متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
1 - آراء....
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

1 - آراء....:

* نلقي الضوء هنا على رأي شيخ المسلمين أحمد بن تيمية في الأحداث التي عصفت بالأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد بينا رأي الشيخ أبي زهرة في ابن تيمية حامل لواء مذهب السلفية. وكذا رأي ابن حجر الهيثمي (909 - 974 ه‍) الذي ذكر أن ابن تيمية قال: إن عليا أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان " (2)، وقبل أن نقدم رأي ابن تيمية في الأحداث نرى من الضروري أن نلقي بعض الضوء على حركته في عصره. ذكر ابن كثير في البداية والنهاية:

أن العلماء كان منهم من يحسده لتقدمه عند الدولة ومنهم من كان يبغضه لآرائه، وذكر أنه خلال اجتياح التتار لدمشق اجتمع ابن تيمية مع أعيان البلد واتفقوا على

____________

(1) الكشاف / للزمخشري 150 / 2، نهج البلاغة خطبة 317 / 4.

(2) الفتاوى الحديثية 116.

الصفحة 441
المسير إلى القائد التتاري وأخذ الأمان منه لاهل دمشق، وأعطاه القائد الأمان، ونزلت خيول التتار إلى المدينة وطلبوا السلاح والأموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وعندما قام التتار بالتخريب في المدينة وما حولها ذهب ابن تيمية إلى ملك التتر وعاد بعد يومين، وفي هذه الفترة كان التتار قد قتلوا الكثير من الفقهاء والمشايخ وعلى وجه الخصوص في دير الحنابلة (1). ويقول ابن كثير:

وفي جمادى الأولى وقع بيد نائب سلطان المسلمين كتاب فيه: إن الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري. وجماعة من الأمراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبونهم، ويريدون تولية قبجق على الشام. وأن الشيخ كمال الدين الزملكاني يعلمهم بأحوال الأمير. ثم ذكر ابن كثير أن هذا الكتاب مزور (2). فزيارات ابن تيمية كلها للتتار كانت في صالح الإسلام والمسلمين. وذكر ابن كثير: عندما حضر ابن تيمية إلى القاهرة، اشتكى منه الصوفية وردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي. فعقد له مجلسا. وفي أثناء ذلك قال ابن تيمية: لا يستغاث إلا بالله ولا يستغاث بالنبي. فرأى القاضي الشافعي أن هذا فيه قلة أدب، وحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة. فقال القاضي: " قد قلت له ما يقال لمثله " (3).

ورأى ابن تيمية في الأحداث نبدأه من عقيدته في أهل البيت. يقول: آية التطهير ليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم (4)، وقال في حديث الكساء: إن مضمون هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا. وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. واجتناب الرجس واجب على المؤمنين والطهارة مأمور بها كل مؤمن (5)، والسابقون

____________

(1) البداية والنهاية 7، 8، 9، 22، 45 / 14.

(2) وهذه التهمة ظلت لصيقة بابن تيمية وعالقة في أذهان شيوخ عصره.

(3) المصدر السابق 49 / 14.

(4) منهاج السنة 117 / 2.

(5) المصدر السابق 4 / 3.

الصفحة 442
الأولون لا بد وأن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور. وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم (1)، ثم يقول في آية المودة: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (2)، قال: إيجاب المودة غلط (3) ثم بدأ يفسر حتى استقر عند قوله: ثبت أن الصديق كان أتقى الأمة بالكتاب والسنة وتواتر عن النبي أنه قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وقال في آية المباهلة: (قل تعالوا ندع أبناءنا) لا يقتضي أن يكون من باهل بهم الرسول أفضل من جميع الصحابة (4).

ثم يقول في الأحداث مبررا لاقتحام أبي بكر لبيت فاطمة بعد أحداث السقيفة: غاية ما يقال: إنه كبس البيت لينظر هل فيه شئ من مال الله الذي يقسمه لكي يعطيه لمستحقه، ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفئ (5). لاحظ أن ابن تيمية لا يقول إلا رأيا ولا يستند في ذلك على حديث أو أثر وهذا من شأنه في رؤيته للتاريخ. ثم يقول عن عهد عمر: كان عمر يسوغ التفضيل من الصحابة في العطاء للمصلحة. فهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقبله (6)، ثم يقول في قتل عمر: وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر. وهو أعظم مما فعله ابن ملجم بعلي وما فعله قتلة الحسين به. فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر. وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم (7). وقال:

إن عمر لما فتح الأمصار بعث علماء الصحابة إليهم لبث العلم. واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين. ولم يكن ما بلغه علي بن أبي طالب للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ وأمثالهما. ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن

____________

(1) المصدر السابق 4 / 3.

