متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
7 - لهيب الليل
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

7 - لهيب الليل:

لم ير الناس إلا ابن ملجم وأصحابه عندما قتل أمير المؤمنين، وفي الحقيقة كان هناك طابور طويل يقف وراء ابن ملجم ولا يراهم إلا الله وحده.

لقد شارك الكثير من الناس في قتل علي بن أبي طالب، وفي كتاب الله الكريم.

عقر ناقة صالح عليه السلام فردا واحدا قال تعالى: (إذ انبعث أشقاها)، وبعد إتمام عملية القتل قال تعالى: (فكذبوه فعقروها) (2)، وفي هذا يقول الإمام علي: أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا، فقال سبحانه: (فعقروها فأصبحوا نادمين) (3). فما كان ألا خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة. أيها الناس: من سلك الطريق ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه (4). ولا يخفى أن حديث قتل علي بن أبي طالب فيه أحيمر ثمود قاتل الناقة، والذي يضرب عليا على رأسه فتخضب لحيته من رأسه. فأشقى الناس هنا يقابله أشقى الناس هناك، وقتل علي هنا يقابله قتل الناقة هناك. والعذاب الذي وقع هناك لا بد وأن يقابله عذاب هنا. ولذلك كان علي بن أبي طالب يخبرهم بالذل الشامل الذي سيحل بهم بعد مقتله كما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والعذاب الذي يشق طريقه الظالمون من الأمة الخاتمة، يستقيم مع رسالة الأمة ودوامها حتى قيام الساعة. بمعنى أن ثمود ضربهم عذاب الاستئصال. أما الأمة الخاتمة فلها عذاب يستقيم مع الاستئصال بصورة من الصور حتى يأتي أمر الله.

____________

(1) مروج الذهب 462 / 2.

(2) سورة الشمس: الآية 14.

(3) سورة الشعراء: الآية 157.

(4) ابن أبي الحديد 549 / 3.

الصفحة 156
ولما كان الدجال خارج لا محالة في آخر الزمان. كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة " (1). ولما كانت جميع الفتن منذ كانت الدنيا تصب شذوذها في سلة لها موضع عند الدجال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: " وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة أو كبيرة إلا لفتنة الدجال " (2)، فإن ملامح العذاب الذي يصيب الظالمين من الأمة ترى صورته على طريق الدجال. وطريق الدجال داخل مربع الأمة يبدأ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند دائرتين: " ثلاثة من نجا منها فقد نجى، من نجا عند موتي، ومن نجا عند قتل خليفة يقتل مظلوما وهو مصطبر يعطي الحق من نفسه فقد نجا، ومن نجا من فتنة الدجال فقد نجا " (3). فالدائرة الأولى حادث أو موقف ينشأ عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، والدائرة الثانية قتل خليفة يعمل بالحق ويسير بالحق وهدفه الحق. فالذي ينجو من الدائرة الأولى، ويدخل في أمان الدائرة الثانية تسوقه أقدامه إلى أمان الدائرة الثالثة والتي يكون مركزها الدجال. فالأمان يدفع إلى أمان. ومن وقع في فتنة الدجال، فإن لوقوعه أسباب سلك طريقها يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من الدجال، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها " (4).

فهذا باختصار طريق العذاب وبعض ملامحه. والله تعالى لا يظلم الناس.

والعذاب الذي يرونه ما هو إلا نتيجة طبيعية لأعمالهم. والله تعالى أخذ على نفسه الرحمة، وأنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. ولقد ساق النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى طريق الهداية. وحذرهم من كل سبيل

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 55 / 18) الترمذي (الجامع 232 / 4) وأحمد (الفتح الرباني 76 / 24) الحاكم (المستدرك 536 / 1).

(2) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).

(3) رواه أحمد والطبراني والضياء بسند صحيح (كنز العمال 180 / 11) والحاكم وصححه (المستدرك 101 / 3).

(4) رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).

