متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
اثنى عشر - بكاء وأحداث
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

اثنى عشر - بكاء وأحداث:

  • في دار أم سلمة رضي الله عنها:

    عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة، وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟

    قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب. فقلت: ما لك يا رسول الله. قال: شهدت قتل الحسين آنفا (2). وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد أعطى أم سلمة التربة التي أتى بها جبريل عليه السلام يوم أن أخبره، بأن أمته ستقتل حسينا، وقال لها: " إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل. فجعلتها في قارورة (3) - وفي رواية - فأخذتها أم سلمة، فصرتها في خمارها (4). وممكن أن تكون فعلت هذا وذاك، لأن الإخبار بالحدث تكرر أكثر من مرة.

    ____________

    (1) البداية والنهاية 189 / 8، الطبري 261 / 16.

    (2) رواه الترمذي (البداية 217 / 8) والحاكم والبيهقي (الخصائص الكبرى 214 / 2) أسد الغابة 23 / 2.

    (3) أبو نعيم (الخصائص الكبرى 213 / 2.

    (4) رواه أحمد وأبو يعلى وقال الهيثمي رجال أبو يعلى رجال الصحيح (الزوائد 187 / 9).

    الصفحة 302
    وروي أن أم سلمة، عندما نظرت إلى التربة ووجدتها قد تحولت دما بكت، وقالت: " قد فعلوها ملأ الله قبورهم - أو - بيوتهم عليهم نارا. ووقعت مغشيا عليها (1). وفي رواية - لعنت أهل العراق، وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل (2). وتوفيت أم سلمة رضي الله عنها، في نفس العام الذي قتل فيه الحسين (3). وكانت محبة لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وإعطاء النبي التربة لها فيه إشارة، أن الله تعالى أخبره بأن حياتها، ممتدة إلى أن تسمع بهذه الأحداث. فتبين الحقيقة في عالم خيم عليه الظلام.

  • في دار عبد الله بن عباس:

    عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم. فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه (4). وهكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، عن قتل الحسين. أخبر أثناء حياته، وفي مماته. ولا يحدث شئ في كون الله عبثا. إن جبريل عليه السلام، نزل وأخبر بأن الحسين سيقتل. ومعنى أنه يقتل، أن جريمة قد حدثت، ولكل جريمة عقوبة، بمعنى أن جبريل عليه السلام أخبر بجريمة، وعقوبتها. فمن دخل في دائرة الجريمة، ضربته العقوبة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن جبريل أخبرني أن ابني هذا يقتل، وأنه اشتد غضب الله على من يقتله " (5). وكان النبي يحذر ويقول: " من آذى شعرة مني فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله " (6). ولقد تحدثنا فيما سبق أن الله لا يجعل لقاتل مؤمن توبة. لأن هذا النمط من بني الإنسان، له ضربة لا بد أن ينالها في الدنيا،

    ____________

    (1) البداية 218 / 8.

    (2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 194 / 9).

    (3) البداية 232 / 8.

    (4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 194 / 9) البداية 217 / 8.

    (5) ابن عساكر (كنز العمال 127 / 12).

    (6) ابن عساكر (كنز العمال 96 / 12).

    الصفحة 303
    ولعذاب الآخرة أكبر. سئل ابن عباس عن رجل قتل مؤمنا، ثم تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى. قال: ويحك وأنى له الهدى، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: يجئ المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة، يقول يا رب سل هذا فيم قتلني. والله لقد أنزلها الله عز وجل على نبيكم (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)، وما نسخها بعد أن أنزلها (1).

    وعن مرثد قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن القاتل والآمر، قالا: قسمت النار، سبعين جزءا فللآمر تسع وتسعون، وللقاتل جزء، وحسبه.

    (أي يكفيه هذا المقدار من العذاب) (2). إنه عدل الله، الذي تحت سلطانه لا يفر الظالمين. إن العصفور سيبحث عن قاتله يوم القيامة. فما بالك بالمؤمن وقاتله.

