متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ب - إفرازات فكرية
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ب - إفرازات فكرية:

ذكرنا فيما سبق المذاهب القديمة التي قامت في العصر الأموي، ونبتت

____________

(1) مسلم (الصحيح 67 / 13) ك الجهاد.

(2) (الفتح الرباني 210 / 23).

الصفحة 389
جذورها قبل ذلك. ونحن هنا سنلقي بعض من الضوء على مذاهب فكرية أخرى، كان لها الأثر البالغ بعد الدولة الأموية. ومن هذه المذاهب مذهب المعتزلة. يقول الشيخ أبو زهرة: نشأت هذه الفرقة في أواخر العصر الأموي.

وفي هذا الوقت دخل الإسلام طوائف من المجوس واليهود والنصارى وغير هؤلاء وأولئك، رؤوسهم ممتلئة بكل ما في هذه الأديان من تعاليم جرت في نفوسهم مجرى الدم. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويبطن غيره. إما خوفا ورهبة، أو رجاء نفع دنيوي، وإما بقصد الفساد والإفساد وتضليل المسلمين.

وقد أخذ ذلك الفريق ينشر بين المسلمين ما يشككهم في عقائدهم. وظهرت ثمار غرسهم في فرق هادمة للإسلام تحمل اسمه ظاهرا وهي معاول هدمه في الحقيقة... وقد تصدى للدفاع عن الإسلام أمام هؤلاء، فرقة درست المعقول وفهمت المنقول فكانت المعتزلة (1). ولم يجد المعتزلة من الأمويين معارضة.

لأنهم لم يثيروا شغبا عليهم ولا حربا. إذ أنهم كانوا فرقة لا عمل لها إلا الفكر وقرع الحجة، ووزن الأمور بمقاييسها الصحيحة. ومع أن الأمويين لم يعارضوهم فهم أيضا لم يعاونوهم (2).

ويختلف العلماء في أساس بذرة المعتزلة. فبعضهم يرى أنها ابتدأت في قوم من أصحاب علي بن أبي طالب اعتزلوا السياسة، وانصرفوا إلى العقائد عندما صالح الحسن معاوية، ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة. وبعضهم يرى أن رأس المعتزلة هو واصل بن عطاء... والمعتزلة في كتبهم يرون أن مذهبهم أقدم في نشأته من " واصل " ويعدون من رجال مذهبهم كثيرين من آل البيت (3). ويقول الشيخ أبو زهرة: والذي نراه أن المذهب أقدم من " واصل " وأن كثيرين من آل البيت قد نهجوا منهجه، كزيد بن علي الذي كان صديقا لواصل. ولكن واصلا من أبرز الدعاة، فكان عند الأكثرين رأسه لأنه أبرز

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية 131 / 1.

(2) المصدر السابق 132 / 1.

(3) المصدر السابق 124 / 1.

الصفحة 390
من دعا إليه (1).

ومذهب المعتزلة يقوم على أصول خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والتوحيد، هو لب مذهبهم وأس نحلتهم، فقالوا: إن الله واحد أحد. ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير. وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ودم، ولا شخص ولا جوهر ولا غرض. ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة. ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة. ولا طول ولا عرض ولا عمق. ولا اجتماع ولا افتراق. ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض. ولا بذي أبعاض وأجزاء. ولا جوارح وأعضاء. وليس ذي جهات. ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان. ولا يجري عليه زمان. ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة. ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشئ من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناه. ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات. وليس بمحدود ولا والد ولا مولود. لا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار. ولا تدركه الحواس. ولا يقاس بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه. ولا تجري عليه الأوقات. ولا تحل به العاهات، وكل ما يخطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له. ولم يزل أولا سابقا. متقدما للمحدثات. موجودا قبل المخلوقات. ولم يزل عالما قادرا حيا. ولا يزال كذلك لا تراه العيون. ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام. ولا يسمع بالأسماع.

شئ لا كالأشياء عالم قادر حي. لا كالعلماء القادرين الأحياء. وأنه القديم وحده. ولا قديم غيره. ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه. ولا معين له على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سابق. وليس خلق شئ بأهون عليه من خلقه شئ آخر. ولا بأصعب عليه منه. ولا يجوز عليه اجترار المنافع، ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات. ولا يصل إليه الأذى والآلام. ليس بذي غاية فيتناهى. ولا يجوز عليه

____________

(1) المصدر السابق 124 / 1.

الصفحة 391
الفناء. ولا يلحقه العجز والنقص. تقدس عن ملامسة النساء. وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء.

وقد بنوا على هذا الأصل استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، لاقتضاء ذلك الجسمية والجهة (1). أما قولهم في العدل بينه المسعودي في مروج الذهب فقال: هو أن الله لا يحب الفساد. ولا يخلق أفعال العباد. بل يفعلون ما أمروا به ونهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم. وأنه لا يأمر إلا بما أراد. ولم ينه إلا عما كره. وأنه ولي كل حسنة أمر بها. وبرئ عن كل سيئة نهي عنها (2). لم يكلفهم ما لا يطيقون. ولا أراد لهم ما لا يقدرون. وأن أحدا لا يقدر على قبض ولا بسط إلا بقدرة الله تعالى التي أعطاهم إياها. وهو المالك لها دونهم يفنيها إذا شاء. ولو شاء لجبر الخلق على طاعته. ومنعهم اضطرارا عن معصيته. ولكنه لا يفعل. إذ كان في ذلك رفع للمحنة وإزالة للبلوى.

وقد ردوا بهذا الأصل على الجبرية الذين قالوا: أن العبد في أفعاله غير مختار. فعدوا العقاب على ذلك يكون ظلما، إذ لا معنى لأمر الشخص بأمر هو مضطر إلى مخالفته، ونهيه عن أمر هو مضطر إلى فعله (3).

