متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
5 - حجة الوداع وإعلان الولاية
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

5 - حجة الوداع وإعلان الولاية:

في العام التاسع الهجري كانت فورة التفاور والشرك. فمن تحت جلباب الإسلام تحركت دائرة الرجس لتكيد للإسلام. ومن تحت لافتة المعاهدات تحركت دائرة البخس لتعرقل المسيرة. ولكن الله رد كيدهم في نحورهم بإنزال سورة براءة التي جعلت جميع دوائر الصد عن سبيل الله تقف لتحكم المخزون الفطري عند كل إنسان فيهم. وإلا فالسيف، ولا يتصور عاقل أن دوائر الصد بعد سورة براءة. قد ألقوا بسلاحهم وهرولوا في إتجاه الإسلام تائبين عابدين. فقد يكون هناك من أسلم وحسن إسلامه. وقد يكون هناك من أسلم إلي حين تأتيه الفرصة. أو أسلم ثم ارتد وكتم ارتداده أو لم يسلم أصلا، وهرب حتى يشتد عوده. فهؤلاء وغيرهم لم ينتهوا بنزول سورة براءة أو برحيل النبي صلى الله عليه وسلم. لأن جذورهم في الأرض منذ أن طرد إبليس اللعين. وفي كل جيل تخرج الفروع وأوراق الفتنة من الجذور، ثم يستأصلها الله من عنده أو بأيدي الذين آمنوا، ثم تخرج لتستأصل ليكون استئصالها عنوانا لهزيمة الباطل على امتداد التاريخ الإنساني. وسورة براءة أشارت إلى أعلام هؤلاء، قال تعالى:

(فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم) (1)، وكان حذيفة بعد وفاة الرسول يقول: " ما قوتل أهل هذه الآية بعد " (2)، وقوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) (3)، وكما أن جذور هؤلاء ممتدة في طين الشذوذ.

فكذلك جذور البغي. فالبغاة لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم. لأن جذورهم في عهدهم لم تكن قد أخرجت فروعها العتية بعد. والقرآن أخبر بهم فقال تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله) (4)، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم بمقتضى هذه الآية. إنه سيكون بغي. ولذا أخبر عن

____________

(1) سورة التوبة: الآية 12.

(2) أخرجه ابن أبي شيبة (كنز العمال 426 / 1) وسيأتي الكلام عنه في موضعه.

(3) سورة التوبة: الآية 36.

(4) سورة الحجرات: الآية 9.

الصفحة 169
أعلامه. وأقام الحجة على كل من له عينين ولسانا وشفتين. ودثرت حجته التاريخ كله. كما أخبر عن ربه بكيفية قتال المشركين كافة. وحذر من اتباع سننهم التي تقود من ركبها إلى الوحل. فإذا كان امتداد المسيرة أمام الرسول في عالم الغيب. امتدادا مكشوفا. وعلى امتداده يرى الرسول العوائق والسحب الداكنة. إذا كان هذا ثابتا فكيف يسوغ لمتوهم أن الدين لا يحتاج إلى حافظ يحفظه حق الحفظ. الدين الذي يحتوي على جميع ما يتعلق بالمعارف الأصلية والأصول الخلقية والأحكام الفرعية العامة بجميع حركات الإنسان وسكناته. ليس في حاجة إلى حفظ من الذين أخبر الله عنهم أنهم يقاتلون الإسلام كافة؟ هذا الدين ليس في حاجة إلى قيادة تأمر المسلمين كافة بقتال من يقاتلونهم كافة. هل الأمة الإسلامية والمجتمع الديني مستثنى من بين جميع المجتمعات الإنسانية ومستغنية عن وال يتولى أمرها ومدبر يدبرها ومجر يجريها... إن الحشرات فطرت على أمير. وفي عالم النحل والنمل وفي عالم الطيور والوحوش ألف ألف دليل. وبأي غرر يمكن أن يعتذر إلى الباحث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. حيث يرى أنه كان إذا خرج إلى غزوة. خلف مكانه رجلا يدير رحى المجتمع. ألم تر أنه خلف عليا مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك؟

ويؤمر رجالا على السرايا والجيوش التي يبعثها إلى الأطراف. لقد كان في حياته يفعل ذلك. وأي فرق بين زمان حياته وما بعد مماته في حين أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيب عن ربه. يفيد بأن تعيين حارس للدين بعد موته أشد والضرورة إليه أمس ثم أمس. والنبي صلى الله عليه وسلم هو القائل:

" الإسلام والسلطان أخوان توأمان. لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أس (1) والسلطان حارث. وما لا أس له يهدم وما لا حارث له ضائع " (2)، قد يقال: لقد كان الحفظ في أيدي أهل الحل والعقد. فنقول: ونحن لا نقلل من وزن أهل الحل والعقد ولا من هيبتهم. ولكن الأحاديث الصحيحة أشارت إلى وجود أئمة مضلين في بطن الزمان يتكلمون بألسنتنا ويدعون إلى النار. ونحن

____________

(1) أس / أي أصل البناء.