    روى الطبراني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يقتل عصفورا، إلا عج يوم القيامة، فقال: يا رب هذا قتلني عبثا، فلا هو انتفع بقتلي ولا هو تركني أعيش في أرضك " (3).

  • في قصر الإمارة:

    عند ما سارت القافلة الأموية، ومعها الرؤوس ومن بقي من آل الحسين، من كربلاء إلى الكوفة، كان لآل الحسين نداء، يقول قرة بن قيس: نظرت إلى تلك النسوة، لما مررن بحسين وأهله وولده، صحن ولطمن وجوههن. فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة، حين مرت بأخيها الحسين صريعا وهي تقول: يا محمداه، يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء مرمل مقطع الأعضاء، يا محمد وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا " (4) وبني أمية من قبل طافوا، برأس عمرو بن الحمق، وهي في

    ____________

    (1) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة بسند صحيح (الفتح الرباني 4 / 16).

    (2) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 5 / 16).

    (3) رواه الطبراني (الإصابة 349 / 6).

    (4) الطبري 262 / 6.

    الصفحة 304
    أيديهم. أما رأس الحسين عليه السلام، فهي أول رأس رفع على خشبة (1).

    ودخل الموكب إلى قصر الإمارة. فقام عبيد الله بن زياد، ونودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد، فصعد المنبر ابن زياد فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق ونصر أهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، وحزبه وقتل الكذاب بن الكذاب، الحسين بن علي وشيعته. فلم يفرغ ابن زياد من مقالته، حتى وثب عليه عبد الله بن عفيف، وكان من شيعة علي عليه السلام، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كان يوم صفين، ضرب على رأسه ضربة، وأخرى على حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يفارق المسجد يصلى فيه إلى الليل، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب، أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه، يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين! فقال ابن زياد علي به. فوثب عليه الجلاوزة فأخذوه، ثم أمر بقتله، وأمر بصلبه في السبخة، فصلب (2).

    وفي القصر جلس ابن زياد للناس، وجاءت الوفود فأدخلهم. يقول حميد بن مسلم: وأذن للناس، فدخلت معهم، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكث بقضيب بين ثنيتيه. فما رآه زيد بن أرقم، لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له: أعل بهذا القضيب، عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم بكى زيد. فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، فوالله لو لا أنك شيخ قد خرفت، وذهب عقلك لضربت عنقك. فنهض فخرج. فلما خرج قال الناس: والله لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله.

    فقلت: ما قال. قالوا: مر بنا وهو يقول: ملك عبد عبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي

    ____________

    (1) البداية 193 / 58، الطبري 223 / 6.

    (2) الطبري 264 / 6، البداية والنهاية 191 / 8.

    الصفحة 305
    بالذل (1).

    وروي أنه لما دخل، برأس الحسين، وصبيانه، وأخوته، ونسائه، على عبيد الله بن زياد، لبست زينب بنت فاطمة أرذل ثيابها، فلما دخلت جلست، فقال ابن زياد: من هذه؟ فلم تكلمه. فقال ذلك ثلاث، كل ذلك لا تكلمه فقال بعض إمائها هذه زينب ابنة فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد الله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أحدوثتكم. فقالت: الحمد لله، الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر. فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه، وتخاصمون عنده. فغضب ابن زياد. فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشئ من منطقها... فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك، والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت، ثم قالت: لعمري: لقد قتلت كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا، فقد اشتفيت. فقال لها: هذه شجاعة قد لعمري كان أبوك شاعرا شجاعا. قالت: ما للمرأة والشجاعة إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكني نفثي ما أقول.

