متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أولا - حجة الوداع
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

أولا - حجة الوداع:

في العام التاسع الهجري، كانت فورة الشرك والنفاق. وكان علي بن أبي طالب في المدينة وكان من الرسول بمنزلة هارون من موسى عدا النبوة. وفي هذا العام نزلت سورة براءة وقرأها علي بن أبي طالب وما معها من أحكام على أهل مكة وما حولها. وجاء العام العاشر الهجري وفيه بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع وفي هذا العام نزلت سورة المائدة فكانت آخر ما نزل من القرآن. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج إلى حجة الوداع من المدينة. خرج إليها علي بن أبي طالب من اليمن وقال: لبيك يا هلالا كإهلال

____________

(1) سورة القلم: الآية 7.

الصفحة 172
النبي (1)، وحضر الحج في هذا العام نحو أربعين ألفا من المسلمين (2)، وروي أن عليا أتى من اليمن بهدي بلغ مجموعها مع ما أتى مع النبي صلى الله عليه وسلم مائة. فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين. ثم أعطى عليا فنحر ما تبقى. وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة (قطعة من اللحم) فجعل في قدر. فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها (3)، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما هم بذبح الهدي قال: إدع لي أبا حسن.

فدعى له علي. فقال: خذ بأسفل الحربة. وأخذ رسول الله بأعلاها ثم طعنا بها البدن. فلما فرغ ركب بغلته وأردف عليا (4)، وعندما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس. كان علي بن أبي طالب يعبر عنه (أي يبلغ حديثه) - عليهم السلام -، قال القارئ: وقف علي حيث يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم فيفهمه فيبلغه للناس ويفهمهم من غير زيادة ولا نقصان.

كان علي بن أبي طالب يبلغ عنه والناس بين قائم وقاعد. والناس شاهدوا الرسول وعلي منذ بداية الشعائر ينحر معه، وتباركة في الهدى ويأكل معه. ويعبر عنه، ومن قبل سمعوا بقصة تبليغ براءة وبمنزلة هارون من موسى. وبغض المنافقين لعلي. وقبل ذلك سمعوا يوم خيبر أن عليا يحبه الله ورسوله. وشاهدوا يوم أن ناجاه رسول الله وطالت نجواه. وعاينوا يوم أن سد النبي جميع الأبواب إلا باب علي. وعلموا وشاهدوا حديث الكساء وحديث المباهلة. وتأكدوا أن عليا أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأوسعهم حلما. وأن سيفه لا تخشى في الله لومة لائم. كل هذا وغيره علموه وشاهدوه. فأي إشارة من النبي إلى علي يجب أن تفهم على بساط الفطرة. لأنها لن تفهم على طريق الحفائر والارتياب والجدل العقيم. فإذا وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيما رواه

____________

(1) رواه ابن حبان في صحيحه (البداية والنهاية 130 / 5).

(2) رواه أحمد ومسلم (الفتح الرباني 137 / 5) (تفسير ابن كثير 77 / 2).

(3) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 81 / 11)، ورواه ابن حبان (البداية 118 / 5).

(4) رواه أبو داود (البداية 189 / 5).

الصفحة 173
جابر بن عبد الله. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: " يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (1)، إن هذا الاعلان لا يحتاج إلى جدل طويل على بساط الفطرة. حيث أن الساحة عليها دائرة رجس لا بد أن تجابهها دائرة تطهير. وإذا علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع فيما روي عن يحيى بن آدم السلولي، وكان قد شهد يوم حجة الوداع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " علي مني وأنا منه ولا يودي عني إلا أنا أو علي " (2)، فهذا الاعلان أيضا لا يحتاج إلى جدل طويل.

لأنه من قماشة واحدة بدأت عندما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، لقد كانت البداية من هنا. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم منذ البداية لعشيرته كما ورد في الحديث الصحيح " أيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي " (3)، فلم يقم إليه أحد وقام علي بن أبي طالب وبايعه على ذلك. وليس هذا من قماشه حديث: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "، وذلك بعد أن اتسعت دائرة الضوء وفقا لحركة الدعوة. ثم ألا يتفق ذلك مع قماشة يوم تبليغ سورة براءة حيث قال النبي: " جاءني جبريل فقال، لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك " فما الغرابة إذن في فهم الموقف يوم حجة الوداع. حيث قال النبي: " علي مني وأنا منه ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي "، وجميع ذلك من نسيج قوله تعالى يوم المباهلة. (وأنفسنا وأنفسكم).