وفيما يتعلق بالعدل يقول الشيخ محمد خليل الزين: قال المعتزلة: إن الله عادل لا يصدر منه الظلم ولا يجدر أن يتصف به. وقالوا: إن الأجسام تدل بما فيها من العقول والنعم التي أنعم الله بها على خلقه، تدل أن الله لا يصدر منه الظلم والعقول تدل بأنفسها على أن الله ليس بظالم. ولا يجوز أن يجامع الظلم ما دل بنفسه على أن الظلم لا يقع منه تعالى.

والظلم والجور منفيان عنه، بدليل قوله تعالى: (وما ربك بظلام للعبيد).

وقد فرعوا على العدل غايات ثلاث:

____________

(1) المصدر السابق 126 / 1.

(2) استدلوا على هذا بقوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك).

(3) المصدر السابق 127 / 1.

الصفحة 392
الأولى: أن الله يسير بالخلق إلى غاية ومصلحة، وهو حكيم ولا يصدر من الحكيم فعل لا تكون فيه مصلحة وغاية. وتلك المصلحة عائدة للمخلوقين.

وسبحانه لا يفعل شيئا به غاية لنفسه. فالوجود ومن فيه يسير ويمشي وراء غاية ومصلحة. والغاية تختلف بحسب المعنى وأهميته، فتارة تكون ظاهرة المنفعة ففعلها صلاح، وتارة تكون خفية لا تدرك العقول مصلحتها، وهذه إما أن يقنع العقل بوجودها، أو يشكك، فإن شكك يجب تزن بالمقياس البرهاني، فإن توافقا وإلا وجب طرحها.

الثانية: من لوازم العدل، أن الأوامر والنواهي الشرعية، ذات حسن وقبح ذاتي. وهي قبل أمر الشارع فيها حسن وقبح ذاتي - فالوديعة إذا ردت فيها حسن ذاتي قبل أمر الشارع فالحسن والقبح في الموجودات من الأمور الذاتية. وقالوا:

إن العقل هو المرجح، فما حكم بقبحه فلا بد أن يأتي به نهي من الشارع.

فالحسن من مقومات الذات لأنه عرض يتحكم به الشارع. وقالوا: إنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى أمر الشارع. فإن كل عاقل يجزم بحسن الاحسان ويمدح فاعله، ويعلم بقبح الإساءة والظلم. وهذا الحكم ضروري لا يقبل الشك. وقالوا: لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا.

وقالوا: إن الله داعيا لفعل الحسن وليس له صارف عنه. وله صارف عن فعل القبيح وليس له داع إليه، وهو قادر على كل مقدور، ومع وجود المقدرة والداعي يجب الفعل. لأنه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح. ومن المعلوم بالضرورة، أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه. وأن العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا عن جهات المفسدة فإنه يوجد. وتحريره أن الفعل بالنظر لذاته ممكن وواجب النظر إلى علته، وكل ممكن مستند إلى قادر. وعلته تتم بواسطة القدرة والداعي، فإذا وجد ما تقدم تم السبب. وعند تمام السبب يجب وجود الفعل. ولو جاز فعل القبيح منه تعالى أو الاخلال بالواجب، لارتفع الوثوق بوعده ووعيده، وأمكن تطرف الكذب عليه تعالى. ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب. وذلك يقتضي الشك في صدق الأنبياء. وبطل الاستدلال بالمعجزة.


الصفحة 393
الثالثة: التي يتفرع على القول بالعدل مسألة الأفعال الصادرة منا، هل نفعلها باختيار أو نحن مسيرون إليها. فقد ذهبت المعتزلة إلى أن الإنسان مختار في أفعاله. وأن أفعال العباد مخلوقة لهم وهي من كسب أنفهسم... وشبهوا أفعال الإنسان بالحركة الاختيارية، فإن الإنسان يفعلها على اختياره. وفرعوا على هذا القول أن الإنسان لو لم يكن مختارا في أفعاله لما جاز عذابه على عدم امتثاله، لأن العذاب متفرع عن عدم امتثال الأوامر الممكن إثباتها بمطلق إرادة العبد. وقالوا: أن العقل لا يجوز أن يكلف الإنسان بالإتيان بشئ هو مسلوب القدرة عنه، فإن قصر بالإتيان بشئ مسلوب القدرة عنه يعاقب ويعذب فإن هذا تكليف بالمحال. وقالوا: إن الإنسان المسلوب الاختيار لا يأتي الوعيد بحقه لأن الوعيد إنما يجئ في المسائل المقدورة للإنسان. والمسائل التي لا قدرة للخلق على الإتيان بها يقبح العقل العقاب عليها. ولا معنى لأن يقال للعبد. افعل وهو مسلوب الاختيار.. إنما يصح لمن يكون له حرية الاختيار، هذا من الوجهة العقلية، وأما النقل فقد استدلوا على حجة دعواهم بالآيات القرآنية. مثل قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)، فهذه الآية من الآيات التي تذم عمل من الأعمال، وأما الآيات التي بها مدح للمؤمنين وذم للكافرين مثل قوله: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت اليوم تجزون بما كنتم تعملون) (1).

وقالوا في الوعد والوعيد: إن الوعد والوعيد نازلان لا محالة. فوعد الله بالثواب واقع. ووعيده بالعقاب واقع أيضا. ووعده بقبول التوبة النصوح واقع أيضا. وهكذا فمن أحسن يجازي بالإحسان إحسانا، ومن أساء يجازي بالإساءة عذابا أليما. فلا عفو عن كبيرة من غير توبة، كما لا حرمان من ثواب لمن عمل خيرا. وإن هذا فيه رد على المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. إذ لو صح هذا، لكان وعيد الله في مقام اللغو. قال

____________

(1) تاريخ الفرق ص 137، 138.