(2) رواه الديلمي (كنز العمال 10 / 6).

الصفحة 170
ليست لدينا القدرة على تمييز الصالح من الطالح. إنما القادر هو الله. والناظر في التاريخ والمتدبر في الأحداث بعد رحلة النبي صلى الله عليه وسلم يرى كم من دائرة إسلامية اجتمع فيها أهل الحل والعقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه. ثم سلكوا طريقا يهديهم إلى رأيهم. فلم يزيدوا إلا ضلالا. ولم يزد اسعادهم المسلمين إلا شقاء. ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي صلى الله عليه وسلم. دون أن عاد إلى امبراطورية ظالمة. إن التاريخ أمامنا والأحاديث التي تخبر بما في بطن التاريخ إذا انحرفت الأمة بين أيدينا. والقرآن شاهد على الحديث وعلى حركة التاريخ. فليبحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما استتبعته من دماء مسفوكة.

وأعراض مهتوكة وأموال منهوبة. وأحكام عطلت. وحدود أبطلت. ثم ليبحث الناقد في منشئها وأصولها وأعراقها... وسيرى أن الأسباب العاملة فيها تنتهي إلى ما رآه أهل الحل والعقد من الأمة. ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس.

وقد يقال: إذا كان الطالح له أثر فإن هذا لا يعني أن الصالح في أهل الحل، والعقد ليس له أثر. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الأمر في قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله) (1)، فنقول:

لقد كان في الصحابة عظماء أفذاذ قاتلوا وقتلوا في سبيل الله ومنهم من انتظر دوره ليفدي الدين بما عاهد الله عليه. ولكن من الذي كان يشاورهم؟ إنه الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى. ويخطئ من يظن أن مشاورته كانت عن قلة في علم ما. فمعاذ الله أن يكون هذا في من وضع الله على عاتقه تعليم البشرية.

لقد كانت المشاورة أحيانا فيما يتعلق بحركة الدعوة بين القبائل. وأحيانا لإرساء قاعدة التآلف بين القلوب. وفي الآية الكريمة. أشركهم الله بالنبي في المشاورة " وشاورهم في الأمر " ثم وحده في العزم " فإذا عزمت فتوكل على الله ". إن المشاورة حق فطري. والذي يسوق الناس إلى الصراط المستقيم أمر فطري.

ودائرة العزم لا يجلس فيها إلا من كان على علم بكتاب الله. وإلا فالطريق إلى

____________

(1) سورة آل عمران: آية 159.

الصفحة 171
اختلاف الأمة إلى أكثر من سبعين شعبة. طريق مفتوح. لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه "، فإذا كان للطالح أثرا على امتداد التاريخ. فإن هذا يؤيد وجود الصالح. ولا شك في هذا. لأن وجود الصالح حجة على وجود الصالح. والصالح في دائرة العزم لا بد أن يشير إليه نص. فكم من إنسان، فرادى ومجتمعين. ظنوا أنهم يحسنون صنعا.

وبصنيعهم تربعوا في دائرة الصلاح. وفي الحقيقة إنهم في دائرة الأخسرين أعمالا. والسبب أنهم ضلوا. والضلال لا يستقيم مع الصلاح. ولأن الله تعالى يقول: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (1)، فإنه تعالى أولى بتحديد من يسوق الناس إلى صراط الله بعد رحيل رسوله. وخاصة أن الدوائر في حياة رسوله قد تكاتفت على عرقلة المسيرة التي يختبر الله تعالى الناس فيها لينظر كيف يعملون. فالذي يختبر لا بد أن يحدد الطرق ويقيم الحجج. حتى لا يكون للناس على الله حجة. أما أن نقول إن الأمر كله في أيدي أهل الحقل والعقد. فإن هذا القول فيه تساهل كبير. ونحن هنا سنتتبع مكان القمة في موضعين: في حجة الوداع. وفي غدير خم. لنرى بماذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net