متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
4 - وفاء وحقائق على الطريق
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

4 - وفاء وحقائق على الطريق:

كان معاوية في الكوفة، وعلى امتداد الطريق من الكوفة إلى المدينة يبعث إلى كل من يعرفه ويسألهم عن علي بن أبي طالب. وكان يريد من وراء ذلك الوقوف على أسباب حب الناس لعلي ليقوم بعد ذلك بوضع منهج ثقافي يتصدى لعلي بعد وفاته. ومن الذين التقى بهم معاوية خالد بن المعمر. قال معاوية له:

كيف حبك لعلي؟ قال: أحبه لثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى وفائه إذا وعد (1). وروي أنه بعث إلى امرأة يقال لها دارمية الحجونية وقال لها: أتدري لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال:

بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني، قال: لا أعفيك. قالت: أما إذا أبيت، فإني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بحق. وواليت عليا على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى قوله: من كنت مولاه... - وحبه المساكين وحكمك بالهوى. فقال لها: يا هذه، هل رأيت عليا؟ قالت: أي والله. فقال: فكيف رأيته قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك. ولم تشغله النعمة التي شغلتك، فقال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست (2).

وروي أنه بعث إلى امرأة تدعى الزرقاء بنت عدي. فعندما دخلت عليه قال: مرحبا وأهلا. كيف كنت في مسيرك؟ أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: إني لي بعلم ما لم أعلم! قال: ألست الراكبة الجمل والواقفة بين الصفين يوم صفين تحضين على القتال، وتوقدين الحرب، فما حملك على ذلك؟ فقالت: يا معاوية مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث

____________

(1) العقد الفريد 282 / 2.

(2) العقد الفريد 115 / 2.

الصفحة 182
بعده الأمر. قال: صدقت. أتحفظين كلامك يوم صفين؟ فقالت: لا. قال:

لكني أحفظه. لله أبوك حين تقولين: أيها الناس، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء بكماء، لا تسمع لناعقها ولا تنساق لقائدها. إن المصباح لا يضئ في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار على الغضض. فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، دفع الحق باطله، فلا تجهلن أحد فيقول: كيف العدل وأنى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا...

ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه. فقالت:

أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك،، فمثلك بشر بخير وسر جليسه. قال أو يسرك ذلك؟ فقالت: نعم والله. لقد سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل.

قال معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته (1).

وروي أنه أمر بأن تحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن سراقة. وعندما حضرت قال معاوية: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل: أنا أحفظ بعض كلامها.

كانت تقول: أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم. إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء - مدلهمة. فأين تريدون رحمكم الله. أفرارا عن أمير المؤمنين. أم فرارا من الزحف. أم رغبة عن الإسلام. أم ارتدادا عن الحق. أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم). ثم رفعت رأسها إلى السماء يومئذ وقالت: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، وأردد الحق إلى أهله. هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والرضي التقي، والصديق الأكبر،

____________

(1) العقد الفريد 108 / 2.

الصفحة 183
إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية. وثب بها واثب حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد شمس. ثم قالت يومئذ قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. صبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم. فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض. باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة ولات حين مناص. إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل. ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها، فالله الله أيها الناس، قبل أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان. فإلى أين تريدون رحمكم الله؟

عن ابن عم رسول الله صلى عليه وسلم، وصهره وأبي سبطيه، خلق من طينته وتفرع من نبعته (1)، وخصه بسره (2)، وجعله باب مدينته (3)، وأبان ببغضه المنافقين (4). وها هو ذا مغلق السهام، ومكسر الأصنام (5)، صلى والناس مشركون (6) - وأطاع والناس كارهون،، وقتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر (7)، مفرق به جمع هوزان، فيا لها

____________

(1) تقصد قول النبي: " إن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي "، رواه الطبراني عن جابر وابن عباس (كنز 600 / 11).

(2) تقصد حديث النجوى وغيره في حديث النجوى حديث صحيح رواه الترمذي (الجامع 639 / 5).