الصفحة 394
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا (1).

ومن قولهم في المنزلة بين المنزلتين: إن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة وعمل بالجوارح. وإن كل عمل فرضا أو نقلا هو إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيرا ازداد إيمانا، وكلما عصى نقص إيمانه.

فالإيمان مركب من أمور، فلو أخل المكلف بأحدها يسلب عنه اسم الإيمان. فلا يقال له مؤمن أو كافر. بل هو بمنزلة من المنزلتين. ومرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن. والكبيرة عندهم أنواع، منها ما تؤول إلى الكفر.

ومنها ما يطلق على مرتكبها اسم الفسوق فقط (2). ويقول الشيخ أبو زهرة: من اعتقادهم، أن العاصي من أهل القبلة في منزلة بين المنزلتين. يرون أنه لا مانع من أن يطلق عليه اسم المسلم تمييزا له عن الذميين لا مدحا ولا تكريما. وأنه في الدنيا يعامل معاملة المسلمين، لأن التوبة له مطلوبة. والهداية مرجوة. وقد قال في ذلك " ابن أبي الحديد " وهو من شيوخ المعتزلة: إنا وإن كنا نذهب إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا مسلما. نجيز أن يطلق عليه هذا اللفظ.

إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة وعابدي الأوثان، فيطلق مع قرينة حال أو لفظ يخرجه عن أن يكون مقصودا به التعظيم والثناء أو المدح (3).

ومن قولهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنهما واجبان عقلا ونقلا. ويذهبون إلى أنهما واجبان باللسان والقلب واليد، وقد فسر الزمخشري صاحب الكشاف. إلى أن الأمر بهما من فروض الكفاية، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره. وأن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلط في موضع اللين ويلين بموضع الغلظة. وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تحاديا. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب، وأما النهي عن المنكر

____________

(1) المصدر السابق 128 / 1.

(2) تاريخ الفرق الإسلامية / الزين ص 141.

(3) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 128 / 1.

الصفحة 395
كله لأن جميع المنكر تركه واجب، لاتصافه بالقبح وشرط الوجوب أن يغلب على ظنه وقوع المعصية (1)...

وقالوا في النبوة يقول فيه ابن أبي الحديد: إن الذي عليه أصحابنا، أن النبي منزه قبل البعثة. عما فيه تنفير عن الحق الذي يدعو إليه. وعما فيه غضاضة وعيب. مثل: الكفر أو الفسق، لأنا نجد أن التائب العائد إلى الصلاح بعد أن عهد منه السخف والمجون والفسق لا يقع بالمعروف ونهيه عن المنكر عند الناس موقعهما ممن لم يعهدوه، إلا على السعد والصلاح. كما أنه لا يجوز أن يكون محترفا بحرفة يستخفون الناس بصاحبها. هذا قبل البعثة، أما بعد البعثة.

فقد منع أصحابنا وقوع الكبائر منهم عليهم السلام أصلا. ومنعوا أيضا وقوع الصغائر المستخفة منهم (2).

مما سبق نعلم أن المعتزلة لم يهضموا نظرية الجبر، ونفوا القول بالقدر.

ورفضوا أن يكون الإنسان مجرد آلة صماء، لا رأي له ولا حرية ولا اختيار، إنما تسيره يد القضاء من وراء ستار، فأثبتوا أنهم يحترمون الحرية الفردية. حرية الفكر والعمل. ويقدرون المواهب العقلية. ويقول الشيخ / محمد خليل: وإني لأعتقد أن المعتزلة بنفيهم القدر عن أفعال العباد الاختيارية المكتسبة، قد أصابوا هدفين في وقت واحد، فإنهم لم ينفوا الظلم عن الله ودافعوا عن العدالة الإلهية فحسب، بل دافعوا أيضا عن الحرية الإنسانية. لأنهم اعتبروا الإنسان حرا في أفعاله فرفعوا من شأنه. وجعلوه مخلوقا عاقلا حرا جديرا بتحمل المسؤولية (3).

والمعتزلة لم تظهر شجرتهم في العهد الأموي على الرغم من أنهم بدؤوا في هذا العهد، فما كانت الدولة لتسمح بهذه الأفكار. وهي التي تحارب كل فكر لا يتفق مع سياستها. ولكن الشجرة بدأت في الظهور عندما شاخت الدولة الأموية، ثم تفرعت شجرتهم وأورقت عندما جاء العهد العباسي، ففي هذا العهد

____________

(1) تاريخ الفرق الإسلامية 143.

(2) المصدر السابق 145.

(3) المصدر السابق 134.

الصفحة 396
طم سيل الالحاد والزندقة. فوجد الخلفاء في المعتزلة سيفا مسلولا على الزنادقة لم يغلوه، بل شجعوهم على الاستمرار في نهجهم. ويقول الشيخ أبو زهرة: كان جدال المعتزلة بقوة وحسن دليل. وفصاحة وبيان وقدرة على الإقناع اكتسبوها من علومهم وممارستهم الجدال، حتى أن بعض خصومهم من غير المسلمين كانوا يسلمون بعد مناقشتهم، ولقد قال مؤرخوا المعتزلة: أن أبا الهذيل العلاف أسلم على يديه أكثر من ثلاثة آلاف رجل من من المجوس، لحذقه وبراعته في المناظرة، وقوة ما يدعو إليه وضعف ما يدعون إليه (1). وظل المعتزلة يحطمون أسوار الجهل الذي ألقي على كاهل الأمة من كل مكان، فلما جاء المأمون وقد كان يعتبر نفسه من علماء المعتزلة شايعهم وقربهم وأدناهم وجعل منهم حجابه ووزراءه. وكان يعقد المناظرات بينهم وبين الفقهاء لينتهوا إلى رأي متفق.

