متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
5 - ليلة بكى فيها القمر
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

5 - ليلة بكى فيها القمر:

روي أن عليا خطب الناس بعد أن تخاذلوا عنه فقال: " أيها الناس إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها، ورب السماوات والأرض. أن من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي: " إن الأمة ستغدر بك بعدي " (2). لقد أعلنها الإمام واضحة جلية على أسماعهم. إن أفعالهم التي بها يستحقون الثواب والعقاب. الله تعالى أعلم بها من أنفسهم، وأنهم اختبروا لينظر الله كيف يعملون. وأن نتيجة أعمالهم عهد بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي. وعلى هذا فإن الإمام كان يعلم أن الضربة التي ستأتيه، ستأتيه من طريق غدر طويل. وعلى الرغم من هذا فإنه على امتداد هذا الطريق لم يكن يعبأ بما سيفعله أهل الغدر. وإنما كان يدعو ويصحح الأخطاء فكان بذلك شاهد على جيل الصحابة، وكان السلف بذلك شاهد على الخلف. فالإمام هو الإنسان الوحيد الذي قاتل داخل سور الأمة على تأويل

____________

(1) البداية والنهاية 320 / 7.

(2) ابن أبي الحديد 813 / 1 والحديث رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح (البداية والنهاية 218 / 6، كنز العمال 297 / 11).

الصفحة 146
القرآن. وبما أن حجية القرآن قائمة على امتداد التاريخ، فإن حجية الأحداث التي تعلقت بالقرآن قائمة أيضا.

وعندما أعلن الإمام أمامهم أن طريق الغدر الذي يقفون عليه، أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عليا. قال: أما والذي نفسي بيده، ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطلهم.

وإبطائكم عن حقي. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي. استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا. وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرا وجهرا فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهود كغياب، وعبيد كأرباب (1). اتلوا عليكم الحكم فتنفرون منها، وأوعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبأ (2)، ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم (3).

أقومكم غدوة، وترجعون إلى عشية كظهر الخية (4). عجز المقوم وأعضل المقوم (5). أيها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلي بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم.

يا أهل الكوفة.. منيت منكم بثلاث واثنتين: صم ذو أسماع، وبكم ذو كلام، وعمي ذو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء، تربت أيديكم (6) يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها. كلما جمعت من جانب تفرقت من آخر، والله لكأني بكم فيما

____________

(1) عبيد كأرباب / يصفهم بالكبر.

(2) أيادي سبأ / مثل يضرب للمتفرقين.

(3) تتخادعون عن مواعظكم / أي تمسكون من الاتعاظ والانزجار.

(4) كظهر الخية / الخية القوس. يريد اعوجاجهم كما أن ظهر القوس معوج.

(5) اعضل المقوم / أي أعضل داؤه.

(6) تربت أيديكم / أي لا أصبتم خيرا.

الصفحة 147
أخاكم (1) ألو حمى الوغي (2)، وحمى الضراب، قد انفرجتم عن علي بن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها (3). وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبي، وإني لعلى الطريق الواضح القطه لقطا (4)... (5).

يقول ابن أبي صالح الحنفي: رأيت علي بن أبي طالب أخذ المصحف، فوضعه على رأسه، حتى إني لأرى ورقة يتقعقع ثم قال: اللهم إنهم منعوني أن أقوم في الأمة بما فيه، فاعطني ثواب ما فيه، اللهم إني قد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، اللهم فابدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني.

اللهم أمت قلوبهم موت الملح في الماء (6).

وعندما بلغ أمير المؤمنين غارة معاوية على هيت والأنبار، قال بعد أن تثاقل أهل الكوفة: لا يدرك الحق إلا بالجد والصدق، فأي دار بعد داركم تمنعون، ومع أي إمام بعدي تقاتلون. المغرور من غررتموه، ومن فارقكم فاز بالسهم الأصيب. أصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خيرا لي منكم، وأعقبكم من هو شر لكم مني. أما إنكم ستلقون بعدي ثلاثا: ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وآثره قبيحة يتخذها فيكم الظالمون سنة. فتبكي لذلك أعينكم، ويدخل الفقر بيوتكم، وستذكرون عند ذلك المواطن، فتودون أنكم رأيتموني وهرقتم دماءكم دوني، فلا يبعد الله إلا من ظلم (7).