    ونظر ابن زياد إلى علي بن الحسين، فقال له: ماسمك؟ قال: أنا علي بن الحسين. فقال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت. فقال له: ما لك لا تتكلم؟ قال: قد كان لي أخ، يقال له أيضا علي فقتله الناس. فقال ابن زياد:

    إن الله قد قتله. قال: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله. فقال: أنت والله منهم، انظروا هل أدرك، والله إني لأحسبه رجلا.

    فقال مري بن معاذ: نعم قد أدرك. قال: اقتله. فتعلقت به زينب عمته، وقالت:

    حسبك منا أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحدا، إن قتلته

    ____________

    (1) رواه أبو داوود والطبراني (البداية والنهاية 190 / 8) الكامل 296 / 3.

    الصفحة 306
    اقتلني معه فتركه (1).

    ثم نصب ابن زياد رأس الحسين بالكوفة، فجعل يدار به فيها، ثم دعا حر بن قيس. وأمره بحمل رأس الحسين، ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية (2).

  • في قصر الخلافة:

    لقد كانت سياسة معاوية أن يكون الأمراء للشدة وهو للين (3). وكذلك كان ابنه، لقد مزقوا الأمة، وعندما تعرض قضاياها عليهم، تراهم يرفعون الحقائق، ويبررون المصائب، ويلقون جميع الأخطاء على جهات خارجية، أو معارضة داخلية. ويزعمون أن هؤلاء سببا في كل مشكلة، نظرا لأنهم يحسدون بني أمية على ما آتاهم الله من فضله. وعندما قدمت القافلة التي تحمل الرؤوس، وتأسر الأحياء، وعلم يزيد بن معاوية بذلك. روي أنه قال: لعن الله ابن سمية أما والله، لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين " (4). فالذي يقول هذا، هو نفسه الذي قام بتعيين ابن زياد، وفقا لمشورة سرجون الرومي، من أجل التصدي لأهل الكوفة. وهو نفسه الذي أمر ابن زياد بمراقبة الحسين على جميع أبواب الكوفة. وهو نفسه الذي كشف عن وجهه الحقيقي، عندما دخل علي بن الحسين، وصبيان الحسين، ونساؤه عليه، والناس ينظرون. روي أنه قال لعلي:

    يا علي أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها. فقال يزيد لابنه خالد رد عليه. فما درى خالد ما يرد عليه، فقال يزيد لابنه قل: ما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم (5).

    ____________

    (1) الطبري 262 / 6.

    (2) الطبري 264 / 6.

    (3) البداية والنهاية 136 / 8.

    (4) البداية 191 / 8، الطبري 264 / 6.

    (5) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 195 / 9) الطبري 265 / 6، البداية 194 / 8.

    الصفحة 307
    بل إن يزيد كشف عن أعماقه، عندما دخل رجل من أهل الشام، ونظر إلى فاطمة بنت علي، فقال ليزيد، يا أمير المؤمنين هب لي هذه. وعندما قال الرجل ذلك، خافت فاطمة وأخذت بثياب أختها زينب. فقالت زينب للرجل: كذبت، والله ولؤمت، ما ذلك لك وله. فعندئذ، غضب يزيد بن معاوية وقال لها: كذبت والله إن ذلك لي، وإن شئت أفعله، لفعلت. قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فقال يزيد، إياي تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. فقالت: بدين الله، ودين أبي، ودين أخي، وجدي، اهتديت أنت وأبوك وجدك. فقال يزيد، كذبت يا عدوة الله. قالت:

    أنت أمير مسلط، تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك (1).

    إنها خبايا تعرف في لحن القول. وروي عن مجاهد قال: لما جئ برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد، تمثل بهذه الأبيات:

    ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج في وقع الأسل
    فأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا لي هنيا لا تسل
    حين حكت بفناء بركها * واستحر القتل في عبد الأسل
    قد قتلنا الضعف من أشرافكم * وعد لنا ميل بدر فاعتدل

    قال مجاهد: نافق فيها. والله ثم والله ما بقي في جيشة، أحد إلا ذمه وعابه (2)، على هذا الشعر، وروي أن يزيد قال أيضا ورأس الحسين بين يديه، ينكتها بقضيب كان في يده: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:

    يغلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما

    فقال له أبو برزة الأسلمي: ارفع قضيبك، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه (3). وروى الطبري أن يزيد، كان مسرورا بقتل

    ____________

    (1) رواه الطبراني (الزوائد 195 / 9) والبداية 195 / 8، الطبري 265 / 6.

