متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - حركة أنس بن مالك
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

2 - حركة أنس بن مالك:

كان أنس من الذين كتموا حديث الغدير، يوم أن قال علي بن أبي طالب في الرحبة: " أنشد الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم الغدير إلا قام " وقام الناس ولم يقم أنس. فدعا علي بن أبي طالب على كل من كتم، ولم يشارك أنس في معارك علي. لكنه تحدث بعد علي عن مناقب أهل البيت، وذلك عندما علم أن مقدمته كانت مقدمة خطأ. روى ابن كثير أن أنس بن مالك جاء إلى الحجاج بن يوسف. فقال له الحجاج، هي يا خبيث، جوال في الفتن، مرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضب. فقال أنس:

إياي يعني الأمير، قال الحجاج: إياك أعني أصم الله سمعك.

فاسترجع أنس، وشغل الحجاج. فخرج أنس، فتتبعناه. فقال: لولا أني ذكرت أولادي الصغار، وخفت عليهم، ما باليت أي قتل أقتل، وكلمته بكلام في مقامي هذا لا يستخفني بعده أبدا. وروي أن أنسا بعث إلى عبد الملك بن مروان يشكو إليه الحجاج. فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يترضاه (1). وروى ابن سعد: كان أنس بن مالك من أحرص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على المال (2).

وفقهاء السلطان وقفوا عند المقدمة، وعزلوا غزلهم، ونسجوا نسيجهم، ولم ينظروا في الخاتمة، حيث كان أنس يبكي في آخر أيام حياته، وهو آخر من مات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

____________

= الطبقات بإسنادين (الطبقات الكبرى 185، 187 / 4).

(1) البداية والنهاية 91 / 9.

(2) الطبقات الكبرى 18 / 7.

الصفحة 340
بالبصرة (1). وكان أنس يقول: ما بقي أحد صلى القبلتين كلتيهما غيري (2).

ولو تدبر أصحاب الغزل والنسيج، في أقوال أنس في آخر حياته، لرؤا فيها الندم. ولعلموا أن غرسهم بعد الندم لا قيمة له إلا في خزائن السلطان. فعن ابن عمران الجوني قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما أعرف شيئا اليوم، مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: فأين الصلاة؟ قال:

أولم تصنعوا في الصلاة، ما قد علمتم (3). وروى البخاري أن الزهري دخل على أنس، فوجده يبكي. فقال ما يبكيك قال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت (4)، إن معنى أن يضيع كل شئ عند النتيجة، أن المقدمة بعد وفاة الرسول يجب البحث فيها لنقف على الداء.

وما نسجوه على موقف أنس وابن عمر، فعلوه أيضا في حركة عائشة.

تلك الحركة التي قام فقهاء السلطان بترقيعها، وتلوينها، حتى لا يصل أحد إلى حقيقة، وكان يكفيهم أن ينظروا إلى موقف عائشة في المحطة الأخيرة، حيث التوبة والندم. فعائشة بعد قتل محمد بن أبي بكر وحجر بن عدي، تبينت الحقيقة، واعترفت بأنه لولا موافقها السابقة، لكان لها شأن آخر في مقابل هذه الأحداث (5). ثم بدأت في نشر فضائل أهل البيت، وقيل أن حديثها ينشر الفضائل، كان بعد وفاة الحسن بن علي. وقيل غير ذلك. وروي أنها قالت عند وفاتها: إني قد أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت: ليتني لم أخلق. يا ليتني كنت شجرة أسبح وأقضي ما علي (6).

وإذا كنا قد ذكرنا أن الحجاج عقاب، وتحت هذا العقاب ينظر الله تعالى

____________

(1) الطبقات الكبرى 26 / 7.

(2) الطبقات الكبرى 20 / 7.

(3) رواه أحمد والترمذي وحسنه وقال في الفتح الرباني 199 / 1، روي من غير وجه عن أنس.

(4) الفتح الرباني 200 / 1.

(5) راجع الطبري 156 / 6، ابن أبي الحديد 272 / 3.

(6) رواه الطبراني (الزوائد 74 / 8) وابن سعد (الطبقات 238 / 7).