الصفحة 157
ليس لله فيه راية. وبالغ في التحذير فقال: " من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله " (1)، وقال: " أول فرقة تسير إلى السلطان في الأرض لتذله يذلهم الله تعالى يوم القيامة " (2)، قال في تحفة الأحواذي: أي من أهان من أعز الله أهانه الله. وفي الأرض متعلق بسلطان الله. قال تعالى لداوود عليه السلام: " إنا جعلناك في الأرض خليفة " وإضافة السلطان إلى الله إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله " (3).

فالنبي حذر من إهانة سلطان الله، وحذر أيضا من إهانة وليه الذي هو ولي الله فقال: " من أهان لي وليا فقد بارزني بالعداوة " (4)، وقال: " من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " (5)، وقال: " من عادى لي وليا فقد ناصبني بالمحاربة (6)، وقال: " من آذى لي وليا فقد استحل محارمي " (7)، وقال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: " أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم " (8)، وقال: " من آذى عليا فقد آذاني " (9)، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وانصر من نصره واخذل من خذله " (10)، وقال:

____________

(1) رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني (كتاب السنة 489 / 2) والترمذي (كنز العمال 184 / 1).

(2) رواه الديلمي عن حذيفة (كنز 215 / 1).

(3) تحفة الأحواذي 476 / 6).

(4) رواه الطبراني وأبو نعيم عن أبي إمامة (كنز 229 / 1).

(5) رواه ابن عساكر عن أنس (كنز 229 / 11).

(6) رواه الطبراني عن ابن عباس (كنز 231 / 1).

(7) رواه أحمد وأبي يعلى والطبراني وابن عساكر عن عائشة (كنز 230 / 1).

(8) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 149 / 3) والضياء بسند 640 / 13) والترمذي (الجامع 699 / 5).

(9) رواه أحمد وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات، ورواه الطبراني والبزار وابن حبان في صحيحه (الزوائد 129 / 9) والحاكم صححه (المستدرك 122 / 3) وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 129 / 9)، وابن سعد وابن أبي شيبة (كنز 142 / 13).

(10) رواه البزار وابن جرير وقال الهيثمي رجاله ثقات (كنز العمال 158 / 13) والألباني وصححه (الصحيحة 343 / 5).

الصفحة 158
" سبعة لعنتهم ولعنهم الله " منهم " المتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله. والمستحل من عترتي ما حرم الله " (1).

والنبي وهو يحذر كان يعلم أن الأمة ستقع في الفتن، ولكن ما على الرسول إلا البلاغ، ولقد ساق الناس إلى الهدى آخذا بجميع الأسباب للوصول بهم إلى هذا الهدف. كان يعلم بأنهم سيكذبوه وأنه سيهاجر ويترك لهم الديار في سبيل الله وأنهم سيقاتلونه وأن بني أمية سيصعدون منبره في نهاية المطاف، فلم يحول هذا العلم بينه وبين الدعوة، وإنما جاهد ونصح حتى لا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة. ومما روي عن النبي وهو يخبر بالغيب عن ربه " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم ويرث دنياكم شراركم " (2). ففي الحديث بداية تسفر عن قتل إمام، ثم اجتلاد بالسيوف، ثم يجلس الرويبضه والغلمان السفهاء على المقاعد الأولى وبين أيديهم دنيا فعلوا من أجلها الأفاعيل.

وهكذا يستقيم البدء مع الختام. فالناس لم يروا سوى ابن ملجم وأصحابه عند قتل الإمام علي، كما أن ثمود لم تر سوى عاقر الناقة وأصحابه. وروي أن الناقة عندما قتلت رفعت ببصرها إلى السماء. وروي أن جماعة تبعوا فصيلها لما هرب منهم فرماه أحدهم بسهم فأصاب قلبه، وأن فصيلها رغا ثلاث مرات إلى السماء (3)، وروي أن الإمام علي قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي. فقلت: يا رسول الله. ما لقيت من أمتك من الأود واللدد.

فقال: ادع عليهم. فقلت: اللهم ابدلني بهم من هو خير لي منهم. وأبدلهم بي من هو شر مني (4)، وهذا الدعاء جهر به الإمام أمام القوم عندما خذلوه. ثم

____________

(1) رواه ابن أبي عاصم وحسنه الألباني (كتاب السنة 24 / 1).