    (2) البداية 192 / 8.

    (3) البداية 192 / 8.

    الصفحة 308
    الحسين (1). وعندما أمر بتجهيز أهل البيت، والذهاب بهم إلى المدينة قالت السيدة سكينة: ما رأيت رجلا كافرا بالله، خير من يزيد بن معاوية (2). وروي عن الكلبي أنه قال: نشأت، وهم يقولون: ضحى بنو أمية يوم كربلاء بالدين (3). وقال اليافعي وأما حكم من قتل الحسين، أو أمر بقتله، ممن استحل ذلك فهو كافر. (4) وقال التفتازاني، في شرح العقائد النفسية: والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين، واستبشاره بذلك، وإهانته أهل بيت الرسول مما تواتر معناه، لعنة الله عليه، وعلى أنصاره، وأعوانه (5). وقال الذهبي: كان ناصبيا، فظا، غليظا، يتناول المسكر ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الحسين، وختمها بوقعة الحرة (6). وقال ابن كثير: كان في يزيد خصال محمودة، من الكرم، والحلم الفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك، وكان ذا جمال حسن، وكان حسن المعاشرة، وكان فيه أيضا إقبال على الشهوات، وترك بعض الصلوات، في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات (7)، وابن كثير في كتاباته التاريخية، يقدم في كثير من الأحيان آراء، لو أراد الباحث أن يقيم عليها دليل واحد، ما وجد هذا الدليل في كتب المسلمين المعتمدة. وذلك يعود إلى منهج ابن كثير الخاص به، في رؤيته للأحداث التاريخية. فمن المعروف أن الحسين، وأهل الحرة وغيرهم خرجوا من أجل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فإذا عرضنا هذا الأمر، على تفكير ابن كثير نجد أنه لا يقره. بل ويوهن خروج الذين خرجوا، بجميع أسمائهم، فيقول: إن يزيد كان إماما فاسقا، والإمام الفاسق، لا يعزل بمجرد فسقه، ولا يجوز الخروج عليه، لما في ذلك

    ____________

    (1) الطبري 19 / 7.

    (2) الطبري 267 / 6.

    (3) تاريخ الخلفاء 229 / 1.

    (4) شذرات من ذهب / ابن العماد الحنبلي ص 68 / 1.

    (5) المصدر السابق 67 / 1.

    (6) المصدر السابق 67 / 1.

    (7) البداية 230 / 8.

    الصفحة 309
    من إثارة الفتنة " (1). فهذه رؤيته للمسار التاريخي. بمعنى: ليس في الإمكان.

    أبدع مما كان. لقد جاء يزيد، وعليه أن يستمر. وأن يورث الخلافة لولده ولولده أن يفعل من يشاء، فهذا حقه الذي كتبه الله له. ومن أراد أن ينهاه عن المنكر، فمن حق أبناء معاوية، أن يؤدبونه، حتى يرجع إلى الطاعة، ولزوم الجماعة (2).

