متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
1 - تشابه القلوب
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

1 - تشابه القلوب:

إذا كان الوليد قد ارتكب الجرائم، التي ارتكبها آبائه من قبل، وزادوا عليه أنهم اقتحموا المساجد ورموا الكعبة وقتلوا الذين اشترى الله أنفسهم. فماذا كان الوليد من دونهم جميعا الذي وضع في دائرة الفرعون، وكان خطره على الأمة أشد من خطر فرعون على قومه؟ في البداية نقول: إن القرآن الكريم أشار إلى أن الرسالة الخاتمة جاءت لتخاطب الجميع، وعلى رأسهم الفراعنة الجدد. ولعلمه سبحانه أن الفراعنة الجدد سيسحقون شعوبهم، ويتخذون مال الله دولا، ودين الله دخلا، وعباد الله خولا، جعل خطاب الرسالة الخاتمة موجه إلى الفراعنة وشعوبهم بمعنى أنه خاطب الشعوب باعتبار أن منهم الفراعنة، وخاطب الفراعنة على اعتبار أنهم يمسكون برقبة شعوبهم. فالشعوب والفراعنة جزء واحد في

____________

(1) سورة البقرة: الآية 118.

(2) سورة آل عمران: الآية 140.

(3) التنبيه والإشراف 290 / 1.

(4) المصدر السابق 291 / 1.

(5) المجردة / التي نزع شعرها.

(6) مروج الذهب 204 / 3.

الصفحة 359
جسد واحد، قال تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) (1).

فالخطاب لجبابرة قريش، ولم يقل لهم مثلا: كما أرسلنا إلى مدين رسولا، أو إلى ثمود رسولا، وإنما قال: (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا)، لقد وضعهم في كفة النمط البشري المستكبر الذي يتسلق من أجل العلو في الأرض.

وليس معنى هذا أن المجتمع القرشي كله في صدر الدعوة كان يحمل البصمة الفرعونية، لأن مجتمع فرعون موسى كان به مؤمن آل فرعون والسيدة آسية وفي هذا كفاية، لأن الدعوة لا تقاس باللحوم وكثرة العدد وإنما تقاس بالصدق والثبات على المبدأ. فقريش كانت تقف في الصدر الأول على أرضية الفراعنة.

وهم على نفس الأرضية خاطبهم القرآن، وذكرهم أن فرعون عصى الرسول وخطه المتمثل في هارون. ولما كانت المقدمة تحمل عصيان فإن النتيجة جاءت بالأخذ الوبيل.

والوليد بن عبد الملك كما ذكرنا كان الشخص الذي امتص التجربة كلها، داخل النفسية القرشية المتمثلة في الظالمين من بني أمية. وإذا كنا قد علمنا أن أوتاد الخيمة الفرعونية القديمة تقويم على أرضية مصالح الفرعون. والتي هي نفسها مصالح الدائرة الفرعونية من كهنة وغوغاء ورعاع. وأن أهم هذه الأوتاد قول فرعون (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) (2). وأن فرعون بقوله هذا قام بتعطيل منهاج الفطرة، وجعل من نفسه مصدرا للتشريع. ثم قوله: (ما أريكم إلا ما أرى) (3)، قال المفسرون: أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي. وإنه على يقين مما يهدي إليه قومه..... وأنه بهذا القول جعل من مقعده حيث الجهل والظلام منبرا للعلم، وأن هذه الأوتاد ما كان لها أن تقوم إلا على أرضية ثقافية استخفت بالعقول على دروب المتاجرة بالدين. ألم يقل لهم:

____________

(1) سورة المزمل: الآية 15 - 16.

(2) سورة القصص: الآية 38.

(3) سورة غافر: الآية 29.

الصفحة 360
(إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) (1). فطريقه إلى عقولهم كي يستخفهم كان يحمل عنوان الدين الذي التقى مع أهوائهم.

إذا كنا قد علمنا ذلك من سيرة الفرعون كما قصها القرآن الكريم، وعلمنا أيضا أن هذه الحركة الفرعونية كانت تجري على أرضية الفتنة، لقوله تعالى:

(فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم) (2)، فإن الوليد بن عبد الملك الذي امتص تجربة بني أمية وضع هو وقائمة المنتفعين والمتسلقين معه منهجا يلتقي في خطوطه العريضة مع المنهج الفرعوني الذي يقوم على قوله: (ما أريكم إلا ما أرى) (3). وهذا المنهج دخل إلى الغالب الأعم في الأمة كما دخل إلى قوم فرعون من قبل، وذلك لأنه دخل من باب قوله: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) (4)، وكانت حركة منهج الوليد تستقيم مع حركة المنهج الفرعوني في اتجاه الفتنة يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (5).

ولقد ذكرنا من قبل أن القرآن الكريم كتاب طاهر ولا يمسه بتأويل إلا طاهر، وهذا الطاهر لا بد أن يكون بنص وإلا ادعى كل إنسان الطهارة. وذكرنا أن أجر الرسالة الخاتمة لا يصب إلا في وعاء مودة ذي القربى، وأن دائرة ذي القربى دائرة لها رأس. وكما أن لكل قوم سادة حتى النحل له سادة، كذلك دائرة ذي القربى فإن لها سادة يرتبطون بالقرآن ولا ينفصلا حتى يردا على الحوض.

فهؤلاء رفعهم الله يعلمهم درجات، بمعنى أنهم يمتازون عن بقية الأمة بعلمهم

____________

(1) سورة غافر: الآية 26.

(2) سورة يونس: الآية 83.

(3) سورة غافر: الآية 29.

(4) سورة غافر: الآية 26.

(5) سورة آل عمران: الآية 7.