واستمر على ذلك حتى توفى سنة 218 ه‍ (2). ومن أقوال المأمون: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من هو دونه. وقال أيضا: لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو، ليذهب عنهم الخوف. ويخلص السرور إلى قلوبهم (3). وقال: أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى. وقال: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة، لأن غلبة القدرة تزول بزوالها. وغلبة الحجة لا يزيلها شئ. وقال: لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال (4).

وكان المأمون يقرب آل البيت إليه، وعلى رأسهم الإمام أبي الحسن الرضا رضي الله عنه. وروي أن المأمون أراد أن يقلد الرضا ولاية العهد من بعده، لتكون الخلافة في أفضل آل أبي طالب. ولكن الرضا أبى عليه إباءا شديدا لأسباب عديدة نراها. منها: أن قرار مثل هذا هو بمثابة قرار فوقي. وهذا لا يستقيم مع حركة أهل البيت التي لا تبحث عن الحكم وإنما تبحث عن الجماهير

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية 140 / 1.

(2) المصدر السابق 132 / 1.

(3) تاريخ الخلفاء 297، 298 / 1.

(4) المصدر السابق 308 / 1.

الصفحة 397
الذين يتحركون الحركة التي يحبوا أن يراهم الله فيها، فالإمام إذا هتف باسمه أهل القرى عليه أن يلبي النداء، ويسير بهم نحو طريق البركات لأن الحركة في أصولها العريضة حركة حجة في عالم الابتلاء، لينظر الله إلى عباده كيف يعملون. ومنها أيضا لا يختلفوا عن بني أمية من ناحية القتال على الملك.

وروي أنه في أيام المأمون أحصيت أولاد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين ذكر وأنثى وذلك عام مأتين. الكثير منهم على رأس العسكر وعلى بيوت المال، وكل منهم ينتظر دوره في الحكم. والإمام الرضا يرى أن لكل زمان حركة، ولكل أحداث فقه. وربما تتطلب هذه الحركة أن يجلس في دائرة الضوء، بينما تتطلب الأحداث أن لا يكون له أي نشاط ملحوظ.

وعندما أصر المأمون على أن يكون الرضا وليا للعهد، قال له الرضا: إني أجيبك إلى ما تريد على أني لا آمر ولا أنهي ولا أفتي ولا أقضي ولا أولي ولا أعزل. فأجابه المأمون إلى ذلك كله.

وعلى الرغم من أن الرضا لم يباشر أي سلطة إلا أن هذا لم يلق قبولا من بني العباس. يقول المسعودي: بايع المأمون للرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالعهد من بعده، فاضطرب من بمدينة السلام من الهاشميين. وعظم ذلك على أهل بغداد عامة، وعلى الهاشميين خاصة. لزوال الملك عنهم ومصيره إلى ولد أبي طالب، فأخرجوا الحسن بن سهل وكان خليفة المأمون على العراق. وبايعوا المنصور بن المهدي، فلم يتم له أمر، وكان مضعفا فبايعوا أخاه إبراهيم بن المهدي بالخلافة لخمس من المحرم سنة 202 ه‍، ودعي له على المنابر بمدينة السلام وغيرها، فوجه الجيوش لمحاربة الحسن بن سهل خليفة المأمون على العراق، وهو يناجيه المدائن، فكانت الحروب بينهم سجالا سنة 201 ه‍ (1). ومات الإمام الرضا عام 203 ه‍. وقيل قتل (2). وبعد وفاة المأمون عام 218 ه‍. بدأت شجرة المعتزلة

____________

(1) التنبيه والإشراف 318 / 1، دول الإسلام / الذهبي 113.

(2) قال المسعودي: قبض الرضا بطوس لعنب أكله وقيل أنه كان مسموما (مروج الذهب =

الصفحة 398
تجف. وعندما جاء عهد المتوكل سنة 232 ه‍ يقول المسعودي: أمر المتوكل يترك النظر والمباحثة في الجدال. والترك لما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق والمأمون وأمر الناس بالتسليم والتقليد وأمر شيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة (1). وبايع المتوكل لبنيه الثلاثة: محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، والمستعين بالله. وفي ذلك يقول ابن المدبر في ذكره لهذه البيعة:

يا بيعة مثل بيعة الشجرة * فيها لكل الخلائق الخيرة
آلدها جعفر وصيرها * إلى بنيه الثلاثة البررة (2)

وفي ذلك يقول علي بن الجهم:

قل للخليفة جعفر يا ذا الندى * وابن الخلائف والأئمة والهدى
لما أردت صلاح دين محمد * وليت عهد المسلمين محمدا
وثنيت بالمعتز بعد محمد * وجعلت ثالثهم أعز مؤيدا (3)

وفي عام 235 ه‍ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور، وخرب وبقي صحراء. يقول السيوطي: وكان المتوكل معروفا بالتعصب (4).

وسارت الأمور بعد المتوكل إلى ما ذكرناه. يقول الدكتور أحمد أمين: إن السلطات الحكومية من عهد المتوكل. قد تخلت عن نصرة المعتزلة، وأغلب الناس يمالؤون السلطة أينما كانت ويخافون أن يعتنقوا مذهبا لا ترضاه. فهربوا من الاعتزال إلى من يهاجم الاعتزال (5). وفي أثناء ذلك، ظهر أبو الحسن الأشعري، الذي ولد بالبصرة عام 260 ه‍. وكان قد التحق بالمعتزلة مبكرا

____________

= 233 / 4).

(1) مروج الذهب 98 / 3، دول الإسلام 126 / 1.

(2) المصدر السابق 100 / 4.

(3) المصدر السابق 100 / 4.

(4) تاريخ الخلفاء 321 / 1.

(5) تاريخ الفرق الإسلامية ص 150.

