متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
5 - مشهود في أول الطريق
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

5 - مشهود في أول الطريق:

توجد معالم في عهد الفاروق لا يمكن إهمالها ونحن نلقي الضوء على بدايات في عصره كانت لها نهايات في عصرنا، ومن هذه المعالم مدينة البصرة.

ويذكر أن العرب لما فتحوا " الحيرة " سنة 14 ه‍، أمر عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان بتأسيس البصرة سنة 15 ه‍، فصارت حاضرة العراق. وأوطنت فيها قبائل عربية مختلفة الأصول والأنساب، تشابكت في علاقات مع سكان البلاد الأصليين من الفرس والنبط والآراميين. ومما لا شك فيه أن القبائل العربية قد نالها بعضا من غبار ثقافة أهل تلك البلاد. ولذا فقد حذر النبي صلى الله عليه وآله من البصرة من قبل أن تنشأ، ومن قبل أن يخرج اسمها إلى الوجود، وبين أن العدل سيموت على أعتابها. قال صلى الله عليه وسلم لأنس: يا أنس أن الناس يمصرون أمصارا وأن مصرا منها يقال لها: البصرة أو البصرة، فإن أنت مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها (1)، وكلاءها (2)، وسوقها (3)، وباب أمرائها (4)، وعليك بضواحيها (5)، فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف وقوم يبيتون فيصبحون قردة وخنازير (6). وفي رواية فإن أنت وردتها فإياك ومقصعها وسوقها وباب سلطانها، فإنه سيكون بها خسف ومسخ وقذف، آية ذلك أن يموت العدل ويفشوا فيها الجور، ويكثر فيها الزنا وتفشوا فيها شهادة الزور (7)، وروي أن

____________

(1) موضع يعلوه الملوحة.

(2) موضع تربط فيه السفن.

(3) لفساد العقول فيها.

(4) لكثرة ظلمهم.

(5) أي الجبال.

(6) أي تحل بهم صفات لا يتصف بها إنسان سوى فيكونوا مقلدين كالقردة باحثين عن المادة كالخنازير.

(7) رواه أبو داوود حديث 4285 والطبراني (عون المعبود 421 / 11).

الصفحة 388
أنسا اتخذ بيتا بعيدا عن البصرة (1).

إن الاعتراض ليس على بناء المدينة، وإنما على تولية أمراء المدينة الذين ذابوا مع نصارى الحيرة على موائد الشراب، وذلك أمر أقره علماء الحديث والتاريخ. فمن فوق هذه الموائد راج الشعر والقصص وكثر الزنا حتى قال الفاروق: إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل آية الرجم (2). وزاد في رواية: فرجم رسول الله ورجم أبو بكر ورجمت، ولولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف، فإني خشيت أن تجئ أقوام فلا يجدونه من كتاب الله فيكفرون (3)، ومما يذكر أن الفاروق نهى عن نكاح المتعة، وهو عند بعض الفقهاء دواء يسد باب الزنا في مهمة كمهمة الفتوحات وغيرها.

فعن جابر أنه قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر (4)، وروي أن عليا كان يقول: لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي.

وتمصير الأمصار كان يتم على قاعدة لا رواية فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر لا يهتم إلا بقراءة القرآن في الأمصار، لكنه علم في آخر عهده أن القرآن وحده لا يعبر الطريق إلى الفرس والنبط والآراميين، ولا بد له من مفتاح يمهد له الطريق. وهذا المفتاح هو السنة الشريفة. ففي بداية الطريق يقول ابن كثير: فإن عمر كان يقول اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله، ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك. هذا معروف عن عمر رضي الله عنه (5). أما في نهاية الطريق

____________

(1) رواه البخاري ك الأحكام ب ما ذكر النبي وحض عليه (الصحيح 265 / 4).

(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 38 / 4).

(3) رواه مسلم (الصحيح 131 / 4).

(4) البداية والنهاية 107 / 8.

(5) رواه ابن عساكر (كنز العمال 267 / 10).

الصفحة 389
فيروي ابن عساكر أن عمر بن الخطاب قال لابن عباس: أرى القرآن قد ظهر في الناس. فقال له: ما أحب ذاك يا أمير المؤمنين قال عمر: لم؟ فقال: لأنهم متى يقرأوا ينقروا ومتى ينقروا يختلفوا ومتى يختلفوا يضرب بعضهم رقاب بعض.

قال عمر: إن كنت لأكتمها الناس (1)، ثم روى أن أبا موسى قد بعث إليه بأن عدد القراء قد ازداد، فقال عمر: إن بني إسرائيل إنما هلكت حين كثر قراؤهم " (2). وهكذا فطن الفاروق للنهاية التي ما بعدها نهاية. لقد أراد أن تنتج الساحة قراء وأمراء من أصحاب السواعد القوية، ولكن في هذا إشكال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أكثر منافقي أمتي قراؤها " (3)، وقال:

" بكتاب الله يضلون وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم " (4). إن القراءة فقط هي بذرة الخوارج التي عليها نبتت شجرتهم. والذي يستحق التسجيل هنا أن الفاروق أطلق صيحة مبكرة عندما علم أن أهل العراق قد نقروا واختلفوا. لقد قال: " يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم " (5)، ونحن لا ندري لماذا اختار الفاروق أهل الشام في هذا الوقت المبكر ليتجهزوا لأهل العراق. إننا لا نعلم الأسباب التي وراء هذا القرار لأنه غابت عنا أحداث لا يعلمها إلا من لابسها.