الصفحة 361
الذي رفعهم به الله درجات، فإذا ذهبوا ذهب العلم، لأن ذهاب العلم ذهاب حملته ويترتب على ذلك التيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل العلماء في الأرض، مثل النجوم في السماء، إذا ظهرت ساروا بها وإذا توارت عنهم تاهوا " (1). فالعلماء تحت سقف الأمة شربوا من علوم دائرة ذي القربى وساروا بمشاعلهم حتى لا يسقطوا في حفر الفتن يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

" النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي " (2). فتحت مشاعل أهل البيت يكون الأمان من الفتن ومن كل مكروه، لأنهم مع كتاب الله الهادي ثقلين في حبل واحد. يقول الزرقاني في شرح المواهب: أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية، والأسرار والحكم الشرعية، وكنوز الحقائق، وخفايا الدقائق.

وأما العترة، فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين، فطيب العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها يؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته (3).

وقال صاحب التاج الجامع للأصول: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

" احسنوا خلافتي فيهما باحترامهما، والعمل بكتاب الله وما يراه أهل العلم من آل البيت أكثر من غيرهم " (4).

فإذا كنا قد علمنا ذلك، وعلمنا كيف حورب أهل البيت حتى لا يقوموا في الأمة بالعمل الذي يستقيم مع مرتبة العلم التي فضلهم الله بها وبغيرها، وكيف قتل أمير المؤمنين الذي عليه نص بأنه يقاتل على التأويل حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإذا كنا قد علمنا هذا وغيره على امتداد هذا الكتاب، فلم يبق إلا أن نقول إن ذهاب العلم، وذهاب حملته، يفتح الطريق أمام الذين يبتغون الفتنة. ولدينا العديد من النصوص التي تقول بأن حركة بني أمية ما هي إلا حركة فتنة على طريقها ترفع أعلام أغيلمة وسفهاء قريش الذين يتخذون ما الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دخلا. وفي عالمهم يقتل المتقين، وتضيع الصلاة،

____________

(1) رواه الإمام أحمد (كشف الخفاء 405 / 2) (2) رواه أبو يعلى (كشف الخفاء 436 / 2)، (كنز العمال 102 / 12).

(3) شرح المواهب 2 / 8.

(4) التاج الجامع للأصول 48 / 1.

الصفحة 362
ويقرأ القرآن خلف لا يجاوز تراقيهم، ويكون القتال فيه على الملك. فعلوم الفتن إنتاج طبيعي لمقدمة ذهب فيها العلم. ومعنى: ذهب فيها العلم. أنه لا يوجد إلا في المكان الذي ذهب إليه. ومشاعله لا توجد إلا في المكان الذي توارت فيه.

2 - دائرة الرؤية الفرعونية:

والوليد بن عبد الملك الذي وصف بأنه " قليل العلم " (1)، وأنه كان " لا يحسن العربية، وجمع أهل النحو فأقاموا عنده فخرج يوم خرج أجهل مما كان " (2)، الوليد هذا كان رأس دائرة تتأول كتاب الله على طريق الفتنة، كما تأول فرعون صفحة الوجود فنادى " ما أريكم إلا ما أرى "، وكما التقط الفرعون الزاد من تراث آبائه. كذلك فعل الوليد بن عبد الملك. لقد كانت دائرة القدر أهم دائرة تجول فيها بني أمية والتقطوا منها كل ما يستقيم مع أعمالهم، ثم قذفوا بما التقطوه إلى علمائهم ليتأولوه، ويضعوا عليه رداء الدين ليعبر إلى الغالب الأعم من الأمة بكل سهولة وبكل يسر. والكلام في القدر كلام قديم. قال تعالى:

(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم ألا تخرصون) (3). يقول الآلوسي في تفسيره: ولم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح... بل هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، وإن ما ارتكبوه حق ومشروع، ورضي الله عنه بناء على أن المشيئة والإرادة تساوي الأمر وتستلزم الرضا. فيكون حاصل كلامهم: إن ما ارتكبوه من الشرك والتحريم وغيرهما مما تعلقت به مشيئة الله وإرادته، وكل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فيه مشروع

____________

(1) دول الإسلام / الذهب 208 / 1.

(2) ابن كثير (البداية والنهاية 161 / 9).

(3) سورة الأنعام: الآية 148.


الصفحة 363
مرضي عنه (1). ولقد رد عليهم القرآن الكريم وبين أن الذين من قبلهم قالوا مثل قولهم فذاقوا العذاب، والعذاب لا يكون نتيجة لفعل رضي الله عنه.

ثم بين أن قولهم لا يستند إلا على الوهم والخيال. وتحداهم إن كان عندهم علم بهذا فليخرجوه. ولقد أراد طابور الشرك في مكة أن ينسج من مسائل القدر عقبات أمام الرسالة الخاتمة، ولكن القرآن الكريم أطاح بنسيجهم في آيات كثيرة ومنهم أيضا قوله تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه شئ)، ثم صرف الله تعالى الخطاب عنهم لسقوط فهمهم وقال لنبيه: (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين * ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (2)، قال المفسرون: فكأنهم يقولون: لو كانت النواهي التي جاءت بها الرسالة حقة، وإن النواهي لله سبحانه، كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره، وأن لا نحرم دونه شيئا، ولو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا، لم تعبد ولم نحرم لاستحالة تخلف مراده عن إرادته، لكنا نعبد غيره، ونحرم أشياء، فليس يشاء شيئا من ذلك، فلا نهي ولا أمر منه تعالى، ولا شريعة ولا رسالة من قبله.

هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم. إن عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه، وبالجملة عامة أعمالهم، لم تتعلق بها مشيئة من الله ينهي، ولو تعلقت لم يعملوها. ثم قال تعالى لنبيه: (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسول إلا البلاغ المبين)، خطاب للبني يأمره تعالى أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا، ولا يعتني بما لفقوه من الحجة، فإنها داحضة والحجة التامة عليهم بالبلاغ. فالذين من قبلهم قالوا بهذا ولو كان قولهم صحيحا ما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم. وهؤلاء ركبوا سنن الذين من قبلهم وقالوا قولهم، ولقد أرسل الله لهم رسولا ليزيل من عقولهم بصمات سلفهم الضال. فالبلاغ حجة

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية / محمد أبو زهرة 99.

