متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أ - صدود وردود
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

أ - صدود وردود:

لم يقف تيار الحق موقف الذليل على امتداد هذه الأحداث، فالاضطهاد لم يقل عزيمة الذين يسيرون على طريق علي بن أبي طالب، فكانوا يصرخون في وجه الباطل ويضحون بالغالي والنفيس في سبيل المحافظة على الإسلام والوقوف في وجه أعداء الحق. وكانت ثورة الحسين وحجته قد علمت الناس التضحية، وعلم الناس أن بني أمية يعاملون الذين يجهرون بمخالفتهم إما بالسيف، وإما على أنهم من المؤلفة قلوبهم، وعن طريق المال تتلاشى مقاومة خصومهم.

ورفض اتباع الحق أن يقفوا داخل مربع المؤلفة قلوبهم لحساب بني أمية، وجاءت الأيام بثورة زيد بن علي بن الحسين عام 122 ه‍، ذكر ابن الأثير: إن ثورة زيد بن علي جاءت في وقت بدت البغضاء للأمويين بنفوس الشعب (1).

ودعا زيد إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، وإعطاء المحرومين، وقسم الفئ بين أهل بالسوية، ورد المظالم.

ووطد زيد ثورته ببث الدعاة والرسل، وضاعف اتصاله بزعماء البلاد والعلماء وزعماء العشائر وحملة القرآن والحديث، ومن كان له أثر فعال في توجيه الرأي العام. ولم يقف الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان من هذه الثورة موقفا يختلف عن موقف آبائه وهم يدافعون عن دنياهم، فبعث جيشا جرارا لقتال زيد بن علي يقول المسعودي: فلما قامت الحرب انهزم أصحاب زيد... وحال المساء بين الفريقين، فراح زيد مثخنا بالجراح وقد أصابه سهم في جبهته. فأتى بحجام من بعض القرى فأخرج النصل، ومات زيد، فدفنوه في ساقية ماء، وجعلوا على قبره التراب والحشيش، وأجرى الماء على ذلك. وذهب الحجام

____________

(1) راجع ابن الأثير 92 / 5، البداية والنهاية 330 / 9.

الصفحة 380
فأخبر يوسف بن عمر الثقفي قائد جيش هشام بن عبد الملك، ودله على قبره، فاستخرجه يوسف وبعث برأسه إلى هشام. فكتب إليه هشام: أن اصلبه عريانا.

- صلبه يوسف كذلك (1). وظل مصلوبا حتى أيام الوليد بن يزيد الذي أمر بإنزاله وحرق جثته ويقال إن زيدا مكث مصلوبا أربع سنين (2).

وعندما مضى عهد هشام بن عبد الملك وجاء من بعده عهد الوليد بن يزيد، الذي يقول فيه الذهبي: اشتهر الوليد بالخمر والتلوط فخرجوا عليه لذلك (3). وقال فيه أيضا: كان الوليد فاسقا مهتكا (4)، فعندما جاء عهد هذا الخليفة، قام يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بثورته. ولكن الخليفة الفاسق تصدى لها بعامته وغوغائه، وبعث جيشا جرارا فاقتتلوا ثلاثة أيام أشد قتال، حتى قتل أصحاب يحيى كلهم، وقتل يحيى واحتزت رأسه، وصلب بالجوزجان من بلاد خرسان، وبعثت رأسه إلى نصر بن سيار، فبعث به نصر إلى الوليد بن يزيد (5). ويقول المسعودي كان ظهور يحيى في آخر سنة 125 ه‍ وقيل في أول سنة 126 ه‍ (6).

ويقول المسعودي عن الخليفة الأموي الوليد بن يزيد الذي ثار عليه يحيى بن زيد: كان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء، وهو أول من حمل المغنيين من البلدان إليه، وجالس الملهين، وأظهر الشراب والملاهي والعزف، وفي أيامه غلبت شهوة الغناء على الخاص والعام، واتخذ القيان وكان متهتكا ماجنا خليعا (7). وذكر أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن الوحي لم يأته عن ربه. كذب أخزاه الله

____________

(1) مروج الذهب 251 / 3، البداية والنهاية 331 / 9.

(2) البداية والنهاية 331 / 9، مقاتل الطالبين ص 139 / 1.