(2) رواه الترمذي (الجامع 468 / 4) وقال في تحفة الأحواذي، رواه ابن ماجة (التحفة 391 / 6).

(3) ابن كثير في التفسير (229 / 2) والميزان (315 / 10).

(4) البداية والنهاية 12 / 8، الطبقات الكبرى 36 / 3، العقد الفريد 289 / 2، مقاتل الطالبين ص 16.

الصفحة 159
رحل الإمام وأمامه البشرى. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أبشر يا علي حياتك معي وموتك معي " (1)، وقال: " إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان " (2)، وقال لفاطمة: " إني وإياك وهذا النائم (3) وهما (4) لفي مكان واحد يوم القيامة " (5).

وإذا كانت البشري دائرة عاش فيها الإمام علي في الدنيا، فإن البشري يوم القيامة ستكون حقيقة يعيشها الإمام علي بجانب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبما أن ساحة الأمة يوجد عليها إمام مقتول، فإننا نلقي الضوء هنا على الدماء يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أول ما يقضي بين الناس في الدماء " (6)، وفيما يتعلق بالأمة في هذا الشأن يقول الإمام علي: " أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة " (7)، وروي أنه قال: " أنا حجيج المارقين وخصيم الناكثين المرتابين " أي: يوم القيامة (8).

وروي أنه عندما نزل قوله تعالى: " (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) (9) قال الزبير يا رسول الله. أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال: نعم فقال الزبير: إن الأمر إذا لشديد (10).

وروي أن الإمام علي قال: يؤتى بي وبمعاوية يوم القيامة فنختصم عند ذي

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 112 / 9).

(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 667 / 5) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 137 / 3).

(3) أي عليا.

(4) أي الحسن والحسين.

(5) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 137 / 3).

(6) رواه البخاري ومسلم والترمذي (كشف الخفاء 826 / 1)، (الجامع 10 / 4)، (كنز العمال 20 / 15).

(7) رواه البخاري (الصحيح 5 / 3.

(8) ابن أبي الحديد 378 / 2.

(9) سورة الزمر: الآية 31.

(10) رواه الترمذي وصححه (الجامع 371 / 5).


الصفحة 160
العرش. فأينا فلج فلج أصحابه " (1)، وقال: " حزبنا حزب الله، والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن سوى بيننا وبين عدونا فليس منا " (2)، أما قول الإمام بأن حزبه هو حزب الله فإن هذا يستشف ويرى بوضوح في آيات القرآن الكريم وفي الأحاديث الصحيحة وفي حركة التاريخ، وإما أن الفئة الباغية هي حزب الشيطان، فيكفي الفئة الباغية قتل عمار الذي يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في عمار: " عمار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه. وخلط الإيمان بلحمه ودمه " (3)، وقال: روي عمار إيمانا إلى مشاشته (4)، فعمار الذي في دائرة الإيمان قتل بيد الفئة الباغية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أبى الله أن يجعل لقاتل مؤمن توبة " (5)، وقال: " لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " (6)، فالذي يقتل مؤمنا لأنه مؤمن، فهذا بلا جدال من حزب الشيطان. ولأن المؤمن كثير ما يقتل على طريق البغي، فلقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الطريق فقال: " يا معشر المسلمين احذروا البغي، فإنه ليس من عقوبة هي أخطر من عقوبة البغي " (7)، وقال: " لو بغي جبل على جبل لدك الباغي منهما " (8)، وقال:

لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه شئ منه " (9)، وقال: " لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة " (10)،

____________

(1) رواه ابن عساكر والحارث (كنز العمال 350 / 11).

(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 356 / 11).

(3) رواه ابن عساكر (كنز العمال 720 / 11).

(4) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 392 / 3).

(5) رواه الطبراني والضياء بسند صحيح (كنز العمال 19 / 15).

(6) رواه الترمذي (الجامع 11 / 4).

(7) رواه ابن أبي الدنيا وابن النجار (كنز العمال 308 / 3) وابن عدي (كنز 446 / 3).

(8) (كنز العمال 446 / 3).

(9) رواه ابن عساكر (كنز العمال 19 / 11) والطبراني (كنز 446 / 3).