(2) سورة النحل: الآية 35 - 36.

الصفحة 364
عليهم بأن حركتهم نحو الأصنام والطاغوت حركة ليس لله فيها أي نصيب.

لقد كان القول القدر يدور في إحياء المشركين عند بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد النبي حمل تركه القول بالقدر طابور النفاق وجميع تيارات الهدم والصد عن سبيل الله. وظهر القول بالقدر في عصر عمر بن الخطاب عندما دخل أحبار اليهود في الإسلام، وعندما اتسعت دائرة الفتوحات وتسربت المفاهيم الغير إسلامية إلى ديار المسلمين، ولما جاء عصر الإمام علي، واجه الإمام هذه التيارات... روي أن الإمام علي عند مسيره إلى صفين قيل له:

أخبرنا عن مسيرنا إلى صفين أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما وطأنا موطئا، ولا هبطنا واديا، إلا بقضاء الله وقدره. فقال السائل: فعند الله أحتسب عناي، ما أرى من الأجر شيئا. فقال الإمام: مه أيها الشيخ: لقد عظم الله أجركم في سيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شئ من أحوالكم مكرهين ولا مضطرين، فقال الشيخ: وكيف القضاء والقدر ساقنا؟ فقال الإمام: ويحك، لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما، لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي. ولم تأت لائمة من الله لمذنب. ولا محمدة لمحسن. ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ. ولا المسئ أولى بالذم من المحسن. تلك مقالة عباد الأوثان، وجنود الشيطان، وشهود الزور أهل العمي عن الصواب. وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله أمر تخييرا ونهى تحذيرا، وكلف تسييرا، ولم يعصه مقلوبا، ولم يطع كارها. ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.

فقال الشيخ: فيما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما؟ فقال الإمام: هو الأمر من الله تعالى والحكم، ثم تلا قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (1).

وروي أن سائلا قال للإمام علي: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر. فقال

____________

(1) الصواعق / ابن حجر ص 130.

الصفحة 365
الإمام: يا سائل. إن الله خلقك كما شاء أو كما شئت؟ قال: كما شاء فقال الإمام: إن الله يبعثك يوم القيامة كما شئت أو كما يشاء؟ قال: كما يشاء، فقال الإمام: يا سائل. ألك مشيئة مع الله أو فوق مشيئته. أو دون مشيئته. فإن قلت مع مشيئته، أدعيت الشركة معه، وإن قلت دون مشيئته، استغنيت عن مشيئته وإن قلت فوق مشيئته كل مشيئتك غالبة على مشيئته. ثم قال الإمام: يا سائل.

ألست تسأل العافية؟ قال السائل: نعم، فقال الإمام: عن ماذا تسأله العافية؟

أمن بلاء هو ابتلاك به، أو من بلاء غيره ابتلاك به؟ قال الرجل: من بلاء ابتلاني به. فقال الإمام: ألست تقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال السائل: بلي، فقال الإمام: أتعرف تفسيرها؟ قال: لا يا أمير المؤمنين علمني مما علمك الله. فقال: تفسيره إن العبد لا قدرة له على طاعة الله ولا على معصيته. يا سائل، إن الله يسقم ويداوي، منه الداء ومنه الدواء، ثم قال: لو وجدت رجلا من أهل القدر لأخذت بعنقه ولا أزال أضربه حتى أكسر عنقه، فإنهم يهود هذه الأمة (1) وظلت تيارات القول بالقدر تحفر في جدار الأمة حتى بعد وفاة الإمام علي. روي أن الإمام الحسن بن علي بعث برسالة إلى قوم من أهل البصرة ادعوا الجبر فقال: من لم يؤمن بقضاء الله وقدره فقد كفر، ومن حمل ذنبه عليه ربه فقد كفر. إن الله لا يطاع استكراها، ولا يعصى لغلبة، لأنه المليك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه. فإن عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما فعلوا، وإن عملوا بالمعصية فلو شاء لحال بينهم وبين ما فعلوا. فإن لم يفعلوا، فليس هو الذي أجبرهم على ذلك، فلو أجبر الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب.

ولو أجبرهم على المعاصي، لأسقط عنهم العقاب (2).

فهذا الكلام صادر من عند سادة أهل البيت، فإذا ذهبوا ذهب العلم الذي إذا ضبط المرء حدوده خصم من خالفه. ومع بروز الدولة الأموية انشغل الأمراء

____________

(1) تاريخ الفرق الإسلامية / محمد خليل الزين ص 73.

(2) تاريخ الفرق الإسلامية / محمد خليل الزين 70.

الصفحة 366
بالقتال على الدنيا، وتفرق المسلمون أثر السياسة التي اتبعتها الدولة، وضعف أمر الدين وتغلبت المطامع والأهواء على عقول المسلمين، وصدت الدولة كل دعوة تدعو المسلمين للاحتفاظ بعقيدتهم الحقة، ووقف العامة والغوغاء حاجزا أمام الدعاة المصلحين الذين دعوا الأمة للتمسك بسيرة السلف الصالح من المهاجرين والأنصار. وكان الرعاع دعاة سوء. وملتقى كل من يريد هدم الإسلام، وحولوا القوة التي حصنها الإسلام لصالحهم الخاص، وجردوا السيف على رقاب الأئمة والقادة والعلماء لأنهم لم يسيروا في ركابهم.

وعندما اشتغل المسلمون بالفتن الداخلية، وجانبوا تعاليم القرآن، اندس بين المسلمين رجال دخلوا في الإسلام من فرس ونساطرة ويعاقبه ويهود، وتزينوا بزي العلماء وأظهروا المحافظة على تعاليم القرآن. ثم أدخلوا عقائدهم السابقة من القول بالحلول والقدر والجبر في عقيدة المسلمين، وفسروا آيات كتاب الله حسب ما يؤيد ما يذهبون إليه. ففريق أخذ بظاهر تلك الآيات، وفريق آخر أولها، فنشأت القدرية في ثوبها الجديد، وبالغ القدري في القدر، فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبري في مقابلته فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته، فجعله كواحد من البشر له وجه ويدين (1).

