متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
4 - غارات معاوية
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

4 - غارات معاوية:

بعد التحكيم بدأ معاوية في ترتيب أوراقه، فوضع عينه على مصر، وكان عليها يومئذ محمد بن أبي بكر عاملا لعلي، وكان معاوية يريد مصر ليجرد أمير المؤمنين من خراجها ويستعين به. وعندما علم معاوية أن عليا قد ولي الأشتر على مصر بدلا من محمد بن أبي بكر عظم ذلك عليه، لمعرفته أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، ومن هنا بدأ عمل معاوية للالتفاف حول أمير المؤمنين، فبعث إلى رجل من أهل الخراج، وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت فاحتل له بما قدرت عليه. وخرج الرجل حتى أتى القلزم وأقام به، وعندما انتهى الأشتر إلى القلزم

____________

(1) رواه ابن عدي (كنز العمال 14 / 11).

(2) رواه أبو نعيم (كنز العمال 119 / 13).

(3) القسب / التمر اليابس.

الصفحة 141
استقبله الجايستار، وهو المكلف من قبل معاوية بقتله، وقال للأشتر: هذا منزل وهذا طعام وعلف وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل به الأشتر فجاء الرجل إليه بطعام حتى إذا طعم آتاه بشرية من عسل قد جعل فيها سما. فسقاه إياها فلما شربها مات (1).

ولم يخطط معاوية للجريمة فقط بل استثمرها، فقال لأهل الشام: إن عليا وجه الأشتر إلى مصر، فادعوا الله أن يكفيكموه، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر. وعندما جاء الذي سقاه إلى معاوية وأخبره بمهلك الأشتر خطب معاوية وقال: أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان، قطعت إحداهما يوم صفين - يعني عمار بن ياسر - وقطعت الأخرى اليوم - يعني الأشتر (2). وبعد ذلك بعث معاوية عمرو بن العاص، وكان قد صالحه على أن تكون مصر طعمة له ما بقي، بعثه إلى مصر للاستيلاء عليها. وعندما نزل مصر اجتمعت إليه العثمانية من أهلها، وقاومهم محمد بن أبي بكر بمن معه، ولكن أهل الشام حاصروا قوات محمد بن أبي بكر، وخرج محمد يمشي في الطريق حتى انتهى إلى مكان في ناحية الطريق. وظل معاوية بن خديج يبحث عن ابن أبي بكر حتى وجده، فقال له: لأقتلنك يا ابن أبي بكر، فقال: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله عز وجل، أما والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني هذا. فقال له معاوية بن خديج: أتدري ما أصنع بك. أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: إن فعلتم بي ذلك فطال ما فعل ذلك بأولياء الله... فقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار (3). وقال المسعودي: فأخذه معاوية بن خديج وعمرو بن العاص وغيرهما فجعلوه في جلد حمار، وأضرموه بالنار، وذلك بموضع في مصر يقال له: كوم شريك. وقيل:

إنه فعل به ذلك، وبه شئ من الحياة (4). وبلغ معاوية قتل محمد وأصحابه،

____________

(1) الطبري 54 / 6، مروج الذهب 455 / 2، الكامل 178 / 3، ابن أبي الحديد 312 / 2.

(2) الطبري 55 / 6، الكامل 178 / 3، ابن أبي الحديد 312 / 2.

(3) الطبري 60 / 6.

(4) مروج الذهب 454 / 2.

الصفحة 142
فأظهر الفرح والسرور، وبلغ عليا قتل محمد وسرور معاوية، فقال: جزعنا عليه على قدر سرورهم، فما جزعت على هالك منذ دخلت هذه الحروب جزعي عليه كان لي ربيبا، وكنت أعده ولدا، وكان بي برا، وكان ابن أخي. فعلى مثل هذا نحزن وعند الله نحتسبه (1).

ومع بداية عام تسع وثلاثين هجرية، بدأ معاوية يبعث سرايا لتغير على أطراف أمير المؤمنين، وكذلك كان علي يبعث من يمنع سرايا معاوية من أذية الناس، ومن السرايا التي بعثها معاوية، سرية النعمان بن بشير التي أغارت على عين التمر، وسرية سفيان بن عوف أغارت على هيت والأنبار والمدائن، وحملوا ما كان في الأنبار من الأموال وأموال أهلها ورجعوا إلى معاوية. وسرية عبد الله بن مسعدة أغارت على تيماء، فنهب الأموال وتصدى له أهل تيماء فخرج في أصحابه ليلا إلى الشام، وسرية الضحاك بن قيس أمره معاوية أن يمر بأسفل واقصة وأن يغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي. فسار فأخذ أموال الناس وقتل من لقي من الأعراب (2).

كانت هذه السرايا مقدمات لسرية بسر بن أرطأة، وبسر كان من الذين بعثهم عمر بن الخطاب مددا لعمرو بن العاص في فتح مصر (3). قال الدارقطني:

بسر له صحبة ولم تكن له استقامة بعد النبي صلى الله عليه وآله، هو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن عباس (4)، وقال يحيى بن معين: بسر رجل سوء. وقال أبو عمر: ذلك لأمور عظام ركبها في الإسلام (5)، وروي أن معاوية عندما وجه بسر لقتل شيعة علي، قام إليه نفر منهم زياد بن الأشهب الجعدي وقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين. نسألك بالله وبالرحم أن لا تجعل لبسر على قيس سلطانا. حتى لا

____________

(1) مروج الذهب 454 / 2.

(2) الطبري 78 / 6.

(3) الإستيعاب 155 / 1.

(4) الإستيعاب 156 / 1.