____________

(1) فما أخالكم / أي فما أظنكم.

(2) حمى الوغي / اشتد وعظهم. والوغي / الأصوات والجلبة.

(3) انفراج المرأة عن قبلها / أي وقت الولادة.

(4) القطه لقطا / أي أنا التقط طريق الهدى من بين طريق الضلال لفظ من هاهنا وهاهنا.

كما يسلك الإنسان طريقا دقيقة اكتنفها الشوك.

(5) ابن أبي الحديد 624 / 2.

(6) رواه ابن عساكر (كنز العمال 195 / 13) ابن كثير (البداية 12 / 8) المسعودي (مروج الذهب 139 / 3).

(7) ابن عساكر (كنز العمال 356 / 11).

الصفحة 148
وعندما بلغه أن سرايا معاوية تقتل شيعته ويعرضون النساء المسلمات في الأسواق. خطب الناس فقال: أيها الناس. إني قد بثثت لكم المواعظ (1) التي وعظ بها الأنبياء أممهم، وأديت إليكم ما أدت الأوصياء (2) إلى من بعدهم، وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا. وحدوتكم (3) بالزواجر فلم تستوسقوا (4)، لله أنتم. أتتوقعون إماما غيري يطأ بكم الطريق (5)، ويرشدكم السبيل؟ ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، وأقبل منها ما كان مدبرا. وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى.

ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين ألا يكونوا اليوم أحياء، يسيغون الغصص، ويشربون الرنق. قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم، أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم (6) الذين تعاقدوا على المنية (7) وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ (8).

قال راوي الحديث: ثم ضرب عليه السلام بيده على لحيته الشريفة الكريمة. فأطال البكاء، ثم قال: أوه على إخواني الذين قرأوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه! أحيوا السنة وأماتوا البدعة. دعوا إلى الجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه (9). ثم نادى بأعلى صوته: الجهاد الجهاد عباد الله. ألا

____________

(1) بثثت لكم المواعظ / فرقتها ونشرتها.

(2) الأوصياء / الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الإلهية أو الذين لهم الإمرة والولاية.

(3) حدوتكم / سقتكم كما تحدى الإبل.

(4) فلم تستوسقوا / أي لم تجتمعوا.

(5) يطأ بكم الطريق / أي يحملكم على المنهاج الشرعي.

(6) أين نظراؤهم / يعني الذين قتلوا بصفين من الصحابة.

(7) وتعاقدوا على المنية / جعلوا بينهم عقدا.

(8) وابرد برؤوسهم / أي حملت رؤوسهم مع البريد إلى الفسقة للبشارة بها. والفجرة هنا هم أمراء الشام.

(9) وثقوا بالقائد / يعني نفسه فاتبعوه في حرب من حارب وسلم من سالم.

الصفحة 149
وإني معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج (1). وروي أنه ضرب برجله على المنبر حتى سمع قدمه في آخر المسجد، وقال: والله لتطأون هكذا هكذا. ثم لتستعملن عليكم اليهود والنصارى حتى تنفوا، ثم لا يرغم الله إلا بآنافكم (2).

لقد أخبرهم أولا بظهور أهل الشام عليهم، ثم أخبرهم ثانيا بأن اليهود والنصارى سيقودوهم إلى عالم النفي أي عالم التردية، حيث تكون مهمتهم تقليد اليهود والنصارى في كل شئ، ثم أخبرهم ثالثا بأنهم سيركبون المرحلة الأخيرة معهم، وهي التي لا يرغم الله إلا بآنافهم، وهذه الأرضية هي أرضية الخنزيرية حيث يطبخون في المادة حتى يأتيهم الدجال.

وروي أن الإمام بعد أن خطبهم خرج بنفسه ماشيا إلى المعسكر. فأدركه بعض الناس، وكان يريد أن يتوجه لقتال أهل الشام. ومن العجيب أنه بعد أن عزم على ضرب أهل الشام جاءته الضربة القاتلة من أشقى الناس عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، وعندما جاءت الضربة تراجع العساكر فكانوا كأغنام فقدت راعيها، تخطفها الذئاب من كل مكان (3).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net