متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثامنها - صمود على الطريق
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثامنها - صمود على الطريق:

كان الحسين عليه السلام في الطريق إلى الكوفة، ولم يكن يعلم بالأحداث التي جرت هناك، لذا بعث قيس بن مسهر إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم. فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد.

فإن كتاب مسلم بن عقبة قد جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا... فإذا قدم عليكم رسول فاكمشوا أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله " (1)، وأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى إذا انتهى إلى القادسية. أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد، الذي كان قد شدد الرقابة على جميع المنافذ والأبواب. وعندما علم ابن زياد بأسباب قدوم قيس بن مسهر، أمر قيس أن يصعد القصر حتى يراه الناس وقال له: سب الكذاب ابن الكذاب... فصعد ثم قال: أيها الناس، إن

____________

(1) الطبري 223 / 6.

الصفحة 271
هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم.

وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه واستغفر لعلي بن أبي طالب. وعندئذ أمر ابن زياد أن يرمي به من فوق القصر فرمي به فتقطع فمات (1).

لقد كان بيان قيس بن مسهر فيه كفاية ليهب الناس هبة رجل واحد، ولكن القوى الطاغية كانت قد نشرت الذل في الطرقات بما فيه كفاية، ولكي يطوقهم الحسين بطوق الحجة مرة أخرى، بعث إليهم عبد الله بن يقطر. وما حدث لقيس حدث لابن يقطر. فلقد تلقته خيل الحصين بن نمير بالقادسية، وبعث به إلى ابن زياد، فأمره أن يصعد القصر، وأن يلعن الكذاب ابن الكذاب. فصعد فلما أشرف الناس قال: أيها الناس إني رسول الحسين بن فاطمة بن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة بن سمية الدعي.

فأمر ابن زياد بأن يلقى من فوق القصر، فرمي به فكسرت عظامه وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير. (2) فذبحه فما عيب ذلك عليه قال:

إنما أردت أن أريحه (3).

فالطريق إلى الفطرة ودعوتها كان ابن زياد قد أغلقه تماما. في أثناء ذلك كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه (4). وبينما هو في " ماء زبالة " سقط إليه خبر قتل رسله بالكوفة فأخرج الحسين للناس كتابا فقرأ عليهم وفيه: " بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة. وعبد الله بن يقطر. وقد خذلتنا شيعتنا. فمن أحب منكم الانصراف، فليس عليه منا ذمام " (5). فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا

____________

(1) الطبري 224 / 6، البداية 118 / 8.

(2) وقيل إنه رجل غيره كان يشبهه.

(3) الطبري 226 / 6، البداية 168 / 8.

(4) الطبري 226 / 6، البداية 168 / 8.

(5) الطبري 226 / 6.


الصفحة 272
وشمالا. حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة. وذكر الطبري:

وإنما فعل ذلك، لأنه ظن إنما اتبعه الأعراب، لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون.

وقد علم أنهم إذا بين لهم. لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه (1).

إلى هنا انتهت قصة الذين خذلوه في أصولها العريضة. فأي خطوة سيخطوها الحسين بعد ذلك فلن تكون بحال من أجل الذهاب إلى الذين خذلوه، وإنما ستكون نحو القوة الباغية التي تعوق تقدم الأمر الفطري بأحجار الكسروية وقيصرية وجاهلية. وانطلق الحسين حتى مر بطن العقبة فنزل بها، وبينما هو جالس جاءه أحد عمومته فسأله: أين تريد؟ فحدثه فقال للحسين: إني أنشدك الله لما انصرفت، فوالله لا تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال، ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأيا. فأما على هذه الحال التي تذكرها، فإني لا أرى لك أن تفعل. فقال الحسين: يا عبد الله إنه ليس بخفي علي الرأي ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره (2) ".

