متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
4 - الحرب
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

4 - الحرب:

فشلت جميع محاولات أمير المؤمنين لتجنب القتال وأبى الناكثون إلا المواجهة. وكان الأحنف بن قيس عندما سمع ومن معه فتوى أبي بكرة قد اعتزل القتال. وأعلن هذا أمام معسكر أمير المؤمنين. وعلى الرغم من هذا إلا أن وجد أن الأحنف كان مع علي. فأرسل إليه. إن شئت أتيتك وإن شئت كففت عنك عشرة آلاف سيف. وكان علي قد علم أن الأحنف قد أعلن الاعتزال أمام المعسكر الآخر. وفي هذا الوقت العصيب لم يقل له الإمام: تعال إلي وأعني.

وإنما قال له: كيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال، فقال الأحنف: إن من الوفاء الله عز وجل قتالهم.

لقد كان للفتوى أثر سئ. لأنه قد ترتب عليها عهود، والإمام يحترم عهود الناس حتى في أحلك الأوقات. ولذا قال له: كف من قدرت على كفه " (1)، وفي ميدان القتال وقف الإمام علي في مواجهة الناكثين على أول طريق البغي الطويل. كان الإمام يركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وروى البلاذري أنها بقيت إلى زمن معاوية (3). وكان محمد بن الحنفية يرفع راية رسول الله السوداء وتعرف بالعقاب. وروي أن أم المؤمنين عائشة كانت على جمل يدعى عسكر اشتراه لها يعلى بن أمية. وكان الجمل لواء القوم (4) وألبسوا هودج أم المؤمنين الأدرع (5) ووضعوا عليه جلود البقر (6)، وفي لحظات السكون قبل بدء المعركة خرج طلحة والزبير. فخرج إليها الإمام علي،

____________

(1) الكامل 122 / 3، الطبري 199 / 5.

(2) البداية والنهاية 242 / 7، مروج الذهب 390 / 2.

(3) أنساب الأشراف 511 / 1.

(4) ابن أبي الحديد 416 / 2.

(5) الطبري 203 / 5.

(6) مروج الذهب 400 / 2.

الصفحة 29
حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال الإمام: لعمري قد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا. فهلا أعددتما عذرا يوم القيامة فاتقيا الله. ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. ألم أكن حاكما في دمكما. تحرمان دمي وأحرم دمكما فهل من حدث أحل لكم ذمي؟ قال طلحة: ألبت الناس على عثمان. فقال الإمام:

يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق. يا طلحة، تطلب بدم عثمان! فلعن الله قاتل عثمان! يا طلحة أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت، أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي!! ثم قال الإمام: يا زبير ما أخرجك؟

قال: أنت! ولا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به مني!!؟ فقال الإمام: ألست له أهلا بعد عثمان. قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا " (1).

لقد كان الزبير أكثر صراحة. فعندما سأله الإمام عن سبب الخروج. حدثه عن الحكم والكرسي. وبعد هذا الحديث عادت الخيول إلى مواقعها. ثم وقف الإمام علي بين الصفين ودعا الزبير وقال: أنت آمن. تعالى حتى أعلمك. فأتاه.

فقال له الإمام: أنشدك الله؟ أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

إنك تقاتل عليا وأنت له ظالم؟ قال: نعم ولم أذكر ذاك إلا في مقامي هذا. ثم انصرف (2). وفي رواية: لتقاتلنه وأنت له ظالم ثم لينصرن عليك. قال: قد سمعت لا جرم. لا أقاتلك (3) وعندما انصرف قال له ابنه: ما لك؟ فقال: ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: لتقاتلنه وأنت له ظالم. فقال عبد الله ابنه: وللقتال جئت! إنما جئت تصلح بين الناس.

ويصلح الله هذا الأمر. قال: لقد حلفت أن لا أقاتله فقال: فاعتق غلامك وقف.

____________

(1) الكامل 122 / 3، البداية والنهاية 241، 263 / 7.