  • الظهور والتشويه:

    تحركت قافلة أهل البيت إلى المدينة. وفي المدينة نادى المنادي: قتل الحسين بن علي. يقول عبد الملك: لم أسمع والله واعية قط، مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين. فقال عمر بن سعيد بن العاص: هذه واعية، بواعية عثمان بن عفان (3). وبكى ابن عباس. على آل البيت، حتى فقد بصره في آخر عمره (4). وروي أن رأس الحسين مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان، فبعث فجئ به، فكفنه ودفنه في مقابر المسلمين. فلما دخل العباسيون سألوا عن موضع الرأس، وأخذوه. وقيل غير ذلك، وليس هذا مجال بحثنا وبعد قتل الحسين، بدأ الشعر يشق طريقه وهو يحمل معالم الألم على هذه الجريمة الشنعاء، ومن هذا قالت ابنة عقيل بن أبي طالب:

    ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
    بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم (5)

    وأنشد الحاكم أبو عبد الله النيسابوري:

    جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمد * متزملا بدمائه تزميلا
    وكأنما بك يا ابن بنت محمد * قتلوا جهارا عامدين رسولا

    ____________

    (1) البداية 223 / 8.

    (2) البداية 224 / 8.

    (3) الطبري 268 / 8.

    (4) مروج الذهب 121 / 3.

    (5) رواه الطبراني (الزوائد 200 / 9) الطبري 268 / 6، البداية 198 / 8.

    الصفحة 310

    قتلوك عطشانا ولم يتدبروا * في قتلك القرآن والتنزيلا
    ويكبرون بأن قتلت وإنما * قتلوا بك التكبير والتهليلا (1)

    وفي دور أهل الإيمان بدأت أحاديث الحوض، تطفوا على الساحة، بجانب الشعر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " إني تارك فيكم ثقلين، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (2). وقوله صلى الله عليه وسلم:

    " أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ. وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم " (3) وهذه الأحاديث، كانت تمثل صفعة قوية للتيار الأموي، الذين قتلوا أهل البيت فإذا كانت مهمتهم سهلة في مواجهة الشعر، فإنها لم تكن كذلك مع أحاديث الحوض، التي أصبحت، كمنشور سري يقره صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الأوفياء. ويشق طريقه في الساحة التي بدأت تشعر بالندم بعد قتل الحسين، وتبحث عن مدخلا تقدم توبتها منه، إلى الله جل وعلا. ولم يجد التيار الأموي، غير عبيد الله بن زياد ليتصدى، لما استجد في الساحة بعد قتل الحسين. فبدأ ابن زياد صده بإنكار هذه الأحاديث، ثم مواجهة الذين يروونها بكل قسوة وكل عنف.

    روي أنه ذكر الحوض عند ابن زياد، فأنكر ذلك. فبلغ ذلك أنسا فقال: ما أنكرتم من الحوض؟ قالوا: سمعت النبي يذكره؟ قال: نعم. ولقد أدركت عجائز بالمدينة، لا يصلين صلاة، إلا سألن الله تعالى أن يوردهن حوض محمد صلى الله عليه

    ____________

    (1) البداية 198 / 8.

    (2) رواه أحمد والترمذي وحسنه والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون " الفتح الرباني 186 / 1 ".

    (3) البخاري ك الدعوات ب الصراط جسر جهنم (الصحيح 141 / 4) مسلم (الصحيح 53 / 15).

    الصفحة 311
    وسلم (1). وفي رواية قال ابن زياد: ولمحمد حوض؟ قالوا: هذا أنس بن مالك، يحدث أن له حوضا. فجاء أنس فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن لي حوضا وأنا فرطكم عليه " (2).

    وعن زيد بن أرقم قال: بعث إلي، عبيد الله بن زياد فأتيته. فقال: ما أحاديث تبلغنا وتروونها عن رسول الله لا نسمعها في كتاب الله، وتحدث أن له حوضا. قال زيد: لقد حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوعدناه. فقال ابن زياد: كذلك ولكنك شيخ قد خرفت. قال زيد: إني قد سمعته أذناي، ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي رواية - سمعته أول خطبة النبي في غدير خم، في الوصية بكتاب الله وأهل بيته (3). وفي رواية قال ابن زياد: أرأيتم الحوض الذي تذكرون، ما أراه شيئا. فقال له ناس من أصحابه: عندك رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم فسلهم. فأرسل إلى زيد بن أرقم، فسأله عن الحوض. فحدثه حديثا موثقا. فقال: أنت سمعت هذا من رسول الله... " الحديث (4).