أي والله يا أبا عبد الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن الناس لا يرون إلا أول الطريق أو وسطه أما نهاية الطريق فلا ترى إلا بعد أن تجئ. والله غالب على أمره. وروي أن ابن زياد بعث إلى الحصين بن نمير أن يبعث من القادسية الحر بن يزيد وبين يديه ألف من الجنود ليستقبل الحسين، وانطلق الحر بقواته لاستقبال الحسين ومراقبته.

وروي أن الحسين خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وكان الحر وقواته يصلون مع الحسين وأتباعه، وبعد الصلاة: قام الحسين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس فإنكم أن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله. ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين

____________

(1) الطبري 226 / 6، البداية 169 / 8.

(2) الطبري 226 / 6.

الصفحة 273
فيكم بالجور والعدوان. وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا. وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم " (1)، فالحسين يوضح هنا أن الدعوة إليه كانت صادرة من صدور ماضيه، وعلى هذا الرضى جاءت الرسائل التي لم يجد أمامها إلا أن يتحرك، وإنه لو لم تأت هذه الرسائل ما كان له أن يتحرك. وكيف يتحرك نحو قوم كرهوه وجهلوا حقه. فالرسائل هي دليل الرضا، والحر وقواته دليلا على كبت هذا الرضا. ولذا قال له الحر: إنا والله ما ندري ما هذه الكب؟ التي تذكر. فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صحفا. فنشرها بين أيديهم. فقال الحر: فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك. قال الحر: لم أؤمر بقتالك وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفا، حتى أكتب إلى ابن زياد. وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت فلعل الله إلى ذلك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشئ من أمرك (2). وسار الحسين في طريق والحر في طريق آخر يسايره ويراقبه.

وروي أن الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول. كان حقا على الله أن يدخله مدخله. إلا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفئ، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله. وأنا أحق من غير، وقد آتتني

____________

(1) الطبري 228 / 6، البداية 172 / 8.

(2) الطبري 229 / 6، البداية 173 / 8.

الصفحة 274
كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم إنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن أتممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم. فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر. لقد فعلتموها بأبي وأخي وأبن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).

إن الحسين وهو يخاطب الجنود الذين لم يكتبوا إليه، خاطبهم من على أرضيه الحجة، فوضعهم مع الذين بعثوا إليه في مربع واحد. فالذين بعثوا إليهم هم أشراف القوم ورؤوسهم، والجنود لا ينفصلوا عنهم بحال، لذا كان الخطاب واحدا وموجه إلى مربع واحد.

وروي أنه خطب فيهم بمنطقة ذي حسم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون. وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، واستمرت جدا، فلم يبق منها إلا صبابة الإناء. وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا. فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما. وعندئذ قام زهير بن القين فقال لأصحابه: تتكلمون أم أتكلم. قالوا: بل تكلم، فحمد الله فأثنى عليه ثم قال: قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك. والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين، إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها. فدعا له الحسين. فأقبل الحر وقال: يا حسين إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى، فقال له الحسين: أفبالموت تخوفني؟ ما أدري ما أقول لك، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: أين تذهب

____________

(1) الطبري 229 / 6، الكامل لابن الأثير 285 / 3، نهاية الإرب 419 / 20.

الصفحة 275
فإنك مقتول فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتي * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبورا وخالف مجرما

فلما سمع ذلك منه الحر تنحى عنه وسار، وكان يسير بأصحابه في ناحية وحسين في ناحية أخرى، وبينما هم على ذلك إذا بأربعة من الكوفة قد أقبلوا على رواحلهم، وعندما انتهوا إلى الحسين قال الحر بن يزيد: إن هؤلاء النفر الذي من أهل الكوفة، ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم فقال الحسين: لأمنعنهم بما أمنع منه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري وأعواني. وقد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشئ حتى يأتيك كتاب من ابن زياد، فقال الحر: أجل ولكن لم يأتوا معك، قال: هم أصحابي وهم بمنزلة من جاء معي. فإن تممت علي ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك، فكف عنهم الحر (1).