الصفحة 399
ودرس مذهب الاعتزال على الجبائي رئيس معتزلة البصرة أربعين سنة (1). وظل الأشعري يؤمن بآراء أستاذه ويناضل عنها بحماس، ولكن الناس شاهدوا عليه تغييرا مفاجئا، حيث اعتكف في منزله بضعة أيام لا يرى أحد. ثم خرج على إثر ذلك فصعد المنبر في وسط جموع حاشدة من الناس ثم قال بعد أن نزع عباءته:

إني كما خرجت من هذه العباءة، أعلن برائتي من كل أخطائي السابقة، وأصرح بأن جميع آرائي الماضية باطلة (2). ويقول الشيخ أبو زهرة: إن الأشعري وجد من نفسه ما يبعده عن المعتزلة، مع أنه تغذى من موائدهم. ونال من ثمرات تفكيرهم، ثم وجد ميلا إلى آراء الفقهاء والمحدثين، مع أنه لم يغش مجالسهم ولم يدرس العقائد على طريقتهم (3).

وبدأ الأشعري يشن هجومه على المعتزلة. يقول الصعيدي في كتاب المجد دون في الإسلام: أنه كان الأجدر بالأشعري ألا يتنكر لمذهب مكث معتنقا صوابه أربعين سنة، كل هذا التنكر، لأنه بلا شك كان مخلصا في اعتقاده له كل هذه المدة، بل كان له وجهه من النظر يعتمد عليها فيه. ويرى معها أنه لا تنافي في الإسلام إن لم يكن هو الإسلام، فلا يصح أن ينفي الإسلام عن المعتزلة أو يقال أنهم فساق مسلمون، وإنما هم يثابون على صوابهم ويعذرون في خطأهم.

وقد انتفع) بهم خلقا كثيرا.. لم يكن من اللائق أن يبالغ في خصومتهم بعد مخالفته لهم لأنهم كانوا أساتذته (4). ويقول الدكتور حمودة في كتابه الأشعري:

كثير من الباحثين تعرض لأسباب تحول الأشعري. ويذكره ناقدوه تبعا لبعض الروايات عن معاصريه، أنه كان خاضعا في ذلك لضغط من أفراد أسرته، كما يحاول البعض الآخر تعليل ذلك برغبة إلى الحسن أن يستغل كراهة الشعب للمعتزلة، وأن يظفر بالبطولة والمجد على حسابهم (5).

____________

(1) تاريخ بغداد 347 / 11.

(2) تاريخ الفرق الإسلامية، ص 151.

(3) تاريخ المذاهب الإسلامية 160 / 1.

(4) تاريخ الفرق الإسلامية ص 152.

(5) المصدر السابق 153 / 1.

الصفحة 400
وإذا كانت هذه مقدمة الأشعري، فيحب أن نلقي نظرة على النتيجة. يقول الشيخ أبو زهرة: وقد نال الأشعري منزلة عظيمة. وصار له أنصار كثيرون ولقي من الحكام تأييدا ونصرة. فتعقب خصومه من المعتزلة وغيرهم. وبث أنصاره في الأقاليم يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيها. ولقبه أكثر علماء عصره بإمام أهل السنة والجماعة (1). وقد استمرت عقيدة الأشعري وكتب لها البقاء (2). وإذا كنا قد عرفنا بداية الحركة ونتيجتها الخاصة بالأشعري، فإننا نلقي هنا بعض الضوء على هذه العقيدة.

يقول الشيخ أبو زهرة: إن الأشعري جاء لإحياء آراء الإمام أحمد بن حنبل في نظره إذ يعتبر منهاجه هو منهاجه (3). وأنه يرى أن ما يعتقده هو رأي الإمام أحمد. ويعتبره الإمام المقدم والعالم المفهم (4). وأن الدارس لحياة الأشعري يجد أن الذي يتفق مع اطلاعه هو أن يختار مذهبا وسطا (5). فرأيه في الصفات وسط بين المعتزلة ومعهم الجهمية، وبين الحشوية والمجسمة. فالأولون نفوا الصفات ولم يثبتوا إلا الوجود والقدم والبقاء والوحدانية، ونفوا السمع والبصر والكلام وغيرها من الأوصاف الذاتية، وقالوا: ليست شيئا غير الذات وإنها في القرآن أسماء لله تعالى كالرحمن والرحيم. وجاء الأشعري فأثبت الصفات التي وردت كلها في القرآن والسنة، وقرر أنها صفات تليق بذات الله.. فسمع الله ليس كسمع الحوادث وبصره ليس كبصرهم وكلامه ليس ككلامهم.

ويقول الشيخ خليل الزين في هذا المجال: وجاء في دائرة المعارف الإسلامية. أن الأشعري خالف المعتزلة بقوله: إن لله صفات أزلية مثل العلم والبصر والكلام. وأنه عالم بعلم بصير يبصر متكلم بكلام وينكر المعتزلة أن لله

____________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية 168.

(2) تاريخ الفرق الإسلامية 164.

(3) تاريخ المذاهب الإسلامية 162.

(4) المصدر السابق 165.

(5) المصدر السابق 165.

الصفحة 401
صفات ويقولون: أنه عالم بذاته متكلم بذاته. وقالت المعتزلة إن ما جاء في القرآن الكريم مثل: يد الله ووجهه يجب أن تفسر على أنها لطفه وذاته، أما الأشعري فمع تسليمه بأنه ليس ذلك شئ من المفهوم التجسيدي فإنه يرى أن هذه الصفات حقيقة لا نعلم طبيعتها بدقة. وهو يرى مثل هذا الرأي مثل استواء الله على العرش. فهو يقول إن الاستواء على العرش ليس معناه الاستيلاء أو القهر أو الغلبة، بل المراد الاستواء حقيقة، وليس للمعتزلة أن ينكروا ذلك.

إذ كيف يجوز لهم أن يسلموا بوجود الله في كل مكان وينكرون أنه عليه العرش.