(3) تقصد حديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " وهو حديث صحيح وله طرق ضعيفة. وركز القوم على طرقه الضعيفة.

(4) تقصد حديث " لا يبغضه إلا منافق " ورواه مسلم وغيره.

(5) تقصد حديث تكسيره الأصنام مع رسول الله. ورواه البخاري.

(6) تقصد حديث " أنا أول من أسلم " رواه الترمذي وصححه (الجامع 642 / 5) وحديث " أنا أول من صلى " رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 103 / 9).

(7) تقصد حديث " لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله " والحديث رواه البخاري وأحمد (البخاري 166 / 2) الفتح الرباني 122 / 23.


الصفحة 184
من وقائع زرعت في قلوب نفاقا وردة وشقاقا - وزادت المؤمنين إيمانا.

فقال معاوية: يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوءني في أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه (1).

وروي أن عكرشة بنت الأطرش بن رواحة دخلت على معاوية متوكئة على عكازها، فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست. فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين. قالت: نعم إذ لا علي حي، فقال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين، وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. إن الجنة لا يرحل عنها من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم، مستظهرين بالصبر على طلب حقهم. إن معاوية دلف إليكم العرب غلف القلوب. لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة. دعاهم بالدنيا فأجابوه واستدعاهم إلى الباطل فلبوه. ثم قال:

فكأني أراك على عصاك هذه، وقد انكفأ عليك العسكران يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش، فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم)، وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته. قال: صدقت فاذكري حاجتك. قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا، وإنا فقدنا ذلك، فقال معاوية: هيهات يا أهل العراق نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا (2).

لم يكن سهلا على معاوية أن يتلقى صفعات الحقائق من النساء المسلمات، ولكن معاوية عندما يستمع فإنما يستمع لهدف. ولقد اختار من النساء التي تشتهر بين قومها بالبلاغة، واختار أن يسمع من النساء، لأن الكلمات

____________

(1) العقد الفريد 119 / 2.

(2) العقد الفريد 112 / 2.

الصفحة 185
ستخرج بلا خوف من سيوف وقيود. وبعد أن استمع، تحرك ركبه إلى المدينة.

وروي أنه لما قدم المدينة، تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك، فما رد عليهم جوابا حتى دخل المدينة. فقصد المسجد ثم قال: أما بعد فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة، فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه. وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفورا وأعظم هربا من ذلك. وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي. وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم. غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكن فيه مواكلة حسنة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة. فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم. والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه... وإياكم والفتنة فلا تهموا بها... (1).

وأهم معالم الخطاب أن لكل خليفة طريقة، وبما أن معاوية لا يدرك فضل الذين سبقوه رضوان الله عليهم، فإنه ستكون له سنة خاصة به فيها منفعة له ولهم. وفي جميع الأحوال فهو قد وضع نفسه في دائرة الخير " فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم "، وفي جميع الأحوال فهو في دائرة الحق " وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه "، وفي جميع الأحوال فإن هذا هو الدين الذين نزل به جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.

وروي أن معاوية لقي أبا قتادة الأنصاري في المدينة فقال له: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار. فقال: لم يكن لنا دواب. قال: فأين النواضح؟

فقال: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. ثم قال: إن النبي صلى الله عليه

____________

(1) البداية والنهاية 132 / 8.

الصفحة 186
وآله وسلم قال لنا: إنكم سترون بعدي آثرة. فقال معاوية: فما أمركم؟ قال:

أمرنا أن نصبر. فقال معاوية: فاصبروا وعندما بلغ عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ذلك قال:

ألا أبلغ معاوية بن حرب * أمير المؤمنين نبأ كلامي
فإنا صابرون ومنظروكم * إلى يوم التغابن والخصام (1)

وروي أنا أبا أيوب الأنصاري قال لمعاوية: أنبأني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سنرى بعده أثرة. فقال معاوية: فيم أمركم. قال: أمرنا أن نصبر.

