متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
1 - إقامة الحجة
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

1 - إقامة الحجة:

بعد مقتل عثمان بدأ الإمام علي يجري تغييرات تستقيم مع سياسته. ولكن معاوية رفض هذه التغييرات والتي كان من بينها عزله عن الشام. وبينما كان الإمام يستعد للذهاب إلى الشام لإزالة هذه العقبة التي على أرض الدولة. خرج عليه أصحاب الجمل. وما أن فرغ من أهل الجمل حتى بلغه أن أهل الشام يتجهزون للقتال. وأن عمرو بن العاص يذيع عليهم " أن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم وفلوا حدهم. وأن أهل البصرة مخالفون لعلي بعد أن وترهم وقتلهم. وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل. وأن عليا قد سار في شرذمة قليلة منهم وقد قتل خليفتكم. فالله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تبطلوه " (3)، وعمرو في بيانه لم يهمل موقف خصمه القتالي. وإنما أخبرهم بأن الصناديد قد قتلوا إشارة إلى أن المهملة لن تكون عسيرة بعد أن نضجت الثمرة. وبينما أهل الشام يشقون طريقهم بمراكب الدهاء والكيد. كان الإمام علي يشق طريقه إليهم بمراكب الحجة. حتى لا تكون لهم حجة في يوم لا يغني فيه الندم. فبعث إليهم جرير بن عبد الله البجلي يدعوه إلى البيعة. ولكن معاوية ركب الصعب. ثم بعث إليه الإمام برسالة جاء فيها: إن الله

____________

(1) روى ابن كثير أن قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) نزلت في العاص بن وائل (تفسير ابن كثير 559 / 4).

(2) الطبقات الكبرى 254 / 4.

(3) البداية والنهاية 255 / 7، الطبري 236 / 5.

الصفحة 43
سبحانه جعل الدنيا لما بعدها. وابتلى فيها أهلها. ليعلم أيهم أحسن عملا.

ولسنا للدنيا خلقنا. ولا بالسعي فيها أمرنا. وإنما وضعنا فيها لنبتلي بها. وقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي. فجعل أحدنا حجة على الآخر. فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن. وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني. وعصبته أنت وأهل الشام بي. وألب عالمكم جاهلكم. وقائمكم قاعدكم. فاتق الله في نفسك.

ونازع الشيطان قيادك. واصرف إلى الآخرة وجهك. فهي طريقنا وطريقك.

واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة تمس الأصل. وتقطع الدابر. فإني أولى لك بالله ألية غير فاجرة. لئن جمعتني وإياك جوامع الأقدار لا أزال بباحتك " حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين " (1).

لقد أخبره أن الله جعل الدنيا طريقا إلى الآخرة. وابتلى فيها أهلها أي اختبرهم ليعلم أيهم أحسن عملا، وأخبره بأن الإنسان لم يؤمر بالسعي في الدنيا لها. بل أمر بالسعي فيها لغيرها. وكشف له الحقيقة التي يدثرها شعار قميص عثمان فقال: " فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن " أي تعديت وظلمت ومن هذا الظلم قولك: " أنا ولي عثمان ". وعلى طريق الظلم ألزمتني بما لم تجن يدي ولا لساني. وحرضتم الناس على هذا. ولم يلتفت معاوية إلى الحجة. وظل يتاجر بقميص عثمان فأرسل إليه الإمام رسالة قال فيها: فسبحان الله. ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة. مع تضييع الحقائق واطراح الوثائق:

التي هي لله تعالى طلبة. وعلى عباده حجة. فأما إكثارك الحجاج على عثمان وقتلته. فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك. وخذلته حيث كان النصر له، والسلام " (2).

ولقد رأينا كيف تثاقل معاوية عن نصرة عثمان، وفي هذا التخاذل والتثاقل يقول البلاذري وهو المعروف بالثقة والضبط " وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل

____________

(1) ابن أبي الحديد 98 / 5.

(2) ابن أبي الحديد 784 / 4.

الصفحة 44
عثمان فيدعوا إلى نفسه " (1)، ولم يكتف الإمام بإرسال الرسائل. وإنما بعث إليه بالصحابة ليقيموا عليه الحجة على امتداد الطريق إلى صفين. روي أن الإمام بعث إليه عدي بن حاتم... فقال عدي لمعاوية: إنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ويحقن به الدماء ونصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام أثرا. وقد استجمع له الناس. ولم يبق أحد غيرك وغير من معك. فاحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل.

فقال له معاوية: كأنك إنما جئت متهددا لم تأت مصلحا. هيهات يا عدي. كلا والله إني لابن حرب لا يقعقع له بالسنان. وإنك والله من المجلبين على عثمان وإنك من قتلته وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به. فقال شبث وزياد بن خصفة: يا معاوية. جوابا واحدا، أتيناك فيما يصلحنا وإياك. فأقبلت تضرب لنا الأمثال. دع ما لا ينفع وأجبنا فيما يعم نفعه. وقال له يزيد بن قيس: إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك. ونؤدي عنك ما سمعنا منك. ولن ندع أن ننصح لك وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع إلى الألفة والجماعة. إن صاحبنا من قد عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك. فاتق الله يا معاوية ولا تخالف.

فإنا والله ما رأينا في الناس رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فقال لهم معاوية: إنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة.

فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي. وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها " (2) وبعد بعث عدي بن حاتم ثم بعث إليه إليه أبا عمر وبشير بن عمرو بن.

محصن وسعيد بن قيس... وعندما دخلوا عليه قال بشير: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة. وإن الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه، وإني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الأمة وألا تسفك دماءها بينها. فقطع عليه معاوية الكلام وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمر: إن صاحبي ليس مثلك. إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في

____________

(1) ابن أبي الحديد 785 / 4.

(2) الكامل 148 / 3، الطبري 2 / 6.

الصفحة 45
الإسلام والقرابة بالرسول صلى الله عليه وسلم قال معاوية: فماذا يقول؟

فقال أبو عمر: يأمرك بتقوى الله وأن تجيب ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق. فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك. قال: ونترك دم ابن عفان لا والله لا أفعل ذلك أبدا. فبادره شبث بن ربعي وقال: يا معاوية إنك لم تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك: (قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه) فاستجاب لك سفهاء طغام. وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر. وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب. ورب متمن أمر وطالبه يحول الله دونه. وبما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته. ووالله ما لك في واحدة منهما خير. والله إن أخطأت ما ترجو إنك لشر العرب حالا. ولئن أحببت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلى النار.

فاتق الله يا معاوية. ودع ما أنت عليه. ولا تنازع الأمر أهله فقال له معاوية: لقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت. انصرفوا من عندي وليس بيني وبينكم إلا السيف " (1).

لم ينصت معاوية لصوت الحجة. لأن وصية أمه وأبيه وفتوى كعب الأحبار. كل ذلك كان قد استولى عليه. وما استولى عليه هذا إلا لأنه يوافق هواه الذي تحت جلده.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net