(3) تاريخ الخلفاء 233.

(4) دول الإسلام / الذهبي 75 / 1.

(5) مقاتل الطالبين 150 / 1.

(6) مروج الذهب 259 / 3.

(7) مروج الذهب 263 / 3.

الصفحة 381
ومن ذلك الشعر:

تلعب بالخلافة هاشمي * بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعني طعامي * وقل لله يمنعني شرابي

وقال ابن كثير: في خلافة هشام أمر الوليد بن يزيد على الحج سنة 116 ه‍، فأخذ معه كلاب الصيد خفية ولكن أمرها قد انكشف واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، وعزم أن ينصب تلك القبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهي وغير ذلك من المنكرات. فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه من الجلوس فوق ظهر الكعبة. خوفا من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك (1). وقال ابن كثير:

وبعد موت هشام قصد الوليد دمشق، واستعمل العمال وجاءته البيعة من الآفاق وجاءته الوفود، وكتب إليه نائب أرمنية يبارك له في خلافة الله له على عباده والتمكين في بلاده (2).

وقال ابن كثير: كان هذا الرجل مجاهرا بالفواحش مصرا عليها، منتهكا محارم الله عز وجل لا يتحاشى من معصية، وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين فالله أعلم. لكن الذي يظهر أنه كان عاصيا شاعرا ماجنا متعاطيا للمعاصي. لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحي من أحد، قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي (3)، وذكر ابن كثير أن الوليد كان يحب نصرانية، وكان يذهب متنكرا إلى بستان قريب من الكنيسة للقائها. وفي لقاء من اللقاءات قال الوليد شعرا منه:

أضحك فؤادك يا وليد عميدا * صبا قديما للحسان صيودا
في حب واضحة العوارض طفلة * رزت لنا نحو الكنيسة عيدا
ما زلت أرمقها بعيني دامعة * حتى بصرت بها تقبل عودا

____________

(1) البداية والنهاية 2 / 10.

(2) البداية والنهاية 4 / 10.

(3) البداية والنهاية 6 / 10.

الصفحة 382

عود الصليب فويح نفسي من رأى * منكم صليبا مثله معبودا
فسألت ربي أن أكون مكانه * وأكون في لهيب الجحيم وقودا (1)

وقال ابن كثير: قال القاضي أبو الفرج: أخبار الوليد كثيرة، قد جمعها الإخباريون مجموعة ومفردة، وقد جمعت شيئا من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرح به من الالحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأنزل عليه (2).

هذا هو الخليفة الذي يصدر القوانين، وقيل: الذي يقوم بأمر الدين، وقيل: صاحب الجماعة التي إذا خرج منها واحد مات ميتة جاهلية. فمن الذي يجرؤ أن يقيم الحد على الوليد أعلى سلطة في الدولة؟ إن الوليد ما كان يرتعد إلا من صوت الحق. كانت دقات قلبه تقشعر من رعدة الخوف، لهذا كان يبعث بمن يأتيه بخبر أي تحرك. وما أن يخبروه، حتى يصدر أوامره للجلادين وقطاع الطرق والرقاب، وعلى الأعواد تصلب الأجساد، وبعد ذلك يخرج الوليد إلى مستنقع الرجل الذي لا يقام للقتل وإنما للهو الذي خرج من معطف المرجئة الذين فصلوا الإيمان عن العمل.

وأفعال الوليد وأقواله لم تأت فجأة ولم تذهب سدى، فكما أن الوليد استلم مشاعلها فكذلك قام بتسليم مشاعلها وعلى امتداد هذا الطريق صلب أكثر من واحد من الذين عارضوا هذا العبث. وعن مشاعل الوليد يقول د. خليف:

إننا أمام ظاهره اجتماعية شديدة الخطر لمن يسبق للمجتمع الإسلامي أن شهد مثلها، فلأول مرة في تاريخ هذا المجتمع، نجد أنفسنا أمام خليفة ماجن متهتك خليع، نسي أنه أميرا للمؤمنين وأنه أمام المسلمين. فاندفع في حياة لاهية مستهترة حتى أطلق عليه " الخليع " والناس على دين ملوكهم. وفعلا اندفع كثير من الناس يقلدون خليفتهم. دون أن يجدوا في ذلك حرجا عليهم، أو يخشوا تنفيذ الحدود فيهم.. فإن الخليفة الوليد بن يزيد. لم يجد أحدا ينفذ فيه الحد،

____________

(1) البداية والنهاية 7 / 10.