(2) رواه أبو يعلى والبيهقي وابن عساكر (كنز العمال 340 / 11) والبداية والنهاية 241 / 7، أسد الغابة 252 / 2، الكامل 122 / 3، مروج الذهب 401 / 2، الطبري 200 / 5، ابن أبي الحديد 207 / 3.

(3) فتح الباري 55 / 13.

الصفحة 30
فأعتق غلامه ووقف (1) وفي بداية القتال انطلق الزبير بفرسه وخرج من أرض المعركة. فنزل بوادي السباع وقام يصلي فأتاه ابن جرموز فقتله (2).

وبعد أن أقام الإمام الحجة على طلحة والزبير مرة وعلى الزبير وحده مرة.

بعث إلى طلحة. أن القني. فلقيه فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه. قال: نعم، فقال: فلم تقاتلني!! (3) وانطلق طلحة للقتال ولم يفعل ما فعل الزبير. ولم يبق غير أم المؤمنين لم تسمع من أمير المؤمنين كما سمع طلحة والزبير. وشاء الله أن تخاطب أم المؤمنين علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر قبل المعركة، روي أن عمارا دنا من موضع أم المؤمنين وقال: ماذا تدعين؟ قالت:

الطلب بدم عثمان. فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق. ثم قال: أيها الناس إنكم لتعلمون أينا الممالئ في قتل عثمان (4). وما أن انتهى عمار حتى جاء في اتجاه أم المؤمنين فوارس أربعة. فهتفت: فيهم رجل عرفته.

ابن أبي طالب ورب الكعبة. سلوه ما يريد فقال لها أمير المؤمنين: أنشدك بالله الذي أنزل الكتاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك. أتعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني وصيا على أهله وفي أهله، قالت:

اللهم نعم. قال: فما لك؟ قالت: أطلب بدم أمير المؤمنين عثمان قال: أريني قتلة عثمان، ثم انصرف (5).

مما سبق علمنا أن عمارا ذكر أم المؤمنين بقتال البغاة وذلك في قوله:

" قاتل الله في هذا اليوم الباغي " أما أمير المؤمنين لقد تحدث على في أمر لا نعلم باطنه. لقد كشف أنه وصي على أهل النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم.

____________

(1) الكامل 122 / 3، البيهقي وابن عساكر (كنز العمال 330 / 11).

(2) أسد الغابة 252 / 52، الطبري 219 / 5.

(3) رواه الحاكم (المستدرك 371 / 3)، وابن عساكر (كنز العمال 333 / 11) مروج الذهب 403 / 2، الطبري 304 / 5.

(4) مروج الذهب 371 / 2.

(5) رواه الطبراني (كنز العمال 238 / 7)، (الزوائد 238 / 7).

الصفحة 31
ومن المعروف أن لقب أمهات المؤمنين لا ينزع عنهن بوفاة الرسول، وإنما هو لقب ملاصق لهن حتى قيام الساعة. ولحاملة اللقب حقوق وواجبات حددها الشرع الحكيم. وهذا الامتداد لا بد له من عين تحرسه. ولقد ورد أنه لا يؤدي عن النبي في حياته إلا علي وبما أن اسم النبي تحمله أمهات المؤمنين ولا ينزع بوفاة النبي فإن الذي يسهر على مصلحة أمهات المؤمنين حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض أو أصحاب المخططات، لا يكون غير رأس الدولة. وهذا على أي حال تفسير لقول الإمام بأن النبي جعله وصيا على أهله وفي أهله. فالسؤال طرح أثناء معركة. وعندما وافقت أم المؤمنين على قول أمير المؤمنين قال: فما لك؟

والله أعلم بمراده. ولقد روى أن أم المؤمنين صفية قالت للنبي لما حضر: فإن حدث حدث فإلي من؟ قال: إلى علي بن أبي طالب " (1)، وبعد أن بين الإمام وصايته. سألها عن قتلة عثمان فقال: أريني قتلة عثمان. فإذا كانت قد جاءت بالقوات من أجل هذا. فعليها إن كانت تعرفهم أن تدل الإمام عليهم كي تجري محاكمتهم وتحقن دماء المقاتلين، وإن كانت لا تعرفهم فما فائدة الحشد - فلقد كان من الواجب أن تعطي للإمام فرصة ليجمع أطراف القضية. وبعد أن قال الإمام هذا انصرف.