(10) رواه مسلم (كنز العمال 518 / 3) وأحاديث لواء الغدر رواه البخاري (الصحيح 78 / 4) والترمذي (الجامع 144 / 4).

الصفحة 161
فالأمير الذي يسلك طريق المكر والخديعة على امتداد طريق البغي هو أعظم الناس غدرا، وله لواء يوم القيامة يحمل اسمه.

فإذا كان حزب الله وحزب الشيطان لهما معالمهما في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. فلا تسوية بين هذا وذاك لقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: " علي بن أبي طالب باب حطة، من دخل فيه كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا " (1)، قال في فيض القدير: والمعنى أن عليا طريق حط الخطايا (2)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلو أن رجلا صفن (3) بين الركن والمقام وصلى وصام ثم مات وهو مبغض لآل محمد صلى الله عليه وسلم دخل النار " (4)، وقال: " والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار " (5)، وقال: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف. فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا فصاروا حزب إبليس " (6)، والتسوية لا تستقيم أيضا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن طريق البغاة سيكون فيه مال الله دولا، ودين الله دخلا وعباد الله خولا. وعلى امتداد هذا الطريق تنبت الأشجار التي حذر منها النبي، أشجار الفتن التي يجلس في ظلها الدجال وأتباعه آخر الزمان. ودائرة الدجال التي عليها رجس لا تستقيم مع دائرة المهدي الذي فيها من الله طهر. وكما حذر النبي من الدجال في أحاديث، بشر أيضا بالمهدي في أحاديث. ومن عدل الله أنه قابل الشر المخبوء بعدل مخبوء، وكما أن للشر أعلام كذلك للعدل أعلام.

____________

(1) رواه الدارقطني في الأفراد (كنز 100 / 5).

(2) فيض القدير 4 / 356.

(3) أي وقف.

(4) رواه الطبراني. وقال الهيثمي روى هذا الحديث عن سفيان الثوري وبقية رجاله رجال الصحيح (الزوائد 171 / 9)، ورواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وواقعة الذهبي (المستدرك 149 / 3).

(5) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (المستدرك 150 / 3).

(6) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد (المستدرك 149 / 3).

الصفحة 162
وفي الختام نقول: لقد عمل التيار التخريبي على امتداد التاريخ لوقف حركة الأنبياء والرسل، ولكن كيدهم رد إلى نحورهم وخاب سعيهم وأصبحوا أحاديث. وعند الرسالة الخاتمة اجتمعت رايات الشذوذ التي تحمل بصمات الذين أصبحوا أحاديث، وأرادوا الكيد للدعوة، ولكن الله كشف خباياهم، وهتك سترهم وأخبر النبي بوقع أقدامهم في المستقبل كي يحذر أمته. فكان النبي يتكلم مع الرجل منهم في الوقت الذي يرى حقيقته في الآخرة، بمعنى: يقول له أحدهم يا رسول الله أين مدخلي؟ فيقول له النبي: النار فالنبي هنا يراه على صورتين، والصورة الأخيرة هي الحقيقة، وعلى هذا المثال، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث مع فطاحل بني أمية، وهو يراهم في صورة أخرى على منبره بعد وفاته، ثم يرى حقيقتهم في الآخرة. وفقا لهذا حذر النبي أشد التحذير من اليهود ومن النصارى، ومن المنافقين ومن الذين في قلوبهم مرض، ولقد بينا هذا في موضعه.

وبعد النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد بني أمية، فكان العقد فيما بينهم، حتى أن أبي بن كعب كان يقول في عهد عمر: " هلك أهل العقد ورب الكعبة، هلك أهل العقد ورب الكعبة، والله ما آسي عليهم إنما آسي على من أهلكوا من المسلمين (1). ولقد ذكرنا فيما سبق أن أبي بن كعب عندما وعد الناس بأنه سيتكلم يوم الجمعة. ما جاء يوم الجمعة إلا وأبي بن كعب في عالم ما بعد الحياة الدنيا. ولا ندري أهي مصادفة أن يموت أبو بكر مسموما، وعمر مقتولا، ثم يأتي عثمان يضعه بني أمية على طريق القتل، ثم يأتي أمير المؤمنين علي فيقاتله معاوية، ثم يقتل أمير المؤمنين. ولقد اتهم أبو الأسود الدؤلي معاوية بهذا القتل عندما قال:

ألا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طر أجمعينا

____________

(1) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 527 / 4).