وهكذا عصفت رياح الفتن داخل الجماجم البشرية في الدولة الأموية التي قاتلت أصحاب العلم وجاؤوا بما قاله المشركون عند البعثة النبوية ولكن في ثوب جديد براق. ولقد اتفق العلماء كافة على أن القول بالقدر شاع في الدولة الأموية، وأن الدولة احتضنت هذا التيار وتبنته حتى ترعرع على تربتها (2)، وفكرة القضاء والقدر التي طرحتها أجهزة الصد عن سبيل الله هدفها وضع العالم في حيرة واضطراب فكري، ينتج عن ذلك عدم تقديس الشرائع، وعدم التقيد

____________

(1) المصدر السابق 42.

(2) راجع: تاريخ المذاهب الإسلامية / محمد أبو زهرة ص 104 - 111، وتاريخ الفرق الإسلامية / خليل الزين ص 66.

الصفحة 367
بنواميسها، وإلى ارتكاب المحظورات التي حظرتها الديانات السماوية بحجة أنها بقضاء الله تعالى. واحتضان الدولة الأموية لهذا التيار الهدف منه التعتيم على ما ورد في شأنهم، وخضوع المسلمين لهم بحجة أن قيادتهم مفروضة عليهم بقضاء الله وقدره، وأن أي تمرد عليهم هو تمرد على قضاء الله وعن أول من قال بالجبر في ثوبه الجديد يقول الشيخ محمد أبو زهرة: إننا نجزم بأن القول في الجبر شاع في أول العصر الأموي وكثر حتى صار مذهبا في آخره... وقد قالوا إن أول من فعل ذلك بعض اليهود، فقد علموه بعض المسلمين وهؤلاء أخذوا ينشرونه. ويقال إن أول من دعا إلى هذه النحلة من المسلمين " الجعد بن درهم "، وقد تلقاه عن يهودي بالشام، ونشره بين الناس بالبصرة. ثم تلقاه منه " الجهم بن صفوان " (1)، ولم يكن الجهم يقول بالجبر يقول بالجبر فقط بل إن جهما كان يدعو إلى آراء أخرى (2)، تتعلق بالجنة والنار، ورؤية الله يوم القيامة وغير ذلك. وهكذا تشابكت فروع الشجرة الأموية مع فروع شجرة أهل الكتاب. بعد أن التقطوا منهم فكرة الجبر في ثوبها الجديد، لأنها تتلائم ومبدأهم السياسي. ومن المعلوم أن الشام عاصمة الخلافة الأموية كانت متبعا للديانات والآراء المختلفة. كان الأمويون يتسامحون مع رؤوساء الأديان، ويعقدون مع القياصرة معاهدات الصلح ليتفرغوا للمسلمين في قتالهم على الملك. وفي أثناء هذه المعاهدات كان الأحبار الجدد يتسللون لتكملة بناء الأحبار الأوائل. وكان الأمويون يقربون الأحبار إليهم. ومن الثابت أيضا أن سرجون النصراني كاتب معاوية ومن بعده يزيد ثم مروان بن الحكم (3)، وكاتم أسرار الدولة الأموية كان على رأس الجبرية (4).

فالدولة الأموية باتفاق جميع علماء الفرق تبنت تيار الجبرية، لأن تحت

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 102، تاريخ الفرق الإسلامية / محمد خليل ص 68.

(2) تاريخ المذاهب الإسلامية 106.

(3) التنبيه والإشراف / المسعودي 285 / 1.

(4) تاريخ الفرق الإسلامية / الزين ص 69.

الصفحة 368
خيمتهم لا تظهر عورات بني أمية، وعلى منابرهم يجد فقهاؤهم أبوابا للخروج من كل مأزق. فإذا قيل لهم لماذا قاتلتم عليا ثم قمتم بسبه بعد ذلك؟ أو لماذا قتلتم حجر بن عدي واستلحقتم زياد وقتلتم الحسين؟ أو لماذا اجتحتم المدينة يوم الحرة ثم توجهتم إلى مكة لرميها بالحجارة، أو لماذا استخذتم مال الله دولا وعباد الله خولا ودين الله دخلا وضيعتم الصلاة؟. فإذا قيل لهم هذا أو غيره قالوا: كل هذا بقضاء الله وقدره. وعلى هذا أجمعت الأمة. فمن أبى فالسيف.

ولما كانت الدولة الأموية قد أخذت الخطوة الرسمية في اتجاه سنن الذين خلو من قبل، فإن أهل الكتاب قد أخذوا خطوة إضافية تتفق مع أهدافهم التي يسارعون من أجل تنفيذها في الفساد، فقاموا بتغذية الساحة بتيار مضاد لتيار الجبرية لسبب رئيسي هو وضع المسلمين في حلقة من الحيرة والاضطراب الفكري حتى لا يصلوا إلى الحقيقة التي تغذي الفطرة. في التيار الذي قذفوا به هو تيار القدرية وهذا التيار يعمل تحت عنوان: إن كل فعل للإنسان هو إرادته المستقلة عن إرادة الله سبحانه وتعالى (1). وهذا العنوان يعارض تيار الجبرية معارضة تامة. فبينما تقوم الجبرية على تحجر الإنسان والوقوف كحجر عثرة أمام سعيه ونضاله وتدعو الإنسان للخضوع والاستسلام لأولياء الأمر، بدعوى أن الله قدر عليهم أزلا. أن يكونوا محكومين للطغاة، وكما قال الشاعر:

جرى قلم القضاء بما يكون * سيان منك التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق * ويرزق في غشاوته الجنين (2)

فإن تيار القدرية يعمل على الخط المقابل، والهدف من وراء ذلك العمل على اشتغال الساحة وفي جميع الحالات فالنتيجة لصالح أهل الكتاب. ويقول الشيخ أبو زهرة عن أول من تكلم في القدر ووضع وتد هذا التيار على أرض الواقع: أول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانيا، فأسلم ثم تنصر. وأخذ عنه معيد الجهني، وغيلان

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 111، تاريخ الفرق الإسلامية ص 79.