الصفحة 341
إلى عباده، كيف يعملون وإلى أين يفرون. وإذا كنا قد ذكرنا أن العقاب، على الجيل الأول، عموده الفقري أن يقوم هذا الجيل بتصحيح خطواته، وترتيب أوراقه، لأن على أوراقه ستأتي أجيال سيأخذون من ممارستهم، وأعمالهم، وقودا، ويتخذونهم قدوة، فإذا لم يصحح الأوائل خطاياهم، حتما سيقع فيها الأواخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كم غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها " (1)، وقوله: " المرء مع من أحب " (2). وإذا كنا قد ذكرنا، أن العمود الفقري لحركة الإنسان العاقل في هذا الكون، هو الأخذ بالأسباب، لأن فيها يظهر الإنسان الذي يخشى الله بالغيب، والإيمان بالغيب هو وعاء المؤمنين الوحيد على هذا الكون المنظور، وعلى طريق الإيمان سار علي بن أبي طالب، وعمار، والحسين، وكل منهم كان يعلم بأنه مقتول في نهاية الطريق. فلم ينظروا إلى النتائج، لأن النتائج بيد الله، والله تعالى لا يضيع عمل الصالحين، الذين يخشونه بالغيب. وهؤلاء وغيرهم، هم الذين اشترى الله منهم أنفسهم، وأخبرهم على لسان رسول صلى الله عليه وآله وسلم، بمكان وكيفية قتلهم. فلم يتكاسلوا، وأخذوا بأسباب الحياة الأبدية، حتى قتلوا وربح بيعهم. فإذا كنا قد ذكرنا ذلك في أكثر من موضع فلم يبق إلا إلقاء ضوء يسير على رجل من الرجال، أخذ بأسباب النجاة، وكتمها في نفسه، وذلك عندما خطب الحجاج وجعل مرتبة عبد الملك فوق مرتبة النبوة. روى أبو داوود عن الربيع بن خالد قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه، أم خليفته في أهله؟ قال الربيع: فقلت في نفسي: لله علي ألا أصلي خلفك أبدا، وإن وجدت قوما يجاهدونك، لأجاهدنك معهم. وروي أنه قاتل بعد ذلك في موقعة الجماجم حتى قتل (3).

____________

(1) رواه أبو داوود حديث 4345 ص 124 / 4.

(2) البخاري (الصحيح 77 / 4) والترمذي وصححه (الجامع 596 / 4).

(3) رواه أبو داوود حديث 4642 ص 209 / 4، البداية 131 / 9.

الصفحة 342
لقد كانت أقوال الحجاج وأفعاله، تصطدم مع العقيدة، وهنا يكمن الامتحان الإلهي. وتحت هذا الامتحان، كان هناك من يدافع عن دينه، بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، وكان هناك من فدى الحجاج بالمال والولد، وقاتل تحت راياته. وكان هناك أيضا من يريد أن يركب موجة المعارضة، ليصل إلى كرسي الحكم، كالمختار مثلا الذي انطلق من عباءة قال أنها هاشمية، وبتصريح من محمد بن الحنفية. والحقيقة تخالف ذلك. باختصار: كانت هناك معارضة، ولكنها بلا رأس فيه من الله برهان. لقد كان علي بن الحسين، يعيش في عالم الغربة، وكان في هذا العالم كثير البكاء. وقيل له في ذلك فقال: أن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يعلم أنه مات. وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا (1). وفي رواية قال: إنني كلما شربت الماء تذكرت ابن فاطمة.

وعلي بن الحسين كان علما وحده في هذه الساحة، ودليلا ينير لمن أراد أن يتوجه إليه، روي أن الزهري قارف ذنبا فاستوحش منه وهام على وجهه، وترك أهله وماله فلما اجتمع بعلي بن الحسين قال له علي: يا زهري قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شئ، أعظم من ذنبك. فقال الزهري: " والله أعلم حيث يجعل رسالاته "، وفي رواية: أنه كان أصاب دما حراما خطأ، فأمره بالتوبة والاستغفار، وأن يبعث الدية إلى أهله. وعندما سمع منه الزهري قال: " والله أعلم حيث يجعل رسالاته " (2). لقد كان علي بن الحسين علما في الساحة. روي أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر، فاستلم وجلس عليه. وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلمه.

تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبة واحتراما. فقال أهل الشام لهشام: من هذا؟

فقال: لا أعرفه استنقاصا به، واحتقارا، لئلا يرغب فيه أهل الشام. فقال

____________

(1) البداية والنهاية 107 / 9.