وروي أن الحسين قال لهم: أخبروني خبر الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص به نصيحهم، فهم ألب واحد عليك. وأما سائر الناس بعد. فإن أفئدتهم تهوى إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك. قال أخبرني فهل لكم برسولي إليكم؟ قالوا: من هو؟ قال: قيس بن مسهر. فقالوا: نعم. أخذه الحصين بن نمير، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك. ولعن ابن زياد وأباه. ودعا إلى نصرتك. وأخبرهم بقدومك، فأمر به ابن زياد فألقى من طمار القصر، فترقرقت علينا حسين عليه السلام، ولم يملك دمعه، ثم قال:

منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. الله اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك " (2).

وكان الحسين قد علم بقتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر.

____________

(1) الطبري 230 / 6، البداية 173 / 8.

(2) الطبري 230 / 6، البداية 173 / 8.

الصفحة 276
عندما نزل بزباله. ولم يكن يعلم بقتل قيس إلا هنا عندما قابل النفر الأربعة.

ولأن الحسن حجة وخطواته من أجل هدف ومن وراء الهدف حكمة، لم يلجأ إلى أي قوة لتحميه من بني أمية. فهو سائر على طريق، فمن شاء أن ينصره فلينصره، والموعد الله: لقد عرض عليه أن يلجأ إلى قرية أو إلى قبيلة من القبائل، ولكنه أبى إلا أن يسير نحو الهدف. روي أن الطرماح بن عدي قال له:

إني لأنظر فما أرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم - أي قوات الحر - وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك، ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه. فسألت عنهم. فقيل: إنهم اجتمعوا ليعرضوا، ثم يسرحون إلى الحسين. فأنشدك الله، إن قدرت على أن لا تقدم عليهم شبرا إلا فعلت، فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى ترى من رأيك، ويستبين لك ما أنت صانع. فسر حتى أنزلك مناع جبلنا، الذي يدعى أجا، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر. والله إن دخل علينا ذل قط فأسير معك. حتى أنزلك القرية. ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجا وسلمى من طئ.

فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طئ رجالا وركبانا. ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجاك هيج، فأنا زعيم لك بعشرين ألف طئ يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف (1).

إن هذا عرض سخي، ولكنه لا يستقيم مع الحجة في هذه الأحداث، لأن الهجرة إلى موطن آخر. تفرضها أحداث أخرى وإنسان آخر. أما الأحداث حول أبي عبد الله الحسين فتدور على ساحة يدعى تيار القوة أنه منار الهدى فيها، وأنه الجماعة التي أمر الله بالتزامها، لهذا فلا بد من المفاصلة لا إلى الهجرة. لهذا قال أبو عبد الله الحسين لمن عرض هذا العرض: جزاك الله وقومك خيرا. إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف (2).

____________

(1) الطبري 231 / 6.

(2) الطبري 231 / 6.

الصفحة 277
إن المفاضلة لا بد منها، والحق واضح وضوح الشمس، والأربعة الذين فارقوا؟ أهل الكوفة هم في حقيقة الأمر حجة على أهل الكوفة الذين خذلوا الحسين. فالحسين كان في حاجة إلى الناس، لأنه حجة ظاهرة فيه من الله برهان، ولم يكن في حاجة لكي يقتحم بنفسه على الناس، لأن الحركة حركة اختيار لينظر الله كيف يعملون. وفي هذا المقام نسلط الضوء على ثلاث حركات لها إيقاع واحدة في دائرة الحجة.

أولها: أن الطرماح بن عدي، الذي عرض عليه العرض السابق ذكره، قال للحسين بعد أن سمع منه: دفع الله عنك شر الجن والإنس، إني قد امترت لأهلي من الكوفة ميره ومعي نفقة لهم. فأتيهم فأضع ذلك فيهم ثم أقبل إليك إن شاء الله فإن ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك. فقال له الحسين: فإن كنت فاعلا فعجل رحمك الله. يقول الطرماح: فعلمت أنه مستوحش إلى الرجال حتى يسألني التعجيل (1). فهو في هذه الحركة وهذا الايقاع يطلب الرجال. الذين يعلمون إلى أي هدف يسيرون.

