من يعيره ولم يكن إلا ثوابا واحدا. طاف بالبيت عريانا.

____________

(1) سورة التوبة: الآية 7 - 14.

الصفحة 164
والأحاديث الصحيحة تخبر بأن الفترة الأخيرة - بعد تبوك - إن امرأة طافت بالبيت عريانة وأشرف لها الناس. فوضعت إحدى يديها على قبلها والأخرى على دبرها. وقالت شعرا:

اليوم يبدو بعضه أو كله * فما بدا منه فلا أحله

فلما فرغت من الطواف هرول إليها جماعة من الناس. ومن هذا يظهر والله أعلم أن فروع التآمر كانت كثيرة، وعندما نزلت السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها مع أبي بكر إلى المشركين. فلما خرج أبو بكر نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في طلب أبي بكر. فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات - وفي رواية - قال أبو بكر يا رسول الله نزل في شئ؟

قال: لا ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك (1)، وفي الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم. دعا أبا بكر رضي الله عنه ليقرأها على أهل مكة. ثم دعا لي فقال لي: ادرك أبا بكر فحينما لقيته فخذ الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى النبي فقال: يا رسول الله نزل في شئ؟ قال: لا ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك (2).

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث

____________

(1) رواه الإمام أحمد (البداية والنهاية 358 / 7، في تفسير ابن كثير 331 / 2)، ورواه بلفظ آخر الترمذي وحسنه، (الجامع 275 / 5)، وقال في الفتح الرباني، الحديث سنده صحيح وله شواهد كثيرة تعضده منها عند البخاري والإمام أحمد أيضا من حديث أبا هريرة ومنها حديث أنس عند الترمذي وحديث ابن عباس عنده أيضا (الفتح الرباني 157 / 18).

(2) الفتح الرباني، وقال: وقال الهيثمي رجاله ثقات. وأورده ابن كثير في التفسير والحافظ السيوطي في الدر المنثور وروى نحوه الترمذي وحسنه (158 / 7).

الصفحة 165
عليا رضي الله عنه على أثره. فأخذها منه. فكان أبا بكر وجد في نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي رافع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله ببراءة إلى الموسم. فأتى جبريل عليه السلام. فقال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك، فبعث عليا رضي الله عنه على أثره. حتى لحقه بين مكة والمدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.

فذهاب علي بن أبي طالب، علاوة على أنه لا يؤدي عن النبي إلا هو كما ورد في الحديث الصحيح عن حبشي بن جنادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي " (1)، إلا أنه يستقيم مع الأحداث حيث فورة النفاق، وحيث إخبار النبي لقريش يوم الحديبية بأن لهم من علي بن أبي طالب يوما فعن ربعي بن علي، أن النبي قال لهم يومئذ: يا معشر قريش لتنتهين أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين.

قد امتحن الله قلبه على الإيمان. قالوا: من هو يا رسول الله؟ وقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل.

وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها (2).

لهذا نقول أن بعث علي بن أبي طالب بسورة براءة له أبعاد متعددة. فأبو بكر لم يثبت أن له قتيل في الإسلام. ولم يكن رضي الله عنه مشهورا بالشجاعة ولقاء الحروب. وأيضا لم يكن جبانا ولا خوارا. وإنما كان رجلا عاقلا ذا رأي وحسن تدبير، والآيات تحمل منهجا لا مهادنة فيه ولا مساهلة. فإعطاؤها لأبي بكر أولا ثم إعطاؤها لعلي بعد ذلك فيه تلويح بالعصا الغليظة.

وحول هذا الحديث أدلى كل منهم بدلوه، فقال البعض: إن النبي بعث عليا بالسورة لأن من عادة العرب أن لا يحل ما عقده الرئيس منهم. إلا هو أو

____________

(1) سبق التخريج.

(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 634 / 5) وابن جرير وصححه والضياء (كنز العمال 173 / 13).