(2) تاريخ الفرق الإسلامية / الزين ص 81.

الصفحة 369
الدمشقي (1) وأخذ بني أمية من هذا التيار كل ما يتفق مع طروحاتهم السياسية فيما يتعلق بالخلافة والأسماء والصفات، ثم تصدوا بعد ذلك لأتباع هذا التيار فقتل منهم من قتل وهرب من هرب. ولكن المذهب لم يمت بل دام بعد ذلك في البصرة قرونا طويلة فرخ فيها، بل تحول عند طائفة منهم إلى ما يشبه مذهب الثنوية الذين جعلوا العالم محكوما بقوتين النور والظلمة (2).

وظلت طائفة الجبرية رافعة لأعلامها التي لا تطاولها أعلام، وظلت تتقدم لجعل دين؟ الله دخلا ولاتخاذ عباد الله خولا، وكانت في تقدمها ترتدي ثياب الدين وفي يدها سيف فرعون. وفي هذا الوقت الذي تزاحمت فيه الأفكار ظهر بالساحة أسئلة تبحث لها عن إجابات مثل: هل مرتكب الكبيرة مؤمن أم غير مؤمن؟ وهل يضر مع الإيمان ذنب؟ وكان مصدر هذه التساؤلات تلك الجرائم البشعة التي ارتكبها الخلفاء والأمراء ابتداء من مقتل الحسين، ومرورا باجتياح المدينة، وانتهاءا برمي الكعبة. فجميع هذه الجرائم تتم باسم الدين، والفطرة السوية ترفض جميع التبريرات والترقيعات التي تدافع هذه الأعمال الوحشية.

وأمام هذه الأسئلة برز تيار " المرجئة " ليباشر عمليات التكميم والتعمية. وبذور المرجئة وضعت في عهد عبد الملك بن مروان (3). ثم احتضن الوليد بن عبد الملك هذه البذور تحت إشراف أهل الكتاب، حتى ترعرع شجرها ثم أصبح غابة. وذهب العديد من العلماء إلى أن بذور وضعها الصحابة الذين اعتزلوا أحداث عثمان، ولم يشاركوا في القتال بين أمير المؤمنين علي ومعاوية أمثال: سعيد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو بكرة (4). فهؤلاء الصحابة يقول النووي في موقفهم: إن القضايا كانت بين الصحابة مشبهة، حتى أن جماعة منهم تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين، ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب " (5).

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 112، تاريخ الفرق الإسلامية ص 40.

(2) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 117.

(3) رسائل ابن حزم ص 163.

(4) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 120.

(5) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 120.

الصفحة 370
وقالوا إن هؤلاء الصحابة الذين اعتزلوا الطائفتين، أرجئوا الحكم في أي الطائفتين أحق، وفوضوا أمورهم إلى الله تعالى، وعلى هذا تكون هذه الطائفة من الصحابة أول من وضع بذرة الإرجاء.

ومن وجهة نظري فأنا لا أوافق على هذا التصور، لأن من الصحابة من تأول الأحداث بصورة خاطئة ثم ندم بعد ذلك. ومنهم من كان يخاف من سيوف الجلادين، ويعلم أنهم سيجلسون على الكراسي الأولى في نهاية الأحداث كما أخبر النبي. فآثر الصمت والسكون ومنهم من اكتفى بمراقبة الأحداث من بعيد، خوفا على رأسه من سيف أبي الحسن في الوقت الذي كان يحشد فيه الناس ليقفوا وراء معاوية. وبالجملة: لم يكن هناك إرجاء، وإنما كانت هناك مصالح.

ولا يوجد صحابي اعتزل القتال إلا وهو يعلم أن عليا كان صاحب الحق في جميع معاركه التي خاضها. ولا يوجد صحابي وضع عليا في كفة ومعاوية في كفة ليرى أيهما أرجح. فأين الإرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، والأحداث في عهد الصحابة كان فيها من الله برهان يجذب العقل إليه ويدعوه إلى التمييز؟ والقول بأن الصحابة كانوا يخافون من الوقوع في الفتن فأرجئوا الحكم في الأحداث إلى الله تعالى، لا يتعادل من أصناف الفتن، يقول تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (1) فهل خافوا من الوقوع في هذه الفتن؟ إن التاريخ لم يسجل ذلك للكثير منهم. فلماذا خافوا هناك ولم يخافوا هنا. ثم كيف يهربون من الفتن وتحت سقفها يختبر الله تعالى عباده، قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (2).

إن الله تعالى يبتلي ما في الصدور، ويمحص ما في القلوب بأحداث تجري على صفحة الوجود. ومخاصمة الفتن في القرن الأول لا يستقيم مع حركة هذا الوجود، لأن هناك أحداث لا بد فيها من القتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين

____________

(1) سورة التغابن: الآية 15.

(2) سورة العنكبوت: الآية 2 - 3.

الصفحة 371
كله الله، وهناك فتن يقذف بها تيارات الهدم، فلا بد من التصدي لها وكشف أوتاد النفاق فيها (1). والمال والبنون لا يمكن مخاصمتهما وهما من الفتن، إنما يتم التعامل معهما بميزان الله تعالى. إن المخاصمة لا يستقيم مع حركة الوجود، والذي يستقيم هو التعوذ من مضلات الفتن.