ويقول: لو كان الاستواء على العرش هو القدرة والاستيلاء لما كان هناك فارق بين العرش والأرض (1).

أما عقيدته في مرتكب الكبيرة، يقول الشيخ أبو زهرة: وبالنسبة لمرتكب الكبيرة قال المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعته إذا لم يتب عن كبيرته لا يخرج من النار. وقال المرجئة: من أخلص لله وآمن فلا تضره كبيرة مهما تكن. فسلك الأشعري طريقا وسطا وقال: المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله النار (2).

وأما عقيدته في قدرة الله يقول الشيخ أبو زهرة: ورأيه في قدرة الله وأفعال الإنسان وسط بين الجبرية والمعتزلة. فالمعتزلة قالوا: أن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه بقوة أودعها الله تعالى إياه. والجبرية قالوا: أن الإنسان لا يستطيع إحداث شئ ولا كسب شئ، بل هو كالريشة في مهب الريح فقال الأشعري:

إن الإنسان لا يستطيع إحداث شئ ولكن يقدر على الكسب (3).

وبالنسبة لرؤية الله يوم القيامة يقول الشيخ أبو زهرة: قال المعتزلة: الله سبحانه وتعالى لا يرى... وقال الأشعري، يرى من غير حلول ولا

____________

(1) تاريخ الفرق الإسلامية 158.

(2) تاريخ المذاهب ص 167.

(3) المصدر السابق 166.

الصفحة 402
حدود (1). ويقول الشيخ خليل الزين: نزه المعتزلة ذات الباري عن كل آفة.

وعرضوا واستدلوا على صحة دعواهم بالكثير من الأدلة. نفوا رؤية الباري تعالى بنفي الجسمية، فإذا انتفت الجسمية انتفت الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية، لأن المرئي له حيز وجهه وشكل، والجميع محال تحققها في ذات الله.

نفوا الجسمية بقولهم: أن كل جسم حادث ومحتاج إلى الإعراض، وأن الذي لا يتخلى عن الحوادث لا بد أن يكون حادثا. نفوا الرؤية بالدليل العقلي والنقلي بقول تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك) وقوله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: (لن تراني) فأدلتهم في التوحيد مركبة من العقلية والنقلية (2). وذهب الأشعري إلى جواز رؤية الله تعالى في الآخرة، وقال: إن كل موجود يصح أن يرى. فإن المصحح للرؤية هي إنما هو الوجود. والباري موجود فيصح أن يرى (3).

ويقول الشيخ أبو زهرة: وبالنسبة للألفاظ التي وردت موهمة للتشبه في القرآن مثل... (يد الله فوق أيديهم)، وقال المعتزلة: المراد سلطان الله فوقهم.

وقال الحشوية: يده يد جارحة. وقال الأشعري: يده يد تليق بذاته (4).

كانت هذه أهم ملامح مذهب الأشعري. ويقول الشيخ أبو زهرة: وجاء من بعد الأشعري علماء يخالفونه. فابن حزم يعد الأشعري من الجبرية، لأن رأيه في أفعال الإنسان لا يثبت الاختيار للعبد (5)، وعن منهج الأشاعرة يقول الدكتور محمود قاسم في كتاب مناهج الأدلة في عقائد الملة: إنهم أنكروا ضرورة وجود الغاية والحكمة والصلاح في العالم. وحقروا من شأن العقل في التفرقة بين الحسن والقبيح. وزعموا أن الشرع لو مدح الكاذب لكان حسنا ولو ذم الصدق

____________

(1) المصدر السابق 166.

(2) تاريخ الفرق 136.

(3) المصدر السابق 156.

(4) تاريخ المذاهب 166.

(5) تاريخ المذاهب الإسلامية 199.

الصفحة 403
لكان قبيحا، كذلك نفت هذه المدرسة أن يكون للفرد حرية واختيار وقدرة على خلق أفعاله. ومع ذلك فهي ترى أنه من الممكن أن المكلف الكافر بالإيمان مع عدم استطاعته له. بناء على إرادة الله ومشيئته (1) ومما سبق يمكن القول أن الاختلاف بين المذاهب قد وقع. وأن هناك من أصاب الحقيقة أو اقترب منها. وأن هناك من ابتعد عنها وقطع شوطا كبيرا في عالم الفتنة والتأويل. ذلك العالم الذي يدخله الذين في قلوبهم زيغ. وأن العمود الفقري لهذا الاختلاف، تلك الآراء التي تعارض بعضها بعضا فيما يختص بمعرفة الله عز وجل. بمعنى أن الاختلاف في معرفة الله هو عمدة الاختلافات.

والله تعالى لم يترك معرفته للعباد كي يقولوا فيها بآرائهم، وإنما بعث الأنبياء والرسل ليبينوا ذلك لأممهم، لأن الهدف من خلق الجن والإنس أن يعبدوا الله.

ولا تصح عبادة لله إلا بمعرفة الله. فالمنحرفين من أهل الكتاب يعبدون الله، ولكنهم انحرفوا عن المعرفة الحقة. فأصبحت العبادة هباء ضائع في خلاء.

. في رأينا أن أسباب هذا الاختلاف، يعود إلى إبعاد الراسخين في العلم عن مزاولة عملهم الرسالي وسوق الناس إلى صراط العزيز الحميد، لينالوا سعادة الدنيا بما يتوافق مع الكمال الأخروي. وهذا الاختلاف يصرخ في أعمال الوجود. إن الكتاب لو كان في غير حاجة إلى الراسخين في العلم أصحاب التأويل، لأجمع الناس على مدلوله ولم تفترق الأمة. ولكن الاختلاف قد وقع عندما جلس الذين يحتاجون إلى التعليم والإرشاد على المقاعد الأولى. ليصبحوا قرين القرآن الذي اشتمل تبيان كل شئ، وأول هذه الأشياء معرفة الباري جل وعلا. ولقد تحدثنا من قبل أن الله تعالى جعل المودة والرحمة بين الزوجين. لتكون أرضية إنشاء البيت المسلم وانتصارا للفطرة. وأخر مودة ذي القربى أجرا للرسالة الخاتمة. والفرق بين المودة بين الزوجين وبين مودة ذي القربى، أن الأولى مجعولة داخل النسيج الإنساني. أما الثانية فمأمور بها لتكون حركة لينظر الله إلى عباده كيف يعملون. فالدائرة الأولى وقود للدائرة الثانية،

____________

(1) تاريخ الفرق الإسلامية 157.