وصدر أمر القتال. قال الإمام: عباد الله، اتقوا الله، وغضوا الأبصار.

واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطئوا أنفسكم على المنازلة والمجادلة والمبارزة والمناضلة والمبادلة والمعانقة والمكادمة والملازمة فاثبتوا. واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. واصبروا إن الله مع الصابرين. اللهم ألهمهم الصبر وأنزل عليهم النصر وأعظم لهم الأجر (2)، ثم نادي مناديه: لا يتبع مدبر. ولا يذفف على جريح، ولا يقتل أسير ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن (3)، ثم نادي المنادي: لا تبدأوا القوم

____________

(1) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 112 / 9).

(2) الطبري 6 / 6.

(3) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (كنز العمال 335 / 11).

الصفحة 32
بالقتال وكلموهم بألطف الكلام. فإن هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة.

فنادي معسكر عائشة: يا ثأرات عثمان. فقال الإمام: ما يقولون؟ فقال محمد بن الحنفية: يقولون يا ثأرات عثمان فرفع الإمام يديه وقال: اللهم كب اليوم قتلة عثمان لوجوههم (1) اللهم خذ أيديهم وأقدامهم (2)، ثم قال الإمام لأصحابه:

أيكم يعرض عليهم هذا المصحف. فإن قطع يده أخذه بيده الأخرى. فقال له فتى شاب: أنا، قال: اعرض عليهم هذا، وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره. والله الله في دمائنا ودمائكم. فلما جاءهم الفتى حملوا عليه حتى قتل.

فقال الإمام: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم (3).

وما إن بدأت المعركة حتى لاحت هزيمة أصحاب الجمل، يقول ابن كثير.

تقدم علي بالراية. وقتل خلق كثير وجم غفير ولم تر واقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الواقعة (4). وقال عبد الله الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت وتطاعنا الرماح حتى تكسرت. وتشبكت صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت الخيل عليها لسارت. وعلم أهل المدينة بالواقعة يوم الحرب قبل أن تغرب الشمس من نسر مر بماء حول المدينة ومعه شئ معلق فسقط معه. فإذا أكف فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب وعلم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة بما نقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام (5)، وكان هدف قوات أم المؤمنين الحفاظ على الجمل. فكان لا يأخذ بالراية ولا بخطام الجمل إلا شجاع معروف (6)، ومن حرص الرجال على الجمل وحبهم له. روي أن رجالا من الأزد كانوا يأخذون بعر الجمل فيفتتونه ويشمونه ويقولون بعر جمل

____________

(1) رواه البيهقي (كنز العمال 338 / 11).

(2) البداية والنهاية 7 / 8.

(3) الطبري 304، 305 / 5، مروج الذهب 399 / 2، ابن أبي الحديد 208 / 3، كنز العمال 338 / 11، الكامل 133 / 3.

(4) البداية 243 / 7.

(5) الكامل 133 / 3، البداية 247 / 7، الطبري 218 / 5.

(6) البداية 244 / 7.

الصفحة 33
أما ريحه مسك (1). وكان معسكر علي يقولون: لا تزال الحرب قائمة ما دام هذا الجمل واقفا. وذلك لأن معسكر عائشة يدافعون عنه ويعملون على رفع رأسه وكلما قتل منهم أحد سارع الآخر ليمسك بزمام الجمل. وعندما فنى بنو ضبة. أخذ الخطام سبعون رجلا من قريش. وكل واحد يقتل بعد صاحبه. وكان محمد بن طلحة منهم قال لعائشة: مريني بأمرك يا أمه، فقالت: أمرك أن تكون كخير ابني آدم. فثبت في مكانه يقول: حم لا ينصرون. فتقدم إليه نفر فحملوا عليه فقتلوه (2).