فقال: اصبروا إذا (2)، وروي أن مروان أقبل فوجد أبا أيوب الأنصاري عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم واضعا وجهه على القبر ويبكي، فقال له مروان:

أتدري ما تصنع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله (3).

وروي أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية، وهي عجوز كبيرة، فقالت: يا ابن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير بلاء كان منك، ولا من آبائك ولا سابقة في الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتعس الله منكم الجدود، وأضرع منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون. وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المنصور، فوليتم علينا بعده تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون. وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا صلى الله عليه

____________

(1) تاريخ الخلفاء 188 / 1.

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح (الزوائد 323 / 9).

(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه كثير بن زيد وثقه أحمد وغيره (الزوائد 245 / 5) ورواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 515 / 4) ورواه أحمد (الفتح الرباني 32 / 23).

الصفحة 187
وسلم بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة، وغايتكم النار، فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة، واقصري من قولك مع ذهاب عقلك. إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له: وأنت يا ابن النابغة تتكلم، وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن الأجرة. ادعاك خمسة نفس من قريش، فسألت أمك عنهم فقالت: كلهم أتى فانظروا أشبههم به فالحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به. فقال مروان: كفى أيتها العجوز واقصدي لما جئت له. فقالت: وأنت أيضا يا ابن الزرقاء تتكلم. ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك. فإن أمك القائلة في قتل حمزة:

نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من صبر * وشكر وحشي علي دهري
حتى ترم أعظمي في قبري

فأجابتها بنت عمي وهي تقول:

خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنة جبار عظيم الكفر

فقال معاوية: عفا الله عما سلف، هات حاجتك. قالت: ما لي إليك حاجة وخرجت عنه (1)، وروي أن سعنة بن عريص قال لمعاوية: أنشدتك الله يا معاوية أما تذكر يا معاوية لما كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء علي بن أبي طالب، فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قاتل الله من يقاتلك وعادى من يعاديك، فقطع عليه معاوية حديثه وأخذ معه في حديث آخر (2).

ما زلنا نرى الأحداث ومعاوية في المدينة، ولم يبق أمامنا إلا أن نرصده عند بيت عثمان الذي كان قميصه لافتة كبرى عند بداية الأحداث. روي أن واثلة صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على معاوية. فقال له معاوية:

____________

(1) العقد الفريد 121 / 2.

(2) قال في الإصابة رواه ابن شيبة (الإصابة 94 / 3).

الصفحة 188
ألست من قتلة عثمان؟ قال: لا ولكني ممن حضره فلم ينصره. فقال: وما منعك من نصره؟ قال: لم تنصره المهاجرون والأنصار. فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجب عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟ فقال: أما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادا (1)

وروي أن معاوية عندما دنا إلى باب دار عثمان بن عفان صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها. فقال لها معاوية: يا بنت أخي، إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلما تحته غضب. وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا، شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم. ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعته. فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا. وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين. أحب إلي أن تكوني أمة من إماء المسلمين. ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك (2).

وهكذا اندثرت لافتة " قميص عثمان " بعد أن حققت أهدافها، وأصبح معاوية نعم الخلف لأبناء عثمان بعد أبيهم. وعلى امتداد الطريق من الكوفة إلى المدينة، وضع معاوية يده على حقائق منها أن حب علي بن أبي طالب في القلوب، وأن تعاليمه راسخة رسوخ الجبال، ولن يكون من السهل انفراد الحكام ببيوت المال، وأن حقه واضح ومنزلته من الرسول لا تحتاج إلى بيان طويل.

وفوق كل هذا علم معاوية أن تاريخه الأموي تاريخ مكشوف أمام المهاجرين والأنصار، وأن كل ما ادعاه في حربه مع علي أصبح مفضوحا على ساحة المدينة وما حولها. وأما هذا وغيره، أقدم معاوية على سياسة يتم من خلالها التعتيم على دائرة الطهر، وفي الوقت نفسه تصنع له تاريخ.

____________

(1) تاريخ الخلفاء 187 / 1.

(2) البداية والنهاية 133 / 8.

الصفحة 189


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net