الصفحة 404
وكل دائرة هي حجة بذاتها على الإنسان.

وعندما أبعد أهل العلم الذين رفعهم الله درجات وجعلهم قرين الكتاب ولا ينفصلا حتى يردا على الحوض. والله يزكي من يشاء. عندما أبعدوا وانتهى المطاف بعدم رواية الحديث. وظهور الذين وضعهم الرسول في دائرة التحذير، بعد أن خمد التحذير منهم في عالم اللارواية، بدأ هؤلاء يضعون الحديث على رسول الله. ومن هذه التربة خرجت القدرية والجبرية والمرجئة وغيرهم، فكل مذهب كان له وقوده من الحديث والتأويل. ويشرف على أكثرهم علماء أهل الكتاب الذين لا يتركون فتنة إلا سارعوا إليها. ومن تربة الأحاديث الموضوعة جاء اختلاف الرواية والفتيا والسيرة والأخلاق وطريق الهداية والإرشاد وكل شئ، ونحن نرى أن الكثير من الحديث وضع الخدمة أصحاب المقاعد الأولى وتحقيق أهدافهم. وأن الكثير من الحديث الصحيح تم تأويله لخدمة نفس الأهداف، التي منها اتخاذ مال الله دولا ودين الله دخلا وعباد الله خولا، وأول خطوة لتحقيق هذه الأهداف كانت فتح باب المواجهة مع أهل البيت ولا اختلاف ولا خلاف بين أهل العلم على أن عليا كان مصيبا في قتاله لأهل البغي وأن أهل البغي عندما ركبوا على رقبة الأمة قاموا بسب الإمام على منابرهم وقتلوا أتباعه، ثم فتحوا الأبواب أمام أغيلمة قريش الذين أقاموا لجعل الإمام على المجازر.

لقد كان أهل البيت حلقة وجهوا إليها الضربات ليكون الطريق أمام الحلقة الثانية مفتوحا فتوجه إليها الضربات بما يستقيم معها، وبما يتقبله العامة في هدوء. وذلك بطرح مجموعة من الأحاديث يكون الهدف منها التقليل من شأن النبوة ومن تحت عباءة ثقافة التقليل يحققون هدف التماس الأعذار. بمعنى إذا كان هذا هو شأن النبي فلا عصمة لأحد. ومن هذا الباب تلتقي هذه الأعذار مع العقائد التي تشرف عليها الدولة. بمعنى يكفي أن يكون قلبك عامرا بالإيمان وأنت على طريق ضاعت فيه الصلاة.

روي البخاري عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة. وعدلت الصفوف قياما. فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب. فقال لنا: مكانكم. ثم رجع فاغتسل. ثم خرج إلينا ورأسه يقطر.


الصفحة 405
فكبر فصلينا معه (1). وروى البخاري عن أبي هريرة قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر. فسلم. فقال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت؟ قال النبي: لم أنس ولم أقصر. فقال ذو اليدين: بلى قد نسيت (2).

وفي رواية: فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال النبي: أصدق ذو اليدين قال الناس: نعم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم... الحديث (3).

وروى البخاري أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال النبي: والله ما صليتها... الحديث (4). وروى البخاري عن قتادة قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله. قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة. فقال بلال: أنا أوقظكم فاضطجعوا. وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام.

فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم. وقد طلع حاجب الشمس. فقال: يا بلال أين ما قلت... الحديث (5).

روى مسلم عن عائشة: اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رقد ناس واستيقظوا. ورقدوا واستيقظوا فقام عمر بن الخطاب فقال: الصلاة. وفي رواية:

الصلاة نام النساء والصبيان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان لكم أن تنزروا رسول الله على الصلاة.. الحديث (6). معنى ما كان لكم أن تنزروا:

أي تلحوا عليه فيها.

____________

(1) البخاري (الصحيح 60 / 1) ك الغسل.

(2) البخاري (الصحيح 212 / 1) ك الكسوف باب ما جاء في السهو.

(3) البخاري (الصحيح 212 / 1) ب ما جاء في السهو.

(4) البخاري (الصحيح 112 / 1).

(5) البخاري (الصحيح 112 / 1) ك الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت.

(6) رواه مسلم (137، 138 / 5 الصحيح)، في كتاب المساجد وقت العشاء.

الصفحة 406
ولم يقتصر نسيان النبي كما قالوا على الطهارة وعدد الركعات والصلاة في وقتها، وإنما شمل النسيان أشياء أخرى. روى البخاري عن عائشة قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ القرآن. فقال: يرحمه الله. لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا (1) وفي رواية يرحمها الله لقد اذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا (2).

لا حرج على أصحاب المقاعد الأولى في نسيان كل شئ ما دام القلب عامرا بالإيمان وهذا باب كبير في عقيدة المرجئة التي نسجت خيوطها على حساب الدعوة. إن هذه الأحاديث وغيرها تم تأويلها لخدمة أهداف الذين ضيعوا الصلاة، ثم كيف يجري على النبي صلى الله عليه وسلم النسيان وهو القائم بدعوة الناس إلى صراط العزيز الحميد. وما هي الحكمة من محافظة عمر بن الخطاب على الصلاة بينما رسول الله إما ناسيا أو نائما.