الصفحة 166
المتقدم من رهطه. فإذا كان كذلك. فهل يجوز أن يجري النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته وأحكامه على عادات الجاهلية؟ ثم لو كانت سنة عربية جاهلية فما وزنها في الإسلام وما هي قيمتها عند النبي، وقد كان ينسج كل يوم سنة جاهلية وينقض كل حين عادة قومية. ثم إذا كانت سنة عربية ومعروفة للنبي قبل بعثه أبا بكر بسورة براءة. فما باله لم يعتمدها في الابتداء، ويبعث إليهم بمن يجوز أن يحل عقده من قومه؟ هل نسيها النبي حين سلم الآيات إلى أبي بكر.

وعندما خرج أبو بكر ذكر النبي ما نسيه. هل يجوز ذلك وهو صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى في مكارم الأخلاق واعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم وحسن التدبير. ثم إذا كانت سنة عربية فلماذا لم يذكر النبي ذلك عندما رجع إليه أبو بكر ليسأله. وقال له: إنه أوحي إلي أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني ".

إن كلمة " أوحي إلي " أو " أخبرني جبريل " في الحديث. هي المحك في الحدث. والذي يمكن أن يقال عند الجمع بين الروايات. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلم إلى أبي بكر السورة. بإذن الله. إلا أنه لم يأمر بأدائها ولا كلف بقراءتها على أهل الموسم. سلمت إليه وأمر بالتوجه إلى أن يأذن الله فيها. وقد قال البعض: إن الفائدة في ذلك ظهور فضل علي بن أبي طالب ومرتبته. ولكني أميل أن ظهور الفضل في مساحة الأحداث كلها علاوة على المناقب التي وضعت حول علي على امتداد الرحلة أوقع من ظهوره في هذه المساحة الضيقة. فعلي لم يذهب ليبلغ براءة فقط وإنما ليبلغ أحكاما أيضا. فهو يبلغ كلمة الوحي وكلمة الرسول عن الوحي. فعن زيد بن يثبع قال سألنا عليا بأي شئ بعثت في الحجة.

قال: بعثت بأربع أن لا يطوف بالبيت عريان. ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا (1).

____________

(1) رواه الترمذي وصححه (الجامع 276 / 5) وأحمد وابن جرير بسند صحيح (الفتح الرباني 159 / 18).

الصفحة 167
من هذا نعلم أن علي بن أبي طالب كان يتحرك في ساحة واسعة تجري عليها أحداث متعاقبة في العام التاسع الهجري، ترى ماذا يقول أصحاب الرأي القائل أن من عادة العرب أن لا يحل ما عقده الرئيس إلا المتقدم من رهطه. إذا قلنا لهم. إذا كان علي بن أبي طالب هو الذي أناب عن الرسول في حل عقدة من قومه. باعتبار أنه المتقدم في رهطه والذي يؤدي عنه. فمن غير علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول يحسم ما أعلنه علي على القوم في حياة الرسول. والسنة العربية تقول أن التفاوض لا يكون إلا مع الرئيس أو المتقدم من رهطه.

وخصوصا أن الآيات التي رفعت الأمان في سورة براءة عن المشركين لم تهمل أي طريق يرجى فيه الوصول إلى الهداية. قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (1)، قال ابن كثيرة: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم استأمنك فأجبه إلى طلبه حتى يسمع القرآن فقرؤه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله. ثم اعطه الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره. وإنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاء مسترشدا (2).

إذا فهناك عقود أمان. فإذا كان علي بن أبي طالب حل عقد رسول الله من قومه - فحسب عادة العرب - من الذي ينظر في عقود الأمان الجديدة. فيتمها إلى مدتها أو يحلها؟ لهذا نقول أن القول بأن بعث علي بن أبي طالب بسورة براءة خرجت شجرته من عادات العرب. قول لا يلتفت إليه لما سيترتب عليه من إشكال.

____________

(1) سورة التوبة: الآية 6.

(2) تفسير ابن كثير 337 / 2.

الصفحة 168


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net