وعلى ما سبق لا نوافق بأن توضع بذرة الإرجاء على أرضية اعتزال الصحابة أيام قتال أمير المؤمنين علي ومعاوية، لأن التاريخ يشهد بأن هذه البذرة وضعت من أجل احتناك الكثير من عباد الله، ولتتعانق شجرتها مع شجرة الجبرية في ليل واحد. وبذرة المرجئة أمام الناقد البصير شربت من نفس الماء الذي شرب منه الجبرية، وصبت ثمارها في سلتهم بصورة أو بأخرى. لقد دخلوا من باب الفلسفة، والفلسفة عندما تكون أجوبتها عقلية أو منطقية، تولد عن الإنسان قناعة فكرية بما سمع. أما إذا جعلت الجمود لها مادة والمتاهات لها ديار، ثم دخلت من باب القضاء والقدر، فهنا تكمن الكارثة. لأن هناك الكثير من بني الإنسان يؤثر عليهم الكلام في القضاء والقدر، وينتهي بهم التفكير في مسائله إلى عدة طرق: إما متشائمين، وإما مستسلمين، أو مضطربين فكرا أو سلوكا. وهذا التفكير يدفع بأصحابه في أحد طريقين: إما طريق الاستسلام للقدر نتيجة لفهمهم الخاص، وإما أن ينسبوا إلى الله تعالى الظلم أو يكفروا به مطلقا، أو يكفروا به وهم لا يشعرون. وإذا كان بنو أمية وأهل الكتاب هم الذين يشرفون على مطبخ الفلسفة فلا خير يرجى من عندهم.

لقد التقط الوليد بن عبد الملك بذرة الإرجاء التي تركها له والده (2). ومن الذين جهزوا وزودوا تيار الإرجاء يوحنا الدمشقي، الذي كان يتمتع بشهرة كبيرة في عاصمة الأمويين، وكان يقوم ببحوث دينية في الوقت الذي كان الناس يتحدثون فيه عن الإرجاء (3)، ولقد ذكر أكثر من واحد أن هناك صلة بين مبادئ

____________

(1) روي عن علي أنه قال: " لا تكرهوا الفتنة في آخر الزمان فإنها تبير المنافقين " رواه أبو نعيم كنز العمال 189 / 11.

(2) رسائل ابن حزم ص 163.

(3) حياة الشعر في الكوفة / د. يوسف خليف ص 312.

الصفحة 372
المرجئة، وبين تعاليم الكنيسة الشرقية التي ينتمي إليها يوحنا الدمشقي. (1) هذا عن الأصابع التي وراء تيار المرجئة. أما عن ظروف ظهور التيار يقول د. خليف: إن نزعة الإرجاء اشتدت في الفترة التي تبدأ من مصرع الحسين، وتمتد إلى خلافة عمر بن عبد العزيز - أي فترة يزيد، ومروان، وعبد الملك والوليد، وسليمان بن عبد الملك - ومن الطبيعي أن تشتد نزعة الإرجاء في هذه الفترة. لأنها فترة اضطراب سياسي وقلق نفسي. وأخذ الناس فيها بالشبهة والظنة (2). ومن المعروف أن الأمور في الكوفة ازدادت سوء وشدة في أعقاب مصرع الحسين، وانتشرت الثورات فيها بشكل قوي.. وأدركت الدولة الأموية أن الأمر لا بد مفلت من يدها، إن لم تقابل هؤلاء المتمردين بمنتهى القسوة والعنف. فسلطت عليهم أشد ولاتها عتوا وجبروتا، عبيد الله بن زياد، والحجاج بن يوسف، وترتب على هذا أن الكوفة عاشت في ظلال حكم دكتاتوري رهيب (3).

وأمام هذا برزت التساؤلات، هل مرتكب الكبيرة مؤمن أم غير مؤمن؟

وهل يضر مع الإيمان ذنب؟ إن القوم قتلوا الحسين وكانوا يرفعون أعلاما إسلامية، والقوم فتحوا السجون وأخذ البرئ بذنب المذنب. ولم يعد الإنسان يأمن إذا أصبح أن يمسي، وإذا أمسى أن يصبح... كل هذا يتم باسم الإسلام، فأين الحقيقة؟ هل الذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس يعتبروا في دائرة الأمان؟ كيف والله قال في كتابه (فبشرهم بعذاب أليم) (4)؟ هل من يقتل مؤمنا متعمدا لا يضره شئ، كيف والله تعالى قال: (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (5)؟

هل الذين يشهدون الزور ويقيمون كل يوم خيمة للهو، وإذا مروا بآية من آيات الله مروا عليها كأنهم صما وعميانا هل هؤلاء لا يضر مع إيمانهم ذنب؟

____________

(1) المصدر السابق ص 312.

(2) المصدر السابق 313.

(3) المصدر السابق 314.

(4) سورة آل عمران: الآية 21.

(5) سورة النساء: الآية 93.

الصفحة 373
كيف وهؤلاء لا يجزون الفرقة ولا يلقون تحية ولا سلاما. وكانت هناك أسئلة عن قيمة العمل وقيمة حركة الإنسان في عالم الابتلاء والاختبار. فالله تعالى قرن الإيمان والعمل في حبل واحد فقال: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات) (1). وميز سبحانه بين عمل المؤمن وبين عمل المفسد، فقال: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) (2)، وقال: (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ) (3). فأين هذا من الذي يجري في الساحة؟ فهذه الأسئلة وغيرها كانت تطرح على أرض الواقع، الذي اعتمد حكامه مذهب الجبرية إماما لهم، وأمام هذه الأسئلة تجرح القاضي وهو في الوقت نفسه السياف، لإيجاد الدواء المناسب لهذه الأسئلة وغيرها. والضمير الآثم إذا بحث عن الدواء، جاء به من حركة أوزاره الماضية. يقول د. خليف: في هذا الجو السياسي المضطرب، ظهرت المرجئة.. مذهبا سياسيا مسالما... والدولة الأموية كانت عاملا قويا على استقرار مذهب المرجئة... وسارع الناس إلى اعتناق المذهب الذي وجدوا فيه وسيلة للعيش في سلام واطمئنان مع الحكومة الدكتاتورية.