إن البصرة بداية ضربها الذم من قبل أن يمصرها الناس، وذلك لما لها من أثر بالغ على اللغة والدين بعد أن اختلطت بها الشعوب وتجول على أرضها أمراء السوء، ولهذا لا نعجب عندما نستمع إلى حذيفة وهو يقول للفاروق:

" إنك تستعين بالرجل الفاجر " (6). ولا نعجب عندما نسمع من يقول لعمر:

الله يا عمر تستعمل من يخون وتقول ليس عليك شئ وعاملك يفعل كذا

____________

(1) رواه ستة (كنز العمال 268 / 10).

(2) الإستيعاب 72 / 1.

(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رواة ثقات (الزوائد 229 / 6).

(4) رواه ابن أبي عاصم وفي إسناده ضعف (كتاب السنة 132 / 1).

(5) ابن سعد في الدلائل (كنز العمال 354 / 12).

(6) (كنز العمال 771 / 5).

الصفحة 390
وكذا " (1). فأي علم هذا وأي دعوة هذه التي يشرف عليها الفاجر والخائن من الأمراء؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا إيمان لمن لا أمان له ولا دين لمن لا عهد له " (2)، والقرآن قد نهى عن اتخاذ بطانة من دون المؤمنين.

وإذا كانت البصرة قد أدينت من قبل أن تمصر، فإن أمراء عمر بن الخطاب قد أدينوا من قبل أن يظهروا على مسرح الأحداث. وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأنه سيظهر من بعد وفاته رجلا يقال له أويس، وأن هذا الرجل كريم عند ربه، وإنه خير التابعين (3)، وأمر أصحابه إن لقوه فليطلبوا منه أن يستغفر لهم، وخص النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وقال: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل (4). وظهر أويس في عهد عمر بن الخطاب، ولهذا قصة طويلة، وطلب عمر أن يستغفر له ففعل. وحرص عمل على أن يبقى أويس معه ولا يفارقه ولكنه أملس منه (أي تملس من الأمر. تخلص وأفلت) (5)، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة! فقال عمر: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك؟ قال: لا!! أكون في غبراء الناس أحب إلي (6). لقد رفض أويس الأمراء، وعندما ذهب إلى الكوفة سأله رجل: كيف الزمان؟ فقال أويس: إن قيام المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقا، والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعوانا، حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم. والله لا يمنعني ذلك أن أقول الحق (7).

وقال أويس لهرم بن حبان: إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء، إن

____________

(1) الطبري في تاريخه 31 / 5.

(2) رواه أحمد وأبو يعلى وفيه أبو هلال وثقه ابن معين (الزوائد 96 / 1).

(3) مسلم في فضائل أويس (الصحيح 95 / 16).

(4) أسد الغابة 180 / 1 ورواه مسلم.

(5) (كنز العمال 4 / 14).

(6) رواه مسلم وابن سعد وأبو نعيم والبيهقي (كنز 4 / 14) مسلم في فضائل أويس (الصحيح 96 / 16).

(7) الحاكم (المستدرك 406 / 7).

الصفحة 391
المؤمنين يعرف بعضهم بعضا، ويتحدثون بروح الله وإن لم يلتقوا وأن لم يتكلموا، ويتعارفوا وإن نأت بهم الديار وتفرقت بهم المنازل. فقال له هرم:

حدثني عن رسول الله بحديث أحفظه عنك؟ قال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة، ولقد رأيت رجالا رأوه وقد بلغني من حديثه كما بلغكم ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي (1)، ولقد قاتل أويس بعد ذلك تحت راية علي بن أبي طالب واستشهد بين يديه.

وسيأتي ذلك عند حديثنا عن معارك أمير المؤمنين.

هذا ما كان من أمر أويس الذي ادخره الله ليأتي في زمان لله حكمة فيه.

وعندما جاء رفضه حتى توصية الأمراء به. وهذا ما كان من أمر البصرة التي أخبر عنها رسول الله من قبل أن يتخذها الناس مصرا من الأمصار، وإخبار فيه إدانة لحياتها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية. ثم إن طلب عمر بن الخطاب وهو الخليفة الراشد أن يستغفر له أويس وهو الذي لم ير النبي ولم يسمع منه فيه أن الإسلام دين لا يدعو إلى التعتم أمام الأشخاص. ويدعو أن يكون الشغل في الله والهمة به والفرار إليه، والشاهد الأخير هنا على أن الناس في عهد الفاروق كثير منهم تطاولت أعناقهم في طلب الدنيا. ما رواه مسلم عن عبد الله بن الحارث قال: كنت واقفا مع أبي بن كعب فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا. قلت: أجل... " الحديث (2)، وأبي بن كعب مات في خلافة عمر على أصح الروايات (3)، وطلب الدنيا ينتهي دوما إلى زوال. أخرج ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا شبعت ماتت. وكذلك ابن آدم إذا امتلأ من الدنيا أخذه الله عند ذلك ثم تلى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ

____________

(1) الحاكم (المستدرك 407 / 3).

(2) مسلم (الصحيح 19 / 18) كتاب الفتن.

(3) الإصابة 19 / 1، الإستيعاب 49 / 1.

الصفحة 392
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " (1).


الصفحة 393


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net