(2) البداية والنهاية 107 / 9.

الصفحة 343
الفرزدق وكان حاضرا. أنا أعرفه. فقالوا: ومن هو؟ فأشار الفرزدق يقول:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمي إلى ذروة العز التي قصرت * عن نيلها عرب الإسلام والعجم

إلى أن قال:

هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله * بجده أنبياء الله قد ختموا
من جده دان فضل الأنبياء له * وفضل أمته دانت لها الأمم
عم البرية بالإحسان فانقشعت * عنها الغواية والإملاق والظلم

إلى أن قال:

من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجي ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم * ويستزاد به الاحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم * في كل حكم ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض؟ قيل: هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت * والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم * خيم كرام وأيد بالندي هضم
لا ينقص العدم بسطا من أكفهم * سيان ذلك أن آثروا وإن عدموا
أي الخلائق ليست في رقابهم * لأولية هذا أوله نعم
فليس قولك من هذا؟ بضائرة * العرب تعرف من أنكرت والعجم
من يعرف الله أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الأمم

يقول ابن كثير: فغضب هشام من ذلك، وأمر بحبس الفرزدق بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين، بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: إنما قلت ما قلت لله عز وجل، ونصرة للحق، وقياما بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشئ. فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك

الصفحة 344
وأقسمت عليك بالله لتقبلها. فقبلها منه (1).

لقد كانت هناك معارضة، للذين يقاتلون من أجل الدنيا، ولكن هذه المعارضة لم يكن لها رأس هدفها الآخرة، وتسوق الناس في الدنيا إلى عالم البركات، وشرط عالم البركات أن يؤمن أهل القرى وأن يتقوا. أهل القرى كلهم، وليس قبيلة من القبائل، أو فردا من الأفراد، فالدعوة عالمية. وتتحرك بعالميتها تحركا واحدا، على امتداد العصور. وهذا التحرك على أرض إذا سقط عليها الماء، اهتزت وأنبتت نبات عالم البركات، وليس نبات عالم الضنك.

فالإنسان مرتبط بالكون، فإن استقام على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، التقي مع فطرة الكون في معزوفة واحدة. أما إذا شذ، فإنه بهذا الشذوذ يصطدم من فطره الله في خلقه، فتضربه جميع الأسباب وفي عالم الفرية، وفي عالم القتال من أجل الدنيا، وفتح أبواب الفتن، ونشر ثقافة السب، روي أن يحيى بن سعيد قال: سمعت علي بن الحسين، وهو أفضل هاشمي أدركته يقول: يا أيها الناس، أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا. وفي رواية: حتى بغضونا إلى الناس (2).

وفي عالم البغض والحقد والكراهية. مارس الحجاج بن يوسف مهمته بكل ارتياح. فصد عن سبيل الله، وتتبع أصحاب الإمام علي في كل مكان، وشكك في أهل البيت. روي أنه طلب كميل بن زياد ليقتله، وكان كميل صحابي أدرك من الحياة النبوية، ثمان عشرة سنة، وشهد صفين مع علي (3)، وكان شجاعا، فاتكا، وزاهدا عابدا (4). وعندما وقف كميل أمام الحجاج، نال الحجاج من علي، فصلي كميل عليه. فقال له الحجاج: والله لا بعثن إليك من يبغض عليا أكثر مما تحبه، فأرسل إليه ابن أدهم، وكان من أهل

____________

(1) البداية والنهاية 108 / 9.

(2) البداية والنهاية 104 / 9.

(3) الإصابة 318 / 3.

(4) البداية والنهاية 46 / 9.

الصفحة 345
حمص (1). وأمر الحجاج بقتله صبرا بين يديه. فقال كميل: فاقض من أنت قاض، فإن الموعد الله، وقد أخبرني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنك قاتلي. فقال: اضربوا عنقه. فضربت عنقه (2).

وفي عالم البغض والكراهية، أنكر الحجاج أن يكون الحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ابن ابنته. فقال له يحيى بن معمر: كذبت.

فقال الحجاج. لتأتيني على ما قتل ببينة من كتاب الله أو لأضربن عنقك فقال:

قال تعالى: (ومن ذريته داوود وسليمان) إلى قوله: (وزكريا ويحيى وعيسى) ثم قال للحجاج: فعيسى من ذرية إبراهيم، وهو إنما ينتسب إلى أمه مريم.

والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحجاج: صدقت، ونفاه إلى خرسان (3).

وعلى ساحة البغض والكراهية، كان الحجاج ينال من عبد الله بن مسعود ويقول: والله لو أدركت عبد هذيل، لأضربن عنقه (4). وكان يمنع الناس من القراءة في المصحف بقراءة ابن مسعود. ويقول: لا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن عبد إلا ضربت عنقه. ولأحكنها من المصحف، ولو بضلع خنزير!! (5)، وقال ابن كثير: وإنما نقم على قراءة ابن مسعود لكونه خالف القراءة، على المصحف الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان (6). وروي أن الحجاج قال على المنبر: عبد الله بن مسعود رأس المنافقين، لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه (7). وروي أنه تلا على المنبر هذه الآية: (هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي)، وقال: والله إن كان سليمان لحسودا. قال ابن كثير: وهذا جراءة

____________

(1) البداية والنهاية 47 / 9.

(2) الإصابة 318 / 3.

(3) البداية والنهاية 126 / 9.

(4) البداية والنهاية 128 / 9.

(5) البداية والنهاية 128 / 9، وقال ابن كثير رواه غير واحد.

(6) البداية 128 / 9.

(7) البداية والنهاية 128 / 9.

الصفحة 346
عظيمة تقضي به إلى الكفر (1).

من كل ما سبق، نعلم أن الحجاج اقتحم على الناس من الباب الذي لا ينبغي للناس أن يسمحوا له بالدخول منه، ولكن الغالب الأعم تعامى عن حركة الحجاج، كما تعاموا من قبل، عن أعمال يزيد، ومن قبله عن أعمال معاوية.

وتعامى الرأي العام وإن كان يعود إلى ثقافة السب، ورشوة النبلاء، إلا أنه عذر لا تقبله الفطرة التي هي حجة بذاتها على الإنسان.

وفي عالم البغض والتعامي، تحركت جيوش الحجاج، بعد أن صدرت الأوامر إليها من عبد الملك بن مروان. وكان تحركها في اتجاه مكة لقتل ابن الزبير، وابن الزبير لم يدع شيئا مقدسا، أو راية نقية، إلا تاجر بها لبسط نفوذه، وعبد الملك ما ترك سجنا، ولا سيفا، إلا واستعمله من أجل بسط نفوذه. لقد كانت المواجهة بين الطرفين في مكة. وعلى مكة تحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله حرم مكة. يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولا تحل لي قط إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلي خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد (2). وفي رواية قالوا: إلا الأذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقين، والبيوت. قال: إلا الإذخر فإنه حلال.

وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: وهي اليوم حرام كما حرمها الله عز وجل أول مرة، وإن أعتى الناس على الله عز وجل ثلاثة: رجل قتل فيها، ورجل قتل غير قاتله، ورجل طلب بذحل (3) الجاهلية (4).

ومن أجل هذا، تحرك أهل البيت بعيدا عن الدائرة الحرام، وكانت حركتهم من أجل أن يدخلوا بالناس إلى المنطقة الأمان. أما غيرهم فقد تسلق

____________

(1) البداية والنهاية 129 / 9.

(2) رواه البخاري (كنز العمال 198 / 12).

(3) ذحل / أي ثأر.

(4) رواه الإمام أحمد والبيهقي (كنز العمال 206 / 12).

الصفحة 347
على الدائرة الحرام طمعا في الدنيا، حتى جاء يزيد وعبد الملك في زمن القهر، واتخاذ عباد الله خولا، فوجهوا الجيوش إلى الدائرة الحرام، لينالوا الدنيا على دخان الكعبة.