وأمر الإمام بقتل الجمل (3)، ولما سقط البعير على الأرض انهزم من حوله من الناس. وحمل هودج عائشة، وإنه كالقنفذ من السهام. ونادي منادي علي في الناس: أنه لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح (4)، وبعد أن هدأ غبار المعركة.

ظهر على أرض القتال عشرة آلاف قتيل (5). أما الجرحى فلا يحصون (6).

وكان من بين القتلى طلحة بن عبيد الله. قتله مروان بن الحكم وكان معه في معسكر واحد وتحت قيادة واحدة. ولكن مروان كانت له مهمة تختلف عن مهمة طلحة. وهي قتل طلحة (7). ولم تعلم أم المؤمنين بقتل طلحة والزبير إلا عندما علمت بهزيمة قواتها. فلقد علمت رضي الله عنها بالأمور الثلاثة في وقت واحد. كما علمت في نفس الوقت بمقتل زيد بن صوحان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى من يسبقه بعض أعضائه إلى

____________

(1) الطبري 263 / 5.

(2) البداية 244 / 7، الطبري 214 / 5.

(3) البداية 266 / 7، الطبري 210 / 5.

(4) البداية 245 / 7، الطبري 208 / 5.

(5) الكامل 131 / 3، البداية 247 / 7، الطبري 222 / 5، وقيل قتل فيها من أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألفا ومن أصحاب علي خمسة آلاف (مروج الذهب 387 / 2).

(6) البداية 247 / 7.

(7) لا خلاف بين أهل العلم على أن مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة راجع (البداية والنهاية 278 / 8)، (أسد الغابة 88 / 3).

الصفحة 34
الجنة فلينظر إلى زيد بن صوحان " (1). روي أن عائشة قالت يوم الجمل لخالد بن الواشمة: أنشدك الله أصادقي أنت إن سألتك. قال: نعم، قالت: ما فعل طلحة؟ قال، قتل! فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم قالت: ما فعل الزبير؟ قال: قتل! قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال لها: بل نحن لله ونحن إليه راجعون. على زيد وأصحاب زيد قالت: زيد بن صوحان، فقال: نعم، قالت: خيرا، فقال لها: والله لا يجمع الله بينه وبينهما في الجنة أبدا. قالت: لا تقل ذاك فإن رحمته واسعة وهو على كل شئ قدير " (2).

وروي عن زيد من وجوه أنه قال: " شدوا علي ثيابي ولا تنزعوا عني ثوبا.

ولا تغسلوا عني دما. فإني رجل مخاصم - أو قال - فإنا قوم مخاصمون " (3).

وانتهت حرب الجمل وهرب رؤوس بني أمية الذين وقفوا بالأموال والعتاد وراء طلحة والزبير (4). وروي أن الإمام علي وقف عند عائشة فضرب الهودج بقضيب وقال: يا حميراء رسول الله أمرك بهذا. ألم يأمرك أن تقري في بيتك. والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذا صانوا عقائلهم وأبرزوك. وأمر أخاها محمد فأنزلها في دار صفية بنت الحارث (5)، وروي أن عمارا قال لعائشة لما فرغوا من الجمل: " ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكم - يشير إلى قوله تعالى:

" وقرن في بيوتكن - فقالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قالت، والله إنك ما علمت لقوال بالحق، قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك " (6).

وروي عن أبي البحتري أنه قال: لما انهزم أهل الجمل قال علي: لا يطلبن عبد خارج المعسكر وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم. وليس لكم أم ولد:

____________

(1) رواه أبو يعلى وابن مندة (الإصابة 582 / 1)، والبيهقي (214 / 6).

(2) رواه ابن منده والبيهقي (الإستيعاب 560 / 1).