الصفحة 163

قتلتم خير من ركب المطايا * وذللها ومن ركب السفينا (1)

وكان الإمام علي يضع قريش في دائرة الساعين لقتله وكان كثيرا ما يقول:

تلكم قريش تمناني لتقتلني * فلا وربك ما بروا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم * بذات ودقين ولا يعفو لها أثر (2)

فبني أمية لم تكن بعيدة عن دم الإمام، ثم جاء دور الحسن بن علي وروي أن معاوية أوصى بنت الأشعث لتسمه، وقتل الحسن مسموما. ثم جاء الدور على الحسين قتيل الدولة الأموية. فهل جاء كل هذا مصادفة ليجلس بني أمية على رؤوس الأمة؟ إن الذي قطف الثمرة لا بد أنه يراقب الشجرة زمنا طويلا، وهذه المراقبة لا بد وأن تستقيم مع أحاديث اللعن التي لعن فيها النبي تيارات الهدم. بمعنى أنهم وهم يراقبون الأحداث كانوا على دراية بأن هذه الأحداث ستصب في وعائهم في نهاية المطاف، لأن وقودهم هو الذي يدفعها ويسيرها.

إن قيادة بني أمية للبغض لم تأت بعد عهد الإمام علي، وإنما بدأت بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نراه في حديث: " أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة " (3)، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم " (4)، إن البغض لطريق الهداية كان منذ زمن الرسول، وهذا البغض ارتدى رداء الفتن البراقة بعد عهد علي بن أبي طالب. ولقد كان في بني أمية رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهؤلاء كان يعرفهم الإمام علي، وكان فيهم أيضا رجال يتسلقون ويشترون الذمم للصد عن سبيل الله وهؤلاء أيضا كان يعرفهم الإمام علي، ويرى بصماتهم من اشتغل برصد التاريخ وأحداثه. فهم هناك عند دائرة الكبر، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " الكبر بطر الحق

____________

(1) مروج الذهب 463 / 2.

(2) مروج الذهب 464 / 2.

(3) رواه البيهقي ورجاله ثقات (البداية والنهاية 268 / 6).

(4) رواه نعيم بن حماد والحاكم (كنز العمال (169 / 11).

الصفحة 164
وغمط الناس " (1)، وبطر الحق: دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا (2)، وقيل: هو أن يجعل ما جعله الله حقا باطلا، وقيل: هو أن يتكبر على الحق فلا يقبله، وغمط الناس: أي احتقارهم (3).

إن الإمام علي قتله الذين يبغضونه، قتله تيار المسجد الضرار، وتيار العقبة الذين أرادوا يوما أن يغتالوا النبي عند عودته من تبوك. والتاريخ لا يحاكم الناس، وإنما الذي يحاكمهم الله وحده. وروي أن الإمام علي قال: لا تأمنن على خير هذه الأمة عذاب الله لقوله تعالى: " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرين) (4).

ولا تيأس لشر هذه الأمة من روح الله لقوله تعالى: (إنه لا يبأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (5).

إن التاريخ لا يحاكم أحدا، إنما الذي يحاكم الناس هو الله وحده. ولقد رحل الإمام، وفي الحديث الصحيح يقول النبي لعلي: أنت أخي، وأبو ولدي، تقاتل على سنتي وتبرئ ذمتي، من مات في عهدي فهو كنز الله، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه. ومن مات بحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن، والإيمان ما طلعت الشمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل في الإسلام " (6).

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 89 / 2).

(2) النووي شرح مسلم (الصحيح 89 / 2).

(3) تحفة الأحواذي 138 / 6.

(4) سورة الأعراف: الآية 99.

(5) سورة يوسف: الآية 87.

(6) رواه أبو يعلى وقال البوصيري رواته ثقات (كنز العمال 159 / 13).

الصفحة 165


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net