متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ب - الاقتحام بالشعر
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ب - الاقتحام بالشعر:

كان الشعر سلاحا فعالا على ساحة ضاقت فيها دائرة الرواية. ولا نقصد بذلك عموم الشعر. وإنما نقصد الشعر الذي يصد عن سبيل الله ويضرب الأخلاق في جذورها. ولأن الطريق إلى المجون يبدأ دائما من دائرة البخس. فلقد حذر تعالى من الاقتراب من هذا الطريق، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (3)، وقال: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) (4)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) (5)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) (6)، إلى غير ذلك من الآيات وقد تكلمنا عنها فيما سبق. وفي الوقت الذي أمر فيه تعالى بهذه الأوامر لحفظ دينه على امتداد الأرض. أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحصين مركز القيادة وإشعاع الثقافة الإسلامية في حديث رواه الشيخان وغيرهما. وذلك عند وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " اخرجوا المشركين من جزيرة العرب " وحدد قبائل بعينها وصفهم بأنهم شر القبائل فقال: " شر قبيلتين في العرب نجران وبني تغلب " (7)، وكانت هذه القبائل مركزا خصبا للنصرانية. وروي عن ابن عباس أنه قال: " لا

____________

(1) نقض الحديث الذي يخص القاص نوف البكالي.

(2) نقصد حديث النقل عن أبي هريرة.

(3) سورة المائدة: الآية 51.

(4) سورة آل عمران: الآية 69.

(5) سورة البقرة: الآية 109 (6) سورة الممتحنة: الآية 1.

(7) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 71 / 10).

الصفحة 342
تؤكل ذبائح نصارى بني تغلب ولا تنكح نساؤهم. ليسوا منا ولا من أهل الكتاب " (1). وكان الإمام علي بن أبي طالب يقول في خلافته: " لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي. لأقتلن مقاتلهم ولأسبين ذريتهم " (2)، ولكنه رضي الله عنه لم يعط الفرصة لالتقاط أنفاسه.

فهل خرج المشركون من جزيرة العرب؟ من الثابت أنهم لم يخرجوا إلا قليلا منهم، أما الكثرة فرضيت الدولة منهم بدفع الجزية. روى الطبري وغيره أن الجزيرة افتتحها عمر بن الخطاب في السنة السابعة عشرة هجرية (3). وعندما أراد عمر أن يأخذ الجزية من نصارى بني تغلب فروا إلى أرض الروم. فقال النعمان بن زرعة لعمر: أنشدك الله في بني تغلب فإنهم قوم من العرب يغضبون من ذكر الجزاء وهم قوم شديدة نكايتهم، فصالح عمر بني تغلب بعدما قطعوا الفرات وأرادوا اللحاق بأرض الروم. على أن لا ينصروا وليدا ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام. فأعطى بعضهم ذلك وأخذوا به وأبى بعضهم إلا الجزية (4)، ثم نقض بنو تغلب عهدهم مع عمر ونصروا أولادهم. فضاعف عمر عليهم الجزية فقالوا: إنا نرضى ونحفظ ديننا (5)، واستمر الحال على ذلك. وفي عهد عثمان بن عفان. أراد عثمان أن لا يقبل من بني تغلب في الجزية إلا الذهب والفضة. فجاءه الثبت أن عمرا أخذ منهم ضعف الصدقة فرجع عن ذلك (6).

مما سبق نعلم أن الدولة اجتهدت في وصية النبي صلى الله عليه وسلم فبدلا من إخراجهم قبلوا منهم الجزية لما رأوا أن المصلحة في ذلك. بل لم تقف الدولة عند هذا الحد بل جاءت بسبي النصارى إلى الجزيرة. ذكر البلاذري:

لما ولي عمر بن الخطاب معاوية الشام حاصر قيسارية حتى فتحها فوجد بها من

____________

(1) فتوح البلدان / البلاذري ص 186.

(2) فتوح البلدان ص 187.

(3) الطبري 198 / 4.

(4) الطبري 198 / 4، فتوح البلدان ص 186.

(5) فتوح البلدان ص 186.

(6) فتوح البلدان ص 187.