    وعن أبي سبرة الهذلي قال: كان عبيد الله بن زياد، يكذب بالحوض، بعدما سأل عنه أبا برزة والبراء بن عازب، وعائذ بن عمرو، ورجلا آخر (5).

    وكان تكذيب ابن زياد بالحوض تكذيبا له ثقافته الواسعة، على أرض اتخذت من قبل ثقافة سب أمير المؤمنين علي عنوانا لها، وتحت خيام هذه الثقافات، نشأت أجيال يقرؤن القرآن، لا يجاوز تراقيبهم، وهذه الأجيال ما خرجت إلا من تحت

    ____________

    (1) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم وأخرجه أحمد (كتاب السنة 321 / 2.

    (2) قال الألباني أخرجه الآجري في الشريعة وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات (كتاب السنة 322 / 2).

    (3) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم (كتاب السنة 322 / 2).

    (4) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات رجال الشيخين (كتاب السنة 322 / 2).

    (5) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده ثقات (كتاب السنة 323 / 2).

    الصفحة 312
    خيام بني أمية. وثقافة إنكار الحوض، شقها ابن زياد بالسكين، وبالسيف وجلد عليها الظهور، ومنع العطايا عن كل من قال إن للنبي حوض. لأنه يعلم أن إثبات الحوض، سيترتب عليه أمور تدينه، وتدين ملك بني أمية الطويل العريض، وإذا كان ابن زياد قد جمع من حوله، أتباع يقولون بقوله. فإن طائفة الحق، كان يدوي في أسماعهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اسمعوا " قالوا: سمعنا. فقال: " اسمعوا " قالوا: سمعنا، فقال: " إنه سيكون عليكم أمراء فلا تعينوهم على ظلمهم. فمن صدقهم بكذبهم فلن يرد علي الحوض " (1).

    وكان في ذاكرتهم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب أصحابي أصحابي.

    فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (2). وقوله: " إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهم لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض " (3).

    لقد كان في ذاكرة طائفة الحق، الذين لا يضرهم من خذلهم أو من ناوأهم أو من عاداهم، الكثير من أقوال النبي صلى الله عليه آله وسلم. وكانوا يعلمون أن في الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، عنوان أصيل للأخذ بأسباب المعرفة. لهذا هرولوا إلى دائرة الطهر، في وسط هذا الليل الذي لا نجوم فيه.

    ولقد صدق في هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة: " يا حذيفة، إن في كل طائفة من أمتي قوما شعثا غبرا. إياي يريدون، وإياي يتبعون، ويقيمون كتاب الله أولئك مني وأنا منهم وإن لم يروني " (4).

    ____________

    (1) رواه أحمد وابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه (الفتح الرباني 30 / 23) (كتاب السنة 352 / 2).

    (2) رواه البخاري ك الدعوات ب الصراط جسر جهنم (الصحيح 141 / 4) ومسلم (الصحيح 59 / 15).

    (3) رواه أحمد والترمذي وحسنه والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).

    (4) رواه أبو نعيم (كنز العمال 184 / 12).

    الصفحة 313

  • نظرات على كربلاء:

    عندما خرج الحسين كان خروجه، من تحت مظلة المثل الأعلى المرتفع.

