متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثانيا - الأمر العسكري الأخير
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثانيا - الأمر العسكري الأخير:

ذكرنا أن النبي في حجة الوداع أعلن على الناس وفاته وذلك في قوله:

" لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا "، كما قال مثل ذلك في غدير خم. ويمكن أن تكون المساحة الزمنية بين هذا الإعلام وبين حدوث الوفاة زاخرة بالاجتماعات وترتيب الأوراق بالنسبة لجميع الأطراف. وشاء الله عز وجل أن يكون هناك حدث يستدعي تجهيز جيش ليصدر النبي قرارا ببعث هذا الجيش إلى مهمة خارج الدولة، ويكون هذا الجيش بقيادة أسامة بن زيد وينتظم تحت هذه القيادة جميع الأطراف وكبار الصحابة باستثناء علي بن أبي طالب. وكان وجود علي في المدينة لهدف كما كان لوجوده فيها يوم تبوك هدف. وروى أصحاب التواريخ والسير أن هذا الجيش أمره الرسول أن يسير إلى مؤتة (وادي في فلسطين) وروى البلاذري في تاريخه وهو معروف بالثقة والضبط أن أبا بكر وعمر معا كانا في جيش أسامة (1)، وذكر الواقدي في كتاب المغازي أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة وإنما كان عمر وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم. وقال الواقدي إن أبا بكر استأذن رسول الله فأذن له فذهب إلى داره بالسنح وكان بها منزله حين تزوج ابنة خارجة.

وبالجملة: اتفق جميع المؤرخين على أن عمر كان بالبعث وروى البلاذري وهو ثقة أن أبا بكر كان أيضا ضمن الجيش وقال غيره غير ذلك.

____________

(1) راجع (الطبقات الكبرى (190 / 2، 66، 66 / 4) والكامل 317 / 2 في أنساب الأشراف 474 / 1، اليعقوبي 93 / 2، كنز العمال 312 / 5، تاريخ ابن عساكر 391 / 2، الفتح الرباني 222 / 21.

الصفحة 268
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخروج الجيش. فلما أصبح يوم التاسع والعشرين من صفر ووجدهم متثاقلين خرج إليهم فحضهم على السير وعقد اللواء لأسامة بيده تحريكا لحميتهم، ثم قال: أغز باسم الله وفي سبيل الله وقاتل من كفر بالله (1)، فخرج أسامة بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف ثم تثاقلوا هناك وطعن قوم منهم في تأمير أسامة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك يوم السبت قبل وفاته بيومين. وبعد أن قالوا: " هجر " بيومين. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس.

ما مقالة بلغني عن بعضكم في تأميري أسامة ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبل (2)، وحضهم على المبادرة إلى السير، وروى الشهرستاني أن النبي قال: " جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه... (3) فلحق الذين تثاقلوا من قبل بالجيش. ثم نقل إليهم أن النبي قد ثقل عليه المرض فبدءوا في التثاقل وعندما نقل إليهم خبر الوفاة رجعوا إلى المدينة التي كانت ترجف بأهلها.

إن حروب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن لدنيا وإنما لدين. وكان للدين فيها أقوى تعلق لما يعود على الإسلام وأهله بعلو كلمة. وحروب النبي صلى الله عليه وسلم كانت بأمر من الله عز وجل. وكان الملائكة يشاركون في معظمها لتثبيت الذين آمنوا ونصرة الفطرة. وتخاذل الناس في الحروب حدث على امتداد الرسالات السماوية في أقوام الأنبياء الذين أمروا بالقتال مع رسلهم.

ولقد حدث تخاذل من البعض في المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم. حدث هذا يوم أحد ويوم حنين ويوم تبوك. أما التخاذل عن بعث أسامة فقد حمل ملامح إضافية وهي أنهم طعنوا في تأمير أسامة عليهم. وهذا

____________

(1) السيرة الحلبية 234 / 3.

(2) رواه البخاري ب مناقب المهاجرين (الصحيح 303 / 2) وأحمد (الفتح الرباني 222 / 21) الطبري (تاريخ الأمم 312 / 3)، ابن سعد (الطبقات 190 / 2).

(3) الملل والنحل / الشهرستاني 23 / 1.

الصفحة 269
الطعن في حقيقة الأمر موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى أسامة لأن الذي أمر أسامة هو الرسول. ولهذا خطب النبي ولعن من تخلف عن البعث. وطعنهم في تأمير أسامة أجمع عليه أهل السير والأخبار وأرسلوا ذلك في كتبهم إرسال المسلمات ورواه الإمام أحمد والبخاري وغيرهما. وتأمير أسامة والأمر بخروج الجيش ربما والله أعلم يكون من باب الأخذ بالأسباب. فالرسول قال لعلي كما في الحديث الصحيح أن الأمة ستغدر به. وإن لهذا الغدر أسباب منها أنهم سيتذرعون بصغر سنه. لذا أمر أسامة على عظماء قريش وشيوخها.

وكان أسامة غلاما لم يبلغ ثماني عشرة سنة وقتئذ. كي يبين لهم ولغيرهم بأن المؤمن يجب عليه أن يسمع ويطيع ولو وجد في نفسه حرجا مما قضى النبي ويسلم تسليما وتأمير أسامة عليهم إرغام لهم على السمع له ليكون سمعهم لأسامة مدخلا تتقبله نفوسهم بعد ذلك إذا وجدوا من هو أصغر منهم سنا على رأس الخرقة. ولكن القوم فطنوا إلى ذلك فقالوا القول الذي لا يبقي للقيادة أي مزية أو فضل وإلا فما معنى الطعن في إمارة من أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد أخلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قبل وفاته بتعبئة شيوخ قريش تحت إمرة أسامة وإخلاء المدينة من هذه القوة في هذا الوقت بالذات. فيه أنه علم من ربه أن المدينة لن تهاجم من قبل الروم أو الفرس. في هذه الفترة.

لذا أمر عليه الصلاة والسلام بالبعث لعل البعث يكون فيه شفاء. قال تعالى:

(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (1)، قال المفسرون:

تؤذن بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار مصون من الخطر المتوجه من قبلهم وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم وإن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقمة ويذيقهم لباس

____________

(1) سورة المائدة: الآية 3.

الصفحة 270
الجوع والخوف، ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله: (فلا تخشوهم واخشون) فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم. حيث انهدام الوحدة الدينية وظهور الفرقة ونفاذ القوة وذهاب الشوكة. ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا وأعراقها.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net