الصفحة 343
المرتزقة سبعمائة ألف ومن السامرة ثلاثين ألف ومن اليهود مائتي ألف، ووجد بها ثلاثمائة سوق قائمة كلها. وقد بلغ سبي قيسارية أربعة آلاف. فلما بعث به معاوية إلى عمر بن الخطاب. قسمهم على يتامى الأنصار وجعل بعضهم في الكتاب والأعمال للمسلمين (1). وكان أبو بكر أخدم بنات أبي أمامة خادمين من سبي عين التمر فماتا فأعطاهن عمر مكانهما من سبي قيسارية (2)، ولا يخفى ما يترتب على عمل كهذا في ساحة لا رواية فيها.

ونحن سنلقي بعض الضوء على الأرضية النصرانية بالجزيرة لنمسك بأول الخيط الذي نقف اليوم في نهايته. روي أن الوليد بن عقبة كان على رأس القوة التي افتتحت الجزيرة ودخلت إلى ديار بني تغلب. وفي بني تغلب التقى الوليد بن عقبة بأبي زبيد الشاعر. فأما الوليد قال فيه صاحب كتاب الإستيعاب:

لا خلاف بين أهل العلم أن قوله الله عز وجل: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (3)، نزلت في الوليد بن عقبة (4). وعن ابن عباس في قوله تعالى:

(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) (5)، قال: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة، وذكر قصة في ذلك (6)، أما أبو زبيد قال فيه صاحب الإصابة: كان في الجاهلية مقيما عند أخواله بني تغلب بالجزيرة. وكان في الإسلام منقطعا إلى الوليد بن عقبة في ولايته للجزيرة ثم للكوفة (7)، وقال ابن قتيبة: لم يسلم أبو زبيد ومات على نصرانيته. وقال المرزباني: كان نصرانيا وهو أحد المعمرين. يقال عاش مائة وخمسين سنة وأدرك الإسلام فلم يسلم (8)،

____________

(1) أول سبي دخل إلى المدينة من أبناء العجم كان في عهد أبي بكر (تاريخ الطبري 26 / 4).

(2) فتوح البلدان 47.

(3) سورة الحجرات: الآية 6.

(4) الإستيعاب 632 / 3.

(5) سورة السجدة: الآية 18.

(6) الإستيعاب 633 / 3.

(7) الإصابة 80 / 4.

(8) الإصابة 80 / 4.

الصفحة 344
وبقي أبو زبيد إلى أيام معاوية (1).

وبالرغم من أن الوليد بنص الحديث فاسق بما يوافق القرآن. وبالرغم من أن أبا زبيد على أكثر الآراء نصرانيا. فإن الفاروق رضي الله عنه رأى أن من المصلحة العامة أن يكون الوليد واليا على الجزيرة. أما فيما يتعلق بأبي زبيد قال ابن حجر في الإصابة: " استعمله عمر على صدقات قومه ولم يستعمل نصرانيا غيره " (2)، وفي هذه الفترة أصدر عمر بن الخطاب قرارا. روى ابن شهاب أن عمرا كتب إلى أبي موسى الأشعري: " أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام ومرهم برواية الشعر فإنه يدل على معالم الأخلاق " (3)، ورواية الشعر كانت سنة عربية لم يهتم بأمرها الإسلام. ولم يمدح الكتاب الشعر والشعراء بكلمة ولا السنة بالغت في أمره. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " والذي بعثني بالحق لتكونن بعدي فترة في أمتي يبتغي فيها المال من غير حلة وتسفك فيها الدماء. ويستبدل فيها الشعر بالقرآن " (4)، نحن إذا أمام دعوة لرواية الشعر وأمام إخبار بالغيب يقيم الحجة على فترة يستبدل فيها الشعر بالقرآن. وتحت ظلال دعوة رواية الشعر. تقف قبيلة تغلب التي ذمها رسول الله صلى الله عليه وآله. ونصارى الحيرة الذين بقوا على نصرانيتهم حتى العصر العباسي. وقوافل قيسارية التي بعث بهم معاوية إلى عاصمة الخلافة.

وباقي دوائر الصد عن سبيل الله.