    وكان خصومه قد خرجوا من كهف المثل الأعلى المنخفض. ولم يكن خروج الحسين، نتيجة لوجود المجتمع الحر، وإنما كان الخروج من أجل خلق المجتمع الحر، لأن المجتمع الحر هو الذي يقيم الحضارة الحق. والحضارة لا تقاس بسجونها وبريق ذهبها، وإنما تقاس بعدلها. وعندما توجه الحسين إلى الكوفة، وعلم بمقتل رسله هناك، وبأن الذين أرسلوا إليه قد خذلوه، لم يتراجع وسار في إتجاه الطريق، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن مقتله فيه. وذلك بعد أن حدد مصدر البلاء، الذي أكره الناس على عدم إقامة الحق والعدل. لقد توجه الحسين إلى كربلاء، ليس من أجل مقاومة الجماهير، وإنما من أجل مواجهة السلطة التي اتخذت مال الله دولا، ودين الله دغلا، وعباد الله خولا، وأصبحت تفرخ الذين يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم. أي تفرخ خوارج جدد، ولكن تحت مظلة بني أمية. لقد اتجه الحسين نحو كربلاء، على امتداد الطريق كان يعلم أنه يسير، بين حراب الذين يكرهون، ويخافون أن يفقدوا ما يحبون. ولكنه واصل المسير، وحوله نداء خالد من الرسول الأعظم يقول فيه: " من حضره فلينصره "، وفيه أيضا: " أنا حرب لمن حاربتم... "، كان الحسين في خطاه، يقيم الحجة على كل صامت، أو متراجع، أو متردد اعتلالا بفساد المناخ، وسطوة القبائل، وتقاليدها وقوانينها، وتمادى الارهاب، وقطع الرؤوس وقتل الأطفال والنساء، كما فعل بسر بن أرطاة وغيره وعلى أرض كربلاء، فاض الدم القاني، الذي أراد صاحبه، أن يخرج الأمة من خيام القبائل حيث الحقد والحسد والإرهاب، الذي رفع بنو أمية أعلامه زمنا طويلا. وعلى مقربة من الوادي الذي يفيض بالدم القاني، تربع قاضي، على كرسي من الصلب، والنحاس الأصفر، وكأنه يصرخ في أتباعه: اسلكوا هذا السبيل، فلن تجدوا أنفسكم إلا فيه، ومن أبى فإن له من خنجري معولا ولأمزقن به أحشاء الأرض.


    الصفحة 314
    لقد كان القاضي يمسك بين أسنانه بقطعة من ذهب، وكأنها جمرة ملتهبة.

    ويتحدث عن العدل، ولم يكن يعلم أن من العدل أن يقتص الله من الظالم. ومن العدل، أن دم القتيل لا تضيع سدى.. إن ساعة الانتقام، ومكانه، وكيفيته، هي في علم الله تعالى، الذي أخبر عن مقتل الحسين، وساعته، ومكانه، وكيفيته. لقد ركب أتباع بني أمية بسفينة التي ربانها معاوية ويزيد ومروان. ولن يرى للسفينة شراع، إذا ما قلب البحر الهائج سطحه، وقد عبثت به الرياح والمد كيما تستمر حركة الأمواج. وعندئذ سيعلم ركاب السفينة وأن من العبث أن ينشد المرء العدالة على ظهرها. وسيعلمون، أن معنى نزول جبريل عليه السلام بخبر مقتل الحسين، يعني في مقدمته الأولى، أن هذه الجريمة عليها من الله عقوبة.

    وعلى الجميع أن يأخذوا بأسباب السلامة، حتى لا يدخلوا تحت العقوبة.

    وأسباب السلامة، أصل أصيل في دائرة الاختيار. لكنهم صادروا السلامة وأسبابها، وصرخ فيهم صارخهم: لا مناص من موت الحسين، إذا أردنا نحن أن نعيش.

    وبين الأمواج، سيعلمون أن السماء عادلة، وأن القتل لا يمكن إخفاؤه وسيخرج الزمان فعلتهم الغادرة إلى الضوء، لترى الأجيال أن الجراح ما زالت تتفجر منها الدماء. دماء تنادي بالحرية الحقيقية، تحت مظلة العبادة الحق.

    وتعلم الأجيال أن خروج الحسين، وضع على الجبابرة، والعتاة، وقواتهم الضاربة، لباس الذل والعار. ويا له من عار تخجل منه أي قوة ضاربة على امتداد الزمان.


  •  شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

    إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net