ووجد الأمويون في هذا المذهب ضالتهم المنشودة، التي كانوا يتمنون أن يعثروا عليها وسط الاتجاهات والمذاهب المتعددة المعادية لهم (4). ويقول د. شوقي ضيف عن هذه الاتجاهات: إن أفكار المرجئة تخدم البيت الأموي، الذي كان في رأي الشيعة وكثير من الأتقياء منحرفا عن الجادة الدينية، وينبغي أن يغيره المسلمون ويضعوا مكانه البيت العلوي. والمرجئة لم يكونوا يوافقونهم على هذا الرأي، لأنهم لا يريدون المفاضلة بين المسلمين ولا الحكم على أحد بتقوى وغير تقوى، فالمسلم يكفي أن يكون مسلما " (5).

____________

(1) سورة الحج: الآية 14.

(2) سورة ص: الآية 28.

(3) سورة غافر: الآية 58.

(4) المصدر السابق 309.

(5) التطور والتجديد في الشعر الأموي ص 50.

الصفحة 374
فالمذهب جاء لينضم إلى بقية المعاول التي عملت من أجل ضياع الحقيقة وتشويه الدين. جاء ليقف بالناس على أرضية واحدة. ولأن الناس ينظرون إلى أعمال بني أمية نظرات ارتياب وشكوك. قام المذهب بذبح الأعمال التي تميز هذا عن ذاك. وليس معنى هذا أن بني أمية وأصحاب المقاعد الأولى قد تساوت رؤوسهم مع بقية الناس، لأن مذهب الجبرية فصل بين الناس وجعلهم يستسلمون لبني أمية وأصحاب مقاعدهم.

يقول د. خليف: ومسألة الإيمان مسألة تتصل اتصالا وثيقا بمبادئ المرجئة السياسية، فقالت طائفة: إن الإيمان مصدره القلب، فيكفي إن يكون الإنسان مؤمنا في قلبه، وليس الاقرار باللسان ولا الأعمال من صلاة وصوم ونحوهما جزء من الإيمان. وقالت طائفة أخرى: الإيمان ركنان: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان. لا بد منهما معا ليكون المرء مؤمنا كامل الإيمان صحيح العقيدة. ومعنى هذا أن المرجئة جميعا يتفقون على أن العمل ليس ركنا من أركان الإيمان (1). ويقول الشيخ أبو زهرة عن عقائدهم: قرروا أنه لا يضر مع الإيمان ذنب فقالوا: إن الإيمان إقرار وتصديق واعتقاد ومعرفة، ولا يضر مع هذه الحقائق معصية. فالإيمان منفصل عن العمل، بل منهم زعم أن الإيمان اعتقاد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية والنصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب. وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ومن أهل الجنة! بل إن بعضهم زعم أن لو قال قائل: اعلم أن الله قد حرم أكل الخنزير، ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هو هذه الشاة أم غيرها كان مؤمنا. ولو قال: أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة. غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند كان مؤمنا.. ويظهر من هذا أنهم تجاوزوا الحد في الاستهانة بالعمل، من حيث اتصاله بأصل الإيمان. ومن حيث أثره في دخول الجنة إن كان صالحا، ودخول النار إن كان غير صالح. بل كان إثما منفيا. فاستهانوا أيضا بأصل الإيمان فحرفوا حقيقة، وجعلوه مجرد

____________

(1) تاريخ الشعر في الكوفة 310.

الصفحة 375
الاذعان القلبي وإن خالفته الجوارح.... وفي وسط تلك الأقوال غير السليمة وجد من المتعقبين لهذا المذهب من يستهين بحقائق الإيمان وأعمال الطاعات.

ومن يستهين بالفضائل، واتخذه مذهبا له كل مفسد مستهتر. حتى لقد ذكر فيه المفسدون واتخذوه ذريعة لمآثمهم ومنهلا لمفاسدهم، ومسايرا لنياتهم الخبيثة، وصادف هوى أكثر المفسدين (1).

وهكذا تعانقت الأشجار على سنن الأولين، وهكذا فرضت الدولة المذهب الذي تراه يستقيم مع مبادئها على طريق فرعون. لقد أعطت المرجئة للطغاة ثياب المؤمنين، وأعطت الجبرية لهم سيفا قاطعا. ويا له من عالم لم يمت فيه فرعون وهامان، عالم تخصص في الاحتيال على الناس بالعنف أو بالحسنى لتحتفظ فيه الجبارين بالكراسي، ويا له من فقه بالخديعة يستلب الأرواح. وكأن صوت فرعون قد جاء من بعيد ويقول: كل هذا يلائم سياستنا المرسومة، هذا هو منطق التجربة الذي يتصرف بوحيه كل من سار على طريقي. فأنا أضع الخطة وأنتم تقومون بالتنفيذ. أنا أنصب الشرك وأنتم تحطمون الفروع الزائدة على الحاجة حتى يتم اقتناص الطائر.. وهكذا فإن على القائد الطموح إن أراد أن يحافظ على مركزه أن يتصرف كصائد مع شعبه.

وكما حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني أمية، ووضع الوليد في كفة الفراعنة. فإن صلى الله عليه وسلم ذم القدرية والمرجئة من قبل أن يعرف الناس عنهما شيئا. وذلك وهو يقيم الحجة على القرون من بعده بصفة عامة وعلى القرن الأول بصفة خاصة. فقال: " صنفان من أمتي ليس لهم من الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية " (2). وقال: " اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية " (3). ولقد رأينا بصمات أهل الكتاب على هذه المذاهب.. وقال

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 122.

(2) رواه البخاري في التاريخ والنسائي وابن ماجة والخطيب والطبراني (كنز العمال 118 / 1).

(3) رواه ابن أبي عاصم والطبراني وابن عدي (كنز العمال 119 / 1).

الصفحة 376
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينعق الشيطان بالشام نعقه يكذب ثلثاهم بالقدر " (1). وقال صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيا، القدرية والمرجئة الذين يقولون الإيمان إقرار ليس فيه عمل " (2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام: " الإيمان بالقلب واللسان والهجرة بالنفس والمال " (3). وقال: " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن: هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " (4). وقال: " الإيمان والعمل أخوان شريكان في قرن لا يقبل الله أحدهما إلا بصاحبه " (5). وقال " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " (6). وقال:

" لا يقبل إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان " (7). وقال: " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة حتى يؤمن جاره بوائقه " (8).

وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحجة، وفيها ظهرت بصمات أهل الكتاب على هذه المذاهب، وتم تعرية الذين ذبحوا العمل على طريق الاحتناك. وهذه المذاهب التي صنعت من أجل حماية الطغاة ما جاءت إلا من طريق الذين لعنهم الله، وعلى رأسهم الشيطان قال تعالى بعد أن رفض الشيطان السجود لآدم (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) (9)، وقال عن فرعون وقومه أصحاب طروحات الاستكبار والجهل (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) (10)، وقال

____________

(1) رواه البيهقي وابن عساكر (كنز العمال 140 / 1).

(2) رواه الديلمي عن حذيفة، والحاكم عن أبي أمامة (كنز 135 / 4).

(3) رواه عبد الخالق بن زاهر في الأربعين (كنز 24 / 1).

(4) ابن النجار (كنز 25 / 1).

(5) ابن شاهين (كنز 36 / 1).

(6) رواه أحمد والبيهقي والنسائي وابن ماجة (كنز 37 / 1).

(7) رواه الطبراني (كنز العمال 68 / 1).

(8) رواه الإمام أحمد (الزوائد 53 / 1).

(9) سورة ص: الآية 78.

(10) سورة القصص: الآية 42.

الصفحة 377
عن الظالمين من أهل الكتاب الذي يسعون في الأرض فسادا (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) (1). وقال عن المنافقين: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) (2)، إنه طريق واحد لأنماط متعددة (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) (3).

من علامات طريق اللعن القردية والخنزيرية، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير...) (4). والقردية هي التقليد للشئ دون الوقوف على بدايته ونهايته ووسائله وأهدافه، والخنزيرية هي البحث عن المادة والتهامها من بين القاذورات، وعدم العفة، وعدم الطهارة، وبلادة الحس، وعدم التبصر في الأمور للوقوف على حقيقة الأمور. والظالمين من أهل الكتاب لهم علامات على طريق اللعن فعندما نهاهم الله أن يعتدوا في السبت، لم يلتزموا بما أمر الله به. فجاءهم العقاب قال تعالى: (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) (5)، وكما اعتدت اليهود في السبت اعتدى بني أمية أيضا في السبت.. روي أن الحسين قال قبل كربلاء " لو كنت في جحر لأخرجوني واعتدوا علي كما اعتدت اليهود يوم السبت " (6). وعلى هذا فطريق القردية طريق مفتوح. ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يمسخ قوم من أمتي آخر الزمان قردة وخنازير. قالوا: يا رسول الله ويشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: نعم (7).

وطريق اللعن في نهايته يجلس المسيح الدجال ليستقبل القردة والخنازير،

____________

(1) سورة المائدة: الآية 14.

(2) سورة الأحزاب: الآية 57.

(3) سورة النساء: الآية 52.

(4) سورة المائدة: الآية 60.

(5) سورة الأعراف: الآية 166.

(6) الطبري 217 / 6، البداية والنهاية 169 / 8.

(7) رواه نعيم ابن حماد (كنز العمال 280 / 14).

الصفحة 378
وأصحاب القدر الذين ساروا على نهج بني أمية. هم بلا شك في مقدمة الطابور إلى الدجال، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء: " فإذا لقيتموهم فلا تسلموا عليهم، وإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم، فإنهم شيعة الدجال " (1). وكشف النبي صلى الله عليه وسلم خطوات هؤلاء وما سيترتب على هذه الخطوات داخل الأمة، وكيف ستنتهي الحلقات جميعا إلى الدجال في حديث رواه البغوي قال:

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون قوم من أمتي يكفرون بالقرآن وهم لا يشعرون، كما كفرت اليهود والنصارى. يقرون ببعض القدر ويكفرون ببعضه. يقولون: الخير من الله والشر من إبليس، فيقرؤن على ذلك كتاب الله، ويكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة. فما تلقى أمتي منهم إلا العداوة والبغضاء والجدل. أولئك زنادقة هذه الأمة، في زمانهم يكون ظلم السلطان، فيا له من ظلم وحيف وآثره. ثم يبعث الله طاعونا فيفني عامتهم، ثم يكون الخسف، فما أقل من ينجوا منهم. المؤمن يومئذ قليل فرحه شديد غمه، ثم يكون المسخ، فيمسخ الله هؤلاء قردة وخنازير، ثم يخرج المسيح الدجال على إثر ذلك قريبا. ثم بكى رسول الله، حتى بكينا لبكائه وقلنا: ما يبكيك؟ قال: رحمة لأولئك القوم، لأن فيهم المقتصد وفيهم المجتهد " (2).

إن الدجال لن يستقبل قردة وخنازير، وإنما يستقبل أنماطا بشرية فيها من القردية والخنزيرية الكثير. وهؤلاء إنتاج لحلقات كثيرة (3). على رأسها أصحاب القدر الذين جلسوا على موائد أهل الكتاب، فأملوا عليهم من سننهم الكثير.

وعلى هذه التصورات قرأوا كتاب الله، في عالم العداوة والبغضاء والجدل وظلم السلطان. إنه طريق اللعن والجدل العقيم والبصيرة المطموسة. وفي نهاية هذا الطريق يجلس في ليل احتجبت نجومه وتوارى قمره. فاحتضن ظلامه

____________

(1) رواه الحاكم (كنز العمال 138 / 1).

(2) رواه الطبراني والبغوي كنز العمال حديث 38828.

(3) راجع شرح الحديث في كتابنا عقيدة المسيح الدجال، ط دار الهادي بيروت.

الصفحة 379
الذين تشابهت قلوبهم على امتداد التاريخ الإنساني. فالدجال فتنة في سلتها تقع جميع الفتن وذيولها منذ كانت الدنيا.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net