وفي عهد عثمان اتسعت الدائرة عندما أزيلت بعض الحواجز. وذلك عندما تولى الوليد بن عقبة ولاية الكوفة. ففي عهده تم الاتصال بنصارى الحيرة وبدأت قوافلهم تجوب المنطقة وراج شعر الأديرة الذي كان له نصيب من التأثير الخفي في الثقافة العقلية. ثم بدأ شعر الخمر يلقي بظلاله ومنه الذي يدعو لنبذ الإسلام

____________

(1) الإصابة 80 / 4.

(2) الإصابة 80 / 4.

(3) ابن الأنباري (كنز العمال 300 / 10).

(4) رواه الديلمي (كنز العمال 187 / 11).

الصفحة 345
صراحة. ولقد قدمنا بعضه في كتابنا " الانحرافات الكبرى " (1)، فمن أراد أن يقف عليه وعلى أصول هذه الفترة فليراجعه هناك. وتحت ظلال شعر الأديرة والخمر. كان الأمير الوليد والشاعر أبو زبيد يضربان بالأخلاق عرض الحائط.

قال صاحب الإستيعاب: أخبار الوليد في شرب الخمر ومنادمته أبا زبيد مشهورة كثيرة (2)، وخبر صلاته بالمسلمين وهو سكران وقوله لهم: أزيدكم بعد أن صلى الصبح أربعا مشهورة من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار (3)، وترتب على ذلك حدوث أول انتفاضة ضد حكم عثمان بن عفان. ضحى أمامها بعزل الوليد. ولكن الشعر بقي وازداد اتساعا. وتطور إلى شعر الغزل ثم إلى شعر المجون. وفي عهد معاوية راج الأدب العربي غاية رواجه وظهر الشعر الذي يحتضن سياسة الحزب الحاكم ومنازعات القبائل ومظاهر العصبية العربية.

وكان الأمويون يبالغون في ترويج الشعر. وربما كانوا يبذلون بإزاء بيت من الشعر أو نكتة أدبية المئات والألوف من الدنانير. وانكب الناس على الشعر وروايته وأخبار العرب وأيامهم وكانوا يكتسبون بذلك الأموال الكثيرة. وبلغ من نفوذ الشعر والأدب في المجتمع العلمي أنك ترى كثيرا من العلماء يتمثلون بشعر شاعر أو مثل في مسائل عقلية.

وبدأ شعر الصد يتسلل في ليل الفتن. وبدأ الشعراء يزحفون نحو مركز القيادة ومن هؤلاء: الأخطل، الذي ولد بالحيرة وكان من بني تغلب. دان بالنصرانية كأكثر قبيلته. ولما ولي يزيد بن معاوية الخلافة. دعا الأخطل إليه وأكرمه. وكذلك أكرمه خلفاء يزيد بن بعده وأسبغوا عليه نعمتهم ولا سيما عبد الملك الذي فضله على سائر الشعراء وأجزل له عطاياه (4)، ومنهم: أعشى بني تغلب كان نصرانيا يقدم شعره في كل مكان ينزل به (5)، وبدأت ثقافة الفتنة

____________

(1) الانحرافات الكبرى / للمؤلف ط دار الهادي بيروت.

(2) الإستيعاب 633 / 3.

(3) الإستيعاب 634 / 3.

(4) تاريخ الأدب العربي 205 / 1.

(5) المصدر السابق 238 / 1.

الصفحة 346
تتسع حتى أصبح النصارى في عهد بني أمية لا يستغنى عنهم في تدبير السياسة كما كان عدد من نصارى الروم قائمين على تدبير الخراج. وكان لكثير منهم جاه عند الخلفاء (1)، ومن عباءة ثقافة الفتنة التي زحفت بالشعر والخمر والمجون نحو أرضية اللارواية. خرجت الآراء التي جاء بها الزنادقة. والنصرانية هي الأصل التي أتت منه جميع هذه الآراء (2)، وخرجت آراء المرجئة على أيدي يحيى الدمشقي وكان أبوه صاحب عبد الملك بن مروان. وقد صنف يحيى كتابا في فضائل النصرانية. ولم يكن عرضا أن ظهرت عند المرجئة والقدرية في الشام آراء يحيى الدمشقي. وفي هذا الطوفان عادت إلى الظهور الأوضاع القديمة لعالم قديم. وأصبحت فيها للمال قوة عظيمة حتى سحقت طاحونه الكبيرة كل قيمة أخرى. وكل شئ صار يعرض من أجل المال وبلغت وصمة حب المال والمكر لتحصيله أعلى طبقات رجال الدولة.