روي أن الحجاج زحف إلى مكة. فحاصر ابن الزبير بها وكتب إلى عبد الملك: أني ظفرت بأبي قبيس. فلما ورد كتابه على عبد الملك بحصار ابن الزبير، كبر عبد الملك، فكبر من معه في داره، واتصل التكبير بمن في جامع دمشق فكبروا، واتصل ذلك بأهل الأسواق فكبروا ثم سألوا عن الخبر فقيل لهم:

إن الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة، وظفر بأبي قبيس (1). منع ابن الزبير الحجاج أن يطوف بالبيت. ووقف الحجاج بعرفة محرما في درع مغفر (2)، وكانت مدة الحصار خمسين ليلة (3). ثم بدأ الحجاج يصب الحجارة على مسكة صبا، وابن الزبير متحصن بالكعبة، وتفرق عن ابن الزبير أصحابه، وخذله من معه خذلانا شديدا. وجعلوا يخرجون إلى الحجاج، حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف، وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابنا الزبير، وخبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا (4).

وروي أنه عندما رمى البيت بالحجارة والمنجنيق، أرسل الله تعالى الصواعق والبروق والرعود. فنزلت الصواعق على المنجنيق وأحرقته، فوقف أهل الشام عن الرمي، فقال لهم الحجاج، ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا. فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم. فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته. فعاد أهل الشام للضرب. وقتل ابن الزبير (5). وأمر الحجاج بصلب الزبير بمكة. وكان مقتله سنة ثلاث وسبعين. (6)

____________

(1) مروج الذهب 135 / 3.

(2) المغفر / الدرع الذي يغطى به الرأس.

(3) مروج الذهب 135 / 3.

(4) الطبري 202 / 7.

(5) البداية والنهاية 222، 229 / 8.

(6) مروج الذهب 138 / 3.

الصفحة 348
وأعطى عبد الملك للحجاج الجائزة، فأقامه واليا على مكة، والمدينة، والحجاز، واليمن، واليمامة، ثم جمع له العراق بعد موت بشر بن مروان بالبصرة (1). وبدأ عبد الملك يعيد بناء البيت الذي قام برميه من فوق الجبال، ولم يدخر عبد الملك جهدا في تشييد البيت وزخرفته. وهذا كله شاهد صدق على حركة التاريخ. حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم قريشا قد هدموا البيت ثم بنوه فزوقوه. فإن استطعت أن تموت فمت " (2)، والدعوة إلى الموت ليست دعوة إلى الانتحار، وإنما أن تختار الموتة، التي يكون لله فيها رضا. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " كيف أنتم إذا مرج الدين، فظهرت الرغبة، واختلف الإخوان، وحرق البيت العتيق " (3). وكيف أنتم أي كيف تكون حركتكم، التي تحبون. أن ينظر الله إليكم وأنتم عليها. إنه توجيه خاص، بأجيال القرن الأول، لأن على خيرتهم ستأتي أجيال وأجيال.

وبعد أن شيد عبد الملك البيت وزوقه، أمر عبد الملك الحجاج أن يقتدي بعبد الله بن عمر في مناسك الحج (4). وروي أنه لما مات عبد الله بن عمر، صلى عليه الحجاج بن يوسف (5)، وأن عبد الملك حج في بعض أعوامه، فأمر للناس بالعطاء. فخرجت بدرة مكتوب عليها: " من الصدقة " فأبي أهل المدينة من قبولها. وقالوا: إنما كان عطاؤنا من الفئ. فقال عبد الملك: نعلم أنكم لا تحبوننا أبدا. وأنتم تذكرون يوم الحرة. نحن لا نحبكم أبدا، ونحن نذكر مقتل عثمان (6).

وعلى بساط البغض والحقد، دارت الأحداث. وفي نهايتها مات

____________

(1) مروج الذهب 138 / 3.

(2) ابن أبي شيبة (كنز 251 / 11).

(3) ابن أبي شيبة (كنز 251 / 11).

(4) ثبت ذلك في الصحيحين راجع: فتح الباري 195 / 13، البداية والنهاية 353 / 8.

(5) أسد الغابة 344 / 3.

(6) مروج الذهب 146 / 147 / 5.

الصفحة 349
عبد الملك بن مروان. وروي أنه وصى ابنه بالحجاج فقال له: انظر إلى الحجاج فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناس إذا مت إلى البيعة. فمن قال برأسه هكذا. فقل بسيفك هكذا (1). ولما احتضر عبد الملك دخل عليه ابنه الوليد فبكى. فقال عبد الملك: أتحن حنين الجارية. إذا أنا مت فشمر وائتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك، فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه (2).

____________

(1) تاريخ الخلفاء 205 / 1.

(2) تاريخ الخلفاء 205 / 1.

الصفحة 350


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net