(3) رواه البخاري ويعقوب بن سفيان في تاريخهما. وابن منده (الإصابة 583 / 1)، (الإستيعاب 560 / 1).

(4) الطبري 220 / 5.

(5) مروج الذهب 3176 / 2.

(6) الطبراني بسند صحيح (فتح الباري 58 / 13)، الكامل 133 / 3، الطبري 225 / 5.

الصفحة 35
والمواريث على فرائض الله. وأي امرأة قتل زوجها. فلتعتد أربعة أشهر وعشرا.

قالوا: يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا نساؤهم. فقال: كذلك السيرة في أهل القبلة. فخاصموه. فقال: فهاتوا سهامكم واقرعوا على عائشة.

فهي رأس الأمر وقائدهم. قال: ففرقوا وقالوا: نستغفر الله فخصمهم أمير المؤمنين " (1).

وانتقلت أم المؤمنين إلى دار صفية زوجة عبد الله بن خلف الذي قتله الإمام يوم الجمل. وروي أن أمير المؤمنين أقبل إلى منزل عائشة. فإذا عائشة جالسة حولها نسوة من نساء أهل البصرة. وهي تبكي وهن يبكين معها. فنظرت صفية بنت الحارث فرأت عليا. فصاحت هي ومن كان معها هناك من النسوة وقلن: يا قاتل الأحبة. يا مفرق بين الجميع، أيتم الله بنيك كما أيتمت ولد عبد الله بن خلف. فنظر إليها علي فعرفها فقال: أما إني لا ألومك أن تبغضيني.

وقد قتلت جدك يوم بدر. وقتلت عمك يوم أحد. وقتلت زوجك الآن. ولو كنت قاتل الأحبة كما تقولين. لقتلت من في هذا البيت ومن في هذه الدار. ثم أقبل على عائشة فقال: ألا تنحين كلابك هؤلاء عني. أما إني قد هممت أن أفتح باب هذا البيت فأقتل من فيه. ولولا حبي للعافية. لأخرجتهم الساعة فضربت أعناقهم صبرا. فسكتت عائشة وسكتت النسوة فلم تنطق واحدة منهن (2). وروي أن الأبواب التي هدد علي بفتحها كان من ورائها أناس من الجرحى قد لجأوا إلى عائشة (3). وتغافل عنهم علي لأن مذهبه كان لا يقتل مدبرا ولا يذفف على جريح ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا (4).

وروي أن ابن عباس دخل على عائشة في دار صفية بغير إذنها. واجتذب

____________

(1) ابن أبي شيبة (كنز 336 / 11).

(2) فتوح ابن أعثم (339 / 2، الطبري 224 / 5، الكامل 131 / 3. واللغط لابن أعثم، مروج الذهب 2 / 408.

(3) الطبري 222 / 5، الكامل 131 / 3.

(4) الكامل 131 / 3.

الصفحة 36
وسادة فجلس عليها. فقالت: يا ابن عباس أخطأت السنة المأمور بها. ودخلت إلينا بغير إذننا. وجلست على رحلنا بغير أمرنا. فقال: لو كنت في البيت الذي خلفك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما دخلت إلا بإذنك. وما جلسنا على رحلك إلا بأمرك. وإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يأمرك بسرعة الأوبة والتأهب للخروج إلى المدينة " (1)، وعندما كانت أم المؤمنين تستعد للذهاب إلى المدينة. كان قد سبقها بعض الذين يبحثون عن الحقيقة. روي عن ثابت مولى أبي ذر أنه قال: كنت مع علي يوم الجمل. فلما رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل الناس (2)، فكشف الله عني ذلك عند صلاة الظهر. فقاتلت مع أمير المؤمنين. فلما فرغ ذهبت إلى المدينة. فأتيت أم سلمة. فقلت: إني والله ما جئت أسأل طعاما ولا شرابا، ولكني مولى لأبي ذر. فقالت مرحبا، فقصصت عليها قصتي. فقالت: أين كنت حين طارت القلوب سطائرها. قلت: إلى حيث كشف الله عني عند زوال الشمس. قالت: أحسنت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع علي. لن يتفرقا حتى يردا على الحوض " (3) وعن حري بن سمرة قال: لما كان من أهل البصرة ما كان بينهم وبين علي بن أبي طالب انطلقت حتى أتيت المدينة، فأتيت ميمونة بنت الحارث فقالت: ما جاء بك، قال: كان بين علي وطلحة الذي كان فأقبلت فبايعت عليا. قالت: فالحق به فوالله ما ضل ولا ضل - قالتها ثلاث مرات " (4).