ولم يقفوا في التأويل عند هذه الأحاديث وإنما ذهبوا إلى أبعد من هذا.

روى البخاري عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أن يفعل الشئ وما فعله.. الحديث (3). كيف تكون هناك قدرة للساحر على نبي الله ورسوله؟ كيف والله تعالى نفى السحر عن رسوله فقال: (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) (4).

ومن دائرة السحر هبطوا، فرفعوا بعض الصحابة على مقام النبوة. ليعطوا لأنفسهم المبرر في ركوب رقبة الأمة مع وجود السابقين عليهم والأفضل منهم.

روى البخاري: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه

____________

(1) البخاري (الصحيح 233 / 3) في فضائل القرآن باب نسيان القرآن.

(2) البخاري (الصحيح 233 / 3).

(3) البخاري ك الطب باب هل يستخرج السحر (الصحيح 20 / 4).

(4) سورة الفرقان: الآية 7، 8.


الصفحة 407
وسلم. وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب (1)، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخل عمر ورسول الله يضحك!! فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. قال النبي: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. فقال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله.. فقال رسول الله: إيها يا ابن الخطاب. والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك (2). وروى الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا. فسمعنا لغطا وصوت صبيان. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا حبشية تزف والصبيان حولها. فقال النبي: يا عائشة تعالي فانظري. فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعلت أنظر إلى ما بين المنكب إلى رأسه فقال لي: أما شبعت. فقلت، لا. لأنظر منزلتي عنده. إذ طلع عمر بن الخطاب. فأرقص الناس عنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر.. الحديث (3). وروى البخاري عن عائشة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم. وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على الفراش وحول وجهه. فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعهما... الحديث (4).

وهكذا رأينا رواية يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: والذي

____________

(1) إن المبادرة بالحجاب لازمة عند دخول الأجنبي سواء كان عمر أولا. هذا إذا كانت هذه الواقعة بعد نزول آية الحجاب، أما إذا كانت قبل نزول آية الحجاب، فما الداعي لأن يقمن ويبادرن الحجاب. كان يكفي القيام ولا حاجة للحجاب (السندي شرح البخاري 294 / 1).

(2) البخاري (الصحيح 294 / 2) ك بدء الخلق ب مناقب عمر.

(3) رواه الترمذي وصححه (الجامع 622 / 5).

(4) البخاري ك الجهاد والسير، باب الدرق (الصحيح 154 / 2).

الصفحة 408
نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك. ورأينا في رواية أن النبي نسي كم صلى، وعند البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى. فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس (1)، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد إلا ومعه شيطان. قالوا:

وأنت يا رسول الله. قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم (2) - وفي رواية بزيادة: فلا يأمرني إلا بخير (3). ويا للعجب عمر يفر الشيطان منه. بينما يأمر النبي بخير. كيف والله تعالى هو الآمر ولا آمر سواه. قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) (4). كيف وليس للشيطان على الرسول سبيلا. قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى). ومنذ متى والشيطان يأمر بالخير والله تعالى يقول: (فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) (5). وقال: (إن الشيطان كان للرحمن عصيا) (6). وقال: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) (7). وقال: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) (8). أما خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول له الباري تبارك وتعالى: (وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم) (9). ويقول له: (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) (10).

____________

(1) البخاري ك الكسوف باب إذ لم يدر كم صلى (الصحيح 213 / 1).

(2) رواه مسلم (كنز العمال 247 / 1).

(3) رواه أحمد ومسلم (كنز العمال 247 / 1).

(4) سورة يوسف: الآية 40.

(5) سورة النور: الآية 21.

(6) سورة مريم: الآية 44.

(7) سورة الفرقان: الآية 29.

(8) سورة الشعراء: الآية 221 - 222.

(9) سورة الشعراء: الآية 217 - 220.

(10) سورة الحجر: الآية 98 - 99.

الصفحة 409
ولم تقف الحركة عند زمن البعثة حيث فضلوا على النبي بعض صحابته.

وإنما تتبعوا الحركة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقدموا مواقف ترفع من شأن الباحثين عن الحقيقة أمثال زيد بن عمرو بن نفيل. روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو قبل أن ينزل الوحي على النبي. فقدم إليه النبي سفرة. فأبى زيد أن يأكل منها وقال: إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه (1).

وروى الديلمي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " سمعت زيد بن عمرو، يعيب أكل ما ذبح لغير الله فما ذقت شيئا ذبح على النصب حتى أكرمني الله تعالى بما أكرمني به من رسالته (2). وكما أظهروا فضل زيد بن عمرو. أظهروا فضل قس بن ساعدة الأيادي، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله قسا كأني انظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا أحفظه " (3).

كيف وهو النبي الأعظم الذي اصطفاه على أرضية الجذور الطاهرة. لقد قال النبي الأعظم: إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة. ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقه. ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة. ثم جعلهم بيوتا تجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا (4). كيف وقد سألوه: يا رسول الله هل أتيت في الجاهلية شيئا حراما؟ قال: لا (5). وقيل له: هل عبدت وثنا قط؟ قال: لا، قالوا: فهل شربت خمرا قط؟ قال: لا. وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب (6).

____________

(1) البخاري ك بدء الخلق ب حديث زيد بن عمرو (الصحيح 316 / 2).

(2) الديلمي (كنز 79 / 12).

(3) الأزدي (كنز 77 / 12).

(4) رواه الترمذي وصححه (الجامع 584 / 5).

(5) رواه ابن عساكر (كنز 348 / 12) وقال الهيثمي رواه الطبراني في الثلاثة (الزوائد 226 / 8).

(6) رواه أبو نعيم (كنز العمال 406 / 3.)

الصفحة 410


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net