(2) البداية والنهاية 7 / 10.

الصفحة 383
لأنه هو نفسه صاحب الحق الشرعي في تنفيذ الحدود، ولم يكن من المعقول أن ينفذ الحد في نفسه، ولم يكن من المعقول أيضا أن ينفذه فيه غيره (1).

إن الناس لم يشعروا بالخجل بفضل عقيدة المرجئة، والوليد لم يشعر بالخجل بفضل عقيدة الجبرية. وفي موجة الغناء والشعر والمجون استجاب كثير من الشباب إلى النداء، ومضوا يغرقون همومهم في هذه الحياة الصاخبة المعربدة، يقول د. خليف: وكثرت جماعات المجون، ودوت معزوفات ضخمة اشترك فيها مجموعات هائلة من العزاف. وعلى الجسر الذي يصل الشاطئين الأموي والعباسي أخذت جماعات من المجان والخلعاء تمر فوقه لتستقبل على الشاطئ الآخر الرذيلة. وقد تجردت من ثيابها جميعا. وبسطت ذراعيها إلى أقصاها، لتضم إلى أحضانها هؤلاء الوافدين من طلابها، وتبلغ الغاوية مداها، ويتساقط الشباب تساقط الفراش المتهافت على النار. وكلما اشتدت ظلمة الهاوية، زاد عدد المتخبطين فيها، وفي أعماقها السحيقة، مضت جماعات من الشعراء تضرب على غير هدى. وقد ألف اللهو بينهم، وربط المجون بين أسبابهم. كلهم فاسق، وكلهم خليع، وكلهم سكير. وهذه المدرسة اللاهية، هي التي أرست قواعد غزل النساء، وغزل الغلمان. فالغزل في هذه المدرسة لم يكن حديث العاطفة، وإنما كان حديث الغريزة، ولم يكن نجوى الروح. وإنما كان نداء الجسد. وعلى بناء هذه المدرسة كثرة طائفة الجواري والمغنيات في المجتمع الإسلامي، وعلى أكتاف هذه المدرسة انتشرت الزندقة ودقت أوتادها، وراج شعر الأديرة (2). وكان الوليد بن عقبة، وصاحبة أو زبيد النصراني أول من حفر الحفرة لهذه البذرة في عهد عثمان بن عفان.

فمع شعر الأديرة، ومع الجواري، سبحت الدولة الأموية في آخر أيامها، ثم قامت بتسليم هذه الآفة الاجتماعية إلى الدولة العباسية، حيث كثر الرقيق في هذه الدولة. وكانن الجواري والغلمان والإيماء فيها من أجناس وثقافات وديانات

____________

(1) حياة الشعر في الكوفة ص 205.

(2) المصدر السابق 633، 634.

الصفحة 384
وحضارات مختلفة. فأثر هذا في الحكام وأبنائهم. وكثر الجواري في القصور وكان بينهن من يعلقن الصلبان (1).

وكانت هذه الحلقة عضوا مهما في اتباع سنن الأولين، وعلى امتداد المسيرة التاريخية، ولم يقف خط علي بن أبي طالب من هذه الظاهرة وغيرها موقف الصامت. فمع بداية الدولة كان بنو العباس، وبنو علي كشئ واحد، وتكاتفوا سويا من أجل تقديم الصورة الأفضل لحركة المسلمين على طريق الإسلام. وعندما جاء عهد أبي جعفر المنصور آخر عام 136 ه‍ وتغير الحال.