كان هذا في المدينة أما في البصرة، فلقد روي أن الإمام عندما دخلها منتصرا خطب في الناس خطبة طويلة جاء فيها: " يا أهل السبخة (5) يا أهل المؤتفكة. أئتفكت بأهلك من الدهر ثلاثا. وعلى الله تمام الرابعة يا جند المرأة.

____________

(1) مروج الذهب 377 / 2.

(2) أي أنه استصعب قتالها.

(3) رواه الحاكم وصححه وأقره الذهبي (المستدرك 124 / 3).

(4) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 9 / 135)، والحاكم وصححه (المستدرك 141 / 3).

(5) موضع يعلوه الملوحة.

الصفحة 37
يا أتباع البهيمة. رغا فأجبتم، وعقر فانهزمتم، أخلاقكم رقاق. وأعمالكم نفاق.

ودينكم زيغ وشقاق، وماؤكم أجاج وزعاق " (1).

وقوله رضي الله عنه: " يا أهل السبخة " إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الناس يمصرون أمصارا وإن مصرا منها يقال لها البصرة.

فإن أنت مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها وكلاءها وسوقها وباب أمرائها وعليك بضواحيها. فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف وقوم يبيتون فيصبحون قردة وخنازير " (2)، فلقد وصفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفساد العقول وكثرة الظلم الواقع بها، والبصرة كما ذكرنا من قبل أن يمصرها مصرها عمر بن الخطاب وسكنتها أجناس مختلفة كان لهم تأثير بالغ على ثقافتها. وأبرز معالم هذه الثقافة هي القردية والخنزيرة. أي تلجيم العقل كل تافه ورخيص والسير في طريق المادة لاتهام غذاء الدنس والعار.

وروي أن رجلا قال للإمام بعد الفراغ من يوم الجمل: يا أمير المؤمنين.

وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا. ليري ما نصرك الله به على أعدائك. فقال الإمام: أهوى أخيك معنا؟ قال: نعم، فقال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا، أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء. سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان " (3)، وفي كلام الإمام إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " المرء مع من أحب " (4)، وقوله: " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها. كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كان كمن

____________

(1) مروج الذهب 407 / 2.

(2) رواه أبو داود حديث رقم 4285، والطبراني (عون المعبود 420 / 11)، وقال السيوطي: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات من غير الطريق الذي أخرجه منها المصنف، وغفل عن هذا الطريق. وقد تعقبته فيما كتبت على كتابه (عون المعبود 420 / 11).

(3) ابن أبي الحديد.

(4) البخاري (الصحيح 77 / 4).

الصفحة 38
شهدها " (1).

وانتهى يوم الذي نادى الإمام في بداية طريقه بالمصالحة. ولكن أحدا لم يتقدم ليصلح بين الطائفتين. ولم ينصت أصحاب الجمل إلى رسائل الإمام ورسله إليهم. ولو قام الذين اعتزلوا القتال وغيرهم بالوساطة من أجل المصالحة. لعلمنا بكل يسر من هم البغاة. ولكنهم لم يفعلوا ذلك. وترتب على هذا أن البحث عن الحقيقة كان لا بد أن يتم على طريق شاق نظرا لوجود رايات متعددة الأسماء.

____________

(1) رواه أبو داوود حديث 4345.

الصفحة 39


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net