(5) الإستيعاب 155 / 1.

الصفحة 143
يقتل قيسا بما قتلت به بنو سليم من بني فهر وكنانة يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة (1)، وروي أن أبا ذر كان يقول: يوم العوراء، وما يوم العوراء. فقيل له: ما يوم العوراء؟ قال: إن نساء من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، وإني دعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان ولعلكما تدركانه. قال راوي الحديث:

فأرسل معاوية بسر بن أرطأة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات فأقمن في السوق (2)، وقال في الإستيعاب: أغار بسر على همدان وسبي نساءهم فكن أول نساء مسلمات سبين في الإسلام، وقتل أحياء من بني سعد (3).

وروي أن معاوية بعد تحكيم الحكمين أرسل بسر في جيش، فساروا من الشام حتى قدموا المدينة، ففر منهم أبو أيوب الأنصاري، وصعد بسر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى على المنبر: يا دينار ويا نجار شيخي شيخي عهدي به بالأمس فأين هو - يعني عثمان - ثم قال: يا أهل المدينة والله لولا ما عهد إلى معاوية، ما تركت بها محتلما إلا قتلته. ثم بايع أهل المدينة، وأرسل إلى بني مسلمة فقال: والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فانطلق جابر إلى أم المؤمنين أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ماذا ترين؟ إني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة. قالت: أري أن تبايع. فآتاه جابر فبايعه (4).

وهدم بسر دور بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، فخافه أبو موسى الأشعري أن يقتله، فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. ثم مضى بسر إلى اليمن وقتل عبد الله بن عبد المدان الحارثي وقتل ابنه. ووجد ابن عبيد الله بن عباس عند رجل من بني كنانة من أهل

____________

(1) الإستيعاب 157 / 1.

(2) الإستيعاب 157 / 1.

(3) الإستيعاب 157 / 1.

(4) الطبري 80 / 6، الكامل 193 / 3، البداية والنهاية 322 / 7.

الصفحة 144
البادية. فلما أراد قتلهما قال الكناني: على ما تقتل هذين ولا ذنب لهما، فإن كنت قاتلهما فاقتلني. قال بسر افعل. فبدأ بالكناني فقتله ثم قتلهما، وقتل بسر في مسيره هذا جماعة كثيرة من شيعة علي باليمن، وبلغ عليا خبر بسر فوجه جارية بن قدامة في ألفين ووهب بن مسعود في ألفين، وهرب بسر وأصحابه (1).

كان هذا هو منهج معاوية في القتال. تجنب ملاقاة على في الميدان، والإغارة وسلب ما يمكن سلبه ثم الارتداد للخلف نحو الشام، وقتل كل من في الطريق، طفلا أو شيخا، وعرض النساء المسلمات في الأسواق، ومن قبل وضع من فيه شئ من حياة في جلد حمار، ثم إشعال النار فيه. كانت هذه سيرته في بداية الطريق، وسنرى فيما بعد كيف كانت سيرته على امتداد الطريق.

وينبغي في هذا المقام أن نذكر تقديم ابن كثير لغارات معاوية، وهو تقديم يجعل الباحث في حيرة. فهو عندما تحدث عن التحكيم قدم الروايات التي أجمعت عليها الأمة وتفيد بأن أبي موسى وعمرو اتفقا على خلع علي ومعاوية.

وعندما خلع أبو موسى صاحبه، وجاء الدور على ابن العاص فعل ما فعل، وبرر ابن كثير ما فعله عمرو بأنه رأى أن ترك الناس بلا إمام يؤدي إلى مفسدة طويلة!! (2)، هذا ما قاله هناك، ثم نراه يقول هنا، وهو يتحدث عن غارات معاوية، إن أبا موسى وعمرا كانا قد اتفقا على خلع علي - ولم يشر إلى معاوية - وأن معاوية تحرك على هذه الخلفية حيث إنه كان يعتقد أنه الإمام الذي يجب طاعته. وإليك ما قاله ابن كثير بنصه: جهز معاوية جيوشا كثيرة فرقها في أطراف معاملات علي. وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع أبي موسى على عزل علي. إن ولايته وقعت الموقع فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقد. ولأن جيوش علي من أهل العراق لا تطيعه في كثير من الأمر ولا يأتمرون بأمره، فلا يحصل بمباشرته المقصود من الإمارة والحالة هذه، فهو

____________

(1) الطبري 81 / 6، الكامل 193 / 3، البداية والنهاية 323 / 7، ابن أبي الحديد 273 / 1.

(2) البداية والنهاية 284 / 7.

الصفحة 145
يزعم أنه أولى منه إذا كان الأمر كذلك " (1).

إن هذا التحليل يلتبس بعضه على بعض، ولا يقود أي باحث إلى حقيقة.

فلا يوجد نصا واحدا يقول أن عمروا خاف على الأمة ففعل ما فعل، ولا يوجد نصا يقول أنه اتفق على الأشعري على عزل علي وحده. والإسلام لا يقر أن عدم طاعة مصر من الأمصار لأمير المؤمنين ويعطي الحق لمن يطيعه رجاله في مصر آخر بأن تغير على الأطراف ليقتل ويسرق، تحت لافتة أن هذا هو المقصود من الإمارة والحالة هذه. والإسلام لا يقر أيضا أن يقوم الأولى بقتل الأطفال وعرض النساء المسلمات في الأسواق. علما بأن الأمة لم تعط لمعاوية لقب " الأولى " في حياة علي، والخلاصة: أننا نفهم أن بتر النصوص عند الحديث عن أهم الأحداث التاريخية دون توضيح لا يكون مفيدا للباحث في جميع الأحوال.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net