فلقد أحاط المنصور نفسه بهالة كبيرة من القداسة، كان لها أسوأ الأثر في خنوع الناس، وخضوعهم للظلم والفساد. وفي ظل حكمه الاستبدادي لم يحسب أي حساب للرعية. يقول الحافظ السيوطي: قتل المنصور خلقا كثيرا حتى استقام ملكه، وهو الذي ضرب أبا حنيفة على القضاء، ثم سجنه فمات بعد أيام، وقيل إنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه (2). وإنه أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين وكانوا قبل شيئا واحدا (3). وقتل المنصور جماعة كثيرة من آل البيت، فإن لله وإنا إليه راجعون (4). وكان يقول: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو، لأن بني مروان لم تبل رمحهم. وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن من قوم رأونا أمس سوقه واليوم خلفاء. فليس تتمهد هيبتنا في صدروهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة (5) وفي عهد المنصور خرجت العديد من الرايات العلوية تطالب بأن تكون حركة المسلمين في عالم الاختبار حركة إسلامية ليفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.

وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله بن الحسن (عام 145 ه‍)، وكان يدعى بالنفس

____________

(1) العصر العباسي الأول / د. شوقي ضيف ص 21.

(2) تاريخ الخلفاء 241.

(3) تاريخ الخلفاء 243.

(4) تاريخ الخلفاء 243.

(5) تاريخ الخلفاء 248.


الصفحة 385
الزكية لزهده ونسكه، وبويع له في كثير من الأمصار. وتصدت جيوش الدولة لحركة محمد بن عبد الله، وانتهى الأمر بقتله لينضم إلى الشهداء الذين سبقوه وروي أن أبا جعفر المنصور جمع قادة حرسه وجيوشه وقال لهم: والله ما رأيت رجلا أنصح من الحجاج بن يوسف لبني مروان، فقال له المسيب بن زهير: يا أمير المؤمنين، ما سبقنا الحجاج بأمر تخلفنا عنه، والله ما خلق الله على جديد الأرض (1) خلقا أعز علينا من نبينا صلى الله عليه وسلم. وقد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك وفعلنا ذلك، فهل نصحناك أم لا؟ فقال له المنصور: اجلس لا جلست (2).

وهكذا عاد الحجاج من جديد، ولكن في عالم يغلب عليه حياة الجواري تلك الحياة التي خرجت بذرتها من غابة بني أمية ليستظل تحتها القادم الجديد.

وسارت أحوال خط علي بن أبي طالب في النظام العباسي بين أذى الدولة المكشوف، وبين أذى الطرق الخفية المضمونة النتائج والتي تتدثر في رداء من الطيبة الظاهرة. حتى جاء عهد المتوكل فأمر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور. يقول السيوطي: وكان المتوكل معروفا بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:

بالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمري قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما (3)

وقال السيوطي: قتل المتوكل يعقوب بن السكيت، الإمام في العربية، فإنه ندبه إلى تعليم أولاده، فنظر المتوكل يوما إلى ولديه. المعتز والمؤيد وقال لابن السكيت: من أحب إليك هما أو الحسن والحسين. فقال: قنبر مولى علي بن أبي طالب خيرا منهما. وعندئذ أمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه حتى مات،

____________

(1) جديد الأرض / وجهها.

(2) موج الذهب 364 / 3.

(3) تاريخ الخلفاء 321.

الصفحة 386
وقيل: أمر بسل لسانه فمات (1).

وهكذا جمع بني العباس في منتصف رحلتهم الهلع المروع إلى الخوف المرتجف وألقوه على خط الإمام علي بن أبي طالب. وعلى الرغم من ذلك ظل هذا الخط يعمل على امتداد الثلاثة قرون الأولى يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: " سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس خير؟ قال: قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم... " (2)، وفي رواية عدد أربعة قرون (3). وقال النووي: قال الحسن وغيره القرن عشر سنين، وقال قتادة:

سبعون، وقال النخعي أربعون، وقال زرارة: مائة وعشرون، وقال عبد الملك:

مائة (4).

والخيرية هنا لا تقاس بالفتوحات أو بالهجوم على المدينة أو مكة من أجل الملك، وإنما الخيرية عمودها الفقري هو دعوة الناس إلى الخير والعمل على إصلاح ما أفسدوه. والخيرية هي التي تعمل من أجل بناء الإنسان العابد الصالح أولا. لأن شرط التمكين في الأرض أن يكون العابد صالحين. قال تعالى:

(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) (5)، وشرط نزول البركات أن يكون الناس مؤمنين قال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (6). فالخيرية تسوق الناس إلى الله وتذكرهم بما نسوه، كي يرفع الله عنهم العذاب الذي تعددت أشكاله وألوانه، لأن من السنن الإلهية أن الذين نسوا ما ذكروا به، كان حقا على الله أن يفتح عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما

____________

(1) راجع كتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني (284 - 356 ه‍).