فإذا كان هذا البلاغ قد تم في حجة الوداع. وإذا كان في نفس الحجة قد نزل عشية يوم عرفة (4)، قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا

____________

(1) رواه أبو داود والنسائي أحمد (البداية والنهاية 198، 199 / 5).

(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).

(3) أخرجه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23) والترمذي وقال حديث حسن (الجامع 299 / 2) وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 357 / 5.

(4) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 174 / 13) وقال في الفتح الرباني رواه أحمد وإسناده ص (الفتح 224 / 23).

الصفحة 174
تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (1)، علمنا أن الكفار قد يأسوا في اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم فيه نعمته. فماذا كان يريد الكفار قبل أن يضربهم اليأس؟ لقد كان الدين هو المبغوض عند دوائر الصد من سبيل الله. فالشيطان منذ اليوم الأول وضع في برنامجه عرقلة الصراط المستقيم. وعلى امتداد التاريخ سارت جحافل الليل نحو هذه الغاية. فحاولوا في الرسالة الخاتمة هدم البنيان الرفيع من أسر بتفنين المؤمنين. وبث النفاق في جماعتهم وإلقاء الخرافات بينهم لإفساد دينهم. في بداية الأمر صدوا بالمال والجاه والجلد بالسياط والطرد من الأوطان. ثم طوروا الصد إلى محاولة قتل النبي. لقد كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة. وسلطنة في لباس الدعوة والرسالة. ولقد كان موته آخر ما يرجونه في زوال الدين وموت الدعوة. وذلك لأنه لا عقب له. ومن لا عقب له في قانونهم إذا مات أو قتل انقطع أثره ومات ذكره وذكر دينه. على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين والجبابرة. فهؤلاء مما بلغ أمرهم. فإن ذكرهم يموت بموتهم وقوانينهم تدفن معهم في قبورهم. ولذلك كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دعوه، فإنه رجل أبتر لا عقب له فإذا هلك انقطع ذكره فأنزل الله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) (2).

فإذا كانت ثقافة الكفر تنطلق من هذا المفهوم. فكيف يكون الحال إذا بلغهم قول النبي " علي مني وأنا منه ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي "، أو تحديد النبي لدائرة الطهر التي لا تفارق القرآن ولا يفارقها. ألا يكون اليأس لهم عنوانا على امتداد التاريخ الإنساني. وذلك لأن الصراط المستقيم أصبح له من يسوق الناس إليه بعد وفاة الرسول. ثم أليس إغلاق الباب في وجوههم إكمالا للدين وإتماما للنعمة وإقامة للحجة. لينظر الله كيف تعمل الأمة الخاتمة تحت قانون سنة الابتلاء الجارية. فقوله تعالى: (فلا تخشوهم واخشون)، يفيد هذا

____________

(1) سورة المائدة الآية 3، نزول الآية يوم عرفة رواه أحمد والشيخان والترمذي (الفتح الرباني 126 / 18).

(2) سورة الكوثر: آية 3.


الصفحة 175
المعنى. قال المفسرون: أي لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم. فأنتم في مأمن من ناحية الكفار. ولا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم. فلا تخشوهم واخشوني. فالدين مصون من الخطر المتوجه من قبلهم. وإنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم. وإن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة.

ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي. ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقمة ويذيقهم لباس الجوع والخوف.

ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية من قوله: (فلا تخشوهم واخشون)، فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم. ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا وأعراقها. لقد يأس الكفار عندما أيقنوا أن الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم خرج عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي. إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي. والحامل الشخصي عمود فقري للحامل النوعي. ولقد ضربهم اليأس عندما علموا أن الدين خرج من صفة الظهور والحدوث. إلى صفة البقاء والدوام. وصفة الظهور والحدوث رحى تدور عليها صفة البقاء والدوام. وفي عالم اليأس قرقعت أنياب الحيتان. وسرى صوتها ليلا في الوادي الواسع العريض.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net