وفي نهاية المطاف ظهر فريق من الشعراء يحتقرون كل ما هو ديني ويجرءون على الجهر بذلك على نحو لم يسبق له نظيرا في عصر من العصور.

فكان أبو العلاء المعري الشاعر بالشام (ولد 363 ه‍) وتوفي عام (449 ه‍) يهاجم كل ما هو ديني مستندا في ذلك إلى وجهة نظر عقلية ومن شعره:

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما * ديانتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا * وبادوا وماتت سنة اللؤماء

وقال:

قد ترامت إلى الفساد البرايا * واستوت في الضلالة الأديان (3)

ثم جاء ابن الراوندي (المتوفى 293 ه‍) ليقول: إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي ما هو أحسن من القرآن (4)، ويروى عن أبي العلاء المعري أنه عارض

____________

(1) المصدر السابق 256 / 1.

(2) الحضارة الإسلامية 65 / 2.

(3) المصدر السابق 137 / 2.

(4) المصدر السابق 139 / 2.

الصفحة 347
القرآن بكتاب عنوانه " بالفصول والغايات في محاذاة السور والآيات "، وقد قيل لأبي العلاء: " ما هذا إلا جيد إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن. فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة وعند ذلك انظروا كيف يكون " (1). وهكذا تحقق الإخبار بالغيب. تحقق بركوبه الشعر أولا حيث فتح الوليد الأسوار ودخل نصارى الحيرة ليعانقوا نصارى تغلب. وشاع شعر الأديرة ثم شعر الخمور ثم شعر المجون. ثم تم التسلل نحو الكرسي الأكبر بركوبة شعر القبائل وأيام العرب وفضائل بني أمية. وعلى ساحة اللارواية نشأ التصوف تحت ضغط المشاكل السياسية. وفي مواجهة التصوف ظهرت الزندقة وتعاليم المرجئة وغيرهما وخلال هذا التطاحن كان النصارى يشرفون على جمع الخراج. ومن أراد الوزارة كان عليه أن يتقرب إليهم (2)، وتحت شجرة الشوك تكالب الجميع على المال وأعلن شعراء الانحلال والصد الحرب على الدين والقرآن بصورة لم يسبق لها مثيل.

وإذا كان الإمام علي بن أبي طالب قد توعد بني تغلب إن تفرغ لهم فإن له فيهم رأيا وقال: لأقتلن مقاتلهم ولأسبين ذريتهم (3)، وذلك لتنفيذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم والخاصة بإخراج المشركين من جزيرة العرب (4).

فإنه رضي الله عنه كان له رأي في الشعر والشعراء، يقول صاحب تاريخ الأدب العربي: اشتهر الفرزدق بالشعر وهو شاب. فعرضه أبوه على علي بن أبي طالب بعد يوم الجمل قائلا: إنه شاعر مضر، فأوصاه أمير المؤمنين أن يقرأ القرآن خيرا له من الشعر. ويروى أن الفرزدق وضع رجليه في القيد وأقسم لا يفكهما إلا بعد أن يحفظ القرآن (5).

____________

(1) المصدر السابق 140 / 2.

(2) المصدر السابق 127 / 1.

(3) فتوح البلدان ص 187.

(4) البخاري (الصحيح 202 / 2).

(5) تاريخ الأدب العربي 209 / 1، تاريخ الطبري 2 / 94 - 108.

الصفحة 348
وأخيرا لقد أدى عدم الرواية إلى القص ورواية الشعر وكلاهما سنة عربية قديمة وإحياء هذه السنة أدى إلى عودة أوضاع قديمة لعالم قديم وكان ينقص هذا العالم لكي يكتمل خطوة أو خطوتين.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net