(2) رواه مسلم (الصحيح 85 / 16).

(3) مسلم (الصحيح 87 / 16).

(4) النووي شرح مسلم 85 / 16.

(5) سورة الأنبياء: الآية 105 - 106.

(6) سورة الأعراف: الآية 96.

الصفحة 387
أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) (1).

والخيرية لها أعلام ومشاعل روى الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون بعدي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش " (2). وروى الطبراني:

" لا يزال هذا الأمر ظاهرا على من ناوأه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضي اثنا عشر خليفة من قريش " (3)، وروى ابن عساكر: " لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمضي منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش " (4).

وروى نعيم بن حماد: " يكون بعدي من الخلفاء عدة نقباء موسى " (5).

والطريق إلى نقباء بني إسرائيل لا بد وأن يأخذ في حسابه منزلة هارون من موسى، ودائرة الخيرية لا يضرها من خذلها أو من عاداها أو من ناوأها. روى البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون. وهم أهل العلم (6) ولقد علمنا من هم أهل العلم الذين قاتلوا، ولم يقاتل أحد من أهل العلم من أجل إقامة الدين، أو على تأويل القرآن إلا خط علي بن أبي طالب. وروى مسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي من الله أمر الله وهم كذلك " (7). وفي رواية: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 44 و 45.

(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (كنز العمال 24 / 12) والبخاري بلفظ: يكون اثنا عشر أميرا فقال كلمة لم أسمعها. فقال أبي أنه قال: كلهم من قريش (الصحيح 248 / 4).

(3) رواه الطبراني (كنز العمال 23 / 12).

(4) رواه ابن عساكر (كنز العمال 32 / 12).

(5) كنز العمال 33 / 12 ورواه أحمد والحاكم (كنز العمال 33 / 12).

(6) البخاري (الصحيح 263 / 4) ك الاعتصام.

(7) مسلم (الصحيح 65 / 13) ك البهاء.

الصفحة 388
الناس " (1). وفي رواية عند الإمام أحمد والحاكم وأبو داوود بزيادة " حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وينزل عيسى بن مريم " (2). وكثير من الشراح ذكر أن أمر الله هنا هو المهدي المنتظر الذي ينزل عيسى بن مريم في زمانه. ومن المحفوظ أن المهدي من أبناء علي بن أبي طالب وفاطمة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان المهدي خاتمة فلا بد من البحث عن المقدمة لنعرف من هم أصحاب هذه الطائفة.

إن دائرة الخيرية دائرة أصيلة في الوجود، لم يكسرها ظلم بني أمية وبني العباس. ولا تعرف الدائرة بالكثرة، لأن الحق حق وإن قل أتباعه، والباطل باطل وإن كثر أتباعه. ولا يمكن لباحث أن يهمل الكثرة من هذه الأمة، وأن يحسبها ضمن مربع الحكام. فالتاريخ يشهد بأن الحكام كانوا في واد والجماهير في واد آخر. إن السواد الأعظم من الجماهير لم يلتف حول الحكام، وإنما انطلقوا في ربوع الأرض ينشرون الإسلام وتعاليمه السمحة التي تحتضنها فطرة الباحثين عن الحقيقة. لقد التفت الجماهير حول الزهاد الأوائل الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، وبنوا لهم الأضرحة بينما لم يلتفوا حول الطغاة ولم يسألوا عنهم أين دفنوا. وبصرف النظر عن شرعية بنا الأضرحة إلا أن هذا العمل كان تعبيرا مقصودا أو غير مقصود للنفسية الإسلامية المحتقنة من دائرة الحكام الذين فرضوا أنفسهم فرضا على الجماهير وساقوهم إلى عالم الجبرية والطاغوت.

إن الجماهير الإسلامية قامت بنشر الدعوة، وأقامت حضارة فطرية غير حضارة الملوك، وهذه الحضارة هي الباقية ولن تعلوا عليها حضارة حتى يأتي أمر الله.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net