ثانيها: ما رواه البغوي بسند صحيح أن أنس بن الحارث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن ابني - يعني الحسين - يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره.

وخرج الحارث إلى كربلاء فقتل مع الحسين (2). فالحارث عمل بما سمع، ما سمعه كان حجة ليس على الحارث وحده، وإنما حجة على طريق طويل. وعلى عصر ما الحارث فيه إلا فردا واحدا.

ثالثها: ما رواه الطبري من أن الحسين دخل إلى فسطاط عبيد الله بن الحر الجعفي. وقال: ادعوه لي فلما أتاه الرسول قال لعبيد الله بن الحر: هذا الحسين بن علي يدعوك. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون والله ما خرجت من

____________

(1) الطبري 231 / 6.

(2) البداية والنهاية (199 / 8).

الصفحة 278
الكوفة. إلا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها. والله ما أريد أن أراه ولا يراني.

فأخبر الرسول الحسين بذلك. فأخذ الحسين نعليه ثم قام فجاءه، فسلم وجلس، ثم دعاه إلى الخروج معه. فأعاد إليه ابن الحر تلك المقالة. فقال له الحسين:

فإلا تنصرنا، فاتق الله فينا إن تكون ممن يقاتلنا، فوالله لا يسمع وأعيتنا أحد، ثم لا ينصرنا إلا هلك. فقال ابن الحر: أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله (1)، فالحسين هنا دعا وذكر وأنذر. ولم يلوح بدينار ولا بدرهم. فمما سبق نرى أنه طلب الرجال الذين يعرفون الموقف على حقيقته. ولقد أوردنا قبل ذلك أنه قال في بيانه الذي ألقاه بعد أن علم بقتل رسله " فمن أحب منكم الانصراف، فليس عليه منا ذمام " لأنه كره أن يسير معه الأعراب وغيرهم، إلا وهم يعلمون حقيقة ما يقدمون عليه. أنه يريد الرجال الذين يسيرون بوقود فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم برهان، لأن هؤلاء ذروة الذين يؤمنون بالغيب. فأحاديث الإخبار بالغيب. بما أنها تفصل بين الحق والباطل، وبين الظلام والنور وبما أنها تبين ماذا يترتب على الانحراف. وأين تقع بصمات التزيين والإغواء، التي أخذ الشيطان على عاتقه أن يضعها ليقع عليها أكثر الناس ولا يؤمن منهم إلا القليل.

وبما أنها حجة على الأكثرية، لأن الله تعالى كشف لهم بهذه الأحاديث أمورا حتى لا تكون لهم حجة على الله يوم القيامة. (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) (2). وبما أن في أحاديث الإخبار بالغيب مبشرات بعد أن ذهبت النبوة وفيها محذرات، فكذلك هي في عهد الحسين، إن فيها إخبار بالدم، ومن لبي النداء فهو إلى القتل أقرب.

لهذا فمن يشهد الحسين ونصره، وهو على بينة من أمره، يكون في ذروة دائرة الذين يؤمنون بالغيب. وفي عصر الحسين يدخل في هذه الدائرة الذين كان هواهم فيه ولم يشهدوا خروجه، ويدخل فيها بني هاشم الذين شهدوا خروجه ولم يخرجوا - وذلك لأن الحسين أذن لهم في البقاء. ومنهم من كان يبعث إليه

____________

(1) الطبري 231 / 6.

(2) سورة الأعراف: الآية 172 - 174.

الصفحة 279
بالرسائل ليحيطه علما بما وراءه من أحداث. وفي هذه الآونة كان بني أمية يطلبونه ليقتلوه ومنهم من كان يشرح قضيته للأشراف الذين جاؤوا من الأمصار إلى موسم الحج.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net