(2) سورة الشورى: الآية 23.

(3) منهاج السنة 8 / 1.

(4) منهاج السنة 35 / 4.

(5) المصدر السابق 220 / 4.

(6) المصدر السابق 153 / 3.

(7) المصدر السابق 137 / 3.

الصفحة 443
علي بن أبي طالب لبطل عامة الدين لأنه لم ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود (1).

وإذا كان ابن تيمية يعتقد بأن الله أذهب الرجس من الصحابة وطهرهم تطهيرا على الرغم من قول الله تعالى للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) (2)، وقوله في أئمة الكفر: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) (3)، وعلى الرغم من أن بعض الصحابة رموا فراش رسول الله بحديث الإفك وعلى الرغم من حديث البخاري الذي يصرح بارتداد بعضهم بعد وفاة الرسول، فإن ابن تيمية فتح أبواب الجنة واعتبر أن جميع الجرائم التي حدثت بعد وفاة الرسول. كانت نابعة من الاجتهاد ولا عقاب على الذين ارتكبوها يوم القيامة، وهذا تطرف في الرأي يفوق تطرف المرجئة في رأينا على الأقل، يقول ابن تيمية: إن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة... وأهل السنة يقولون: إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ بل ولا عن الذنب. بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيرا أو كبيرا ويتوب منه، ولو لم يتب فالصغائر تمحى باجتناب الكبائر. بل أن الكبائر تحمى بالحسنات التي هي أعظم منها (4)، وقال: الواجب على كل مسلم أن يعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء الصحابة (5). فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ويدور مع الصحابة حيث داروا فإذا اجتمعوا لم يجتمعوا على خطأ قط (6).

ويقول على عهد عثمان: أما رد عثمان للحكم بن أبي العاص فغاية ذلك

____________

(1) منهاج السنة 272 / 3.

(2) سورة الفتح: الآية 10.

(3) سورة التوبة: الآية 12.

(4) منهاج السنة 184 / 2.

(5) المصدر السابق 66 / 3.

(6) المصدر السابق 66 / 3.

الصفحة 444
أن يكون اجتهادا اجتهده عثمان، وفي رده لصاحبه أجر مغفور له، أو ذنب له أسباب كثيرة توجب غفرانه (1). ويقول: عثمان ولى من يعلم أن غيره أصلح منه، وهذا من الاجتهاد، أو يقال إن محبته لأقاربه ميلته إليهم حتى صار يظنهم أحق من غيرهم. وإن ما فعله كان ذنبا وإن ذنبه لا يعاقب عليه في الآخرة!! (2).

ويقول: في خلافة عثمان توسع الأغنياء حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع. وتوسع أبو ذر في الانكار (3). واحتج أبو ذر بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة (4). وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم. ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه (5). وليس معنى أن أبا ذر أصدق الناس أنه أفضل من غيره... فأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء (6). ثم يقول عن جريمة مروان بن الحكم التي أدت إلى قتل عثمان: غاية ما قيل: إن مروان كتب كتابا بغير علم عثمان، وإن أهل مصر طالبوا عثمان أن يسلم إليهم مروان فامتنع، فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل عثمان الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل عثمان الجائز، وإن كان قتله واجبا فعدم تسليمه من موارد الاجتهاد (7). وغاية الأمر أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم، ولكن لم يتم غرضه، ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله لم يجب قتله، فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا (8).

ثم يقول عن دور عائشة في الأحداث: هب أن عائشة قالت: اقتلوا نعثلا، فإن هذا القول لا نكارة فيه، فليس القول قدحا فلا إيمان القائل ولا المقول له،

____________

(1) المصدر السابق 236 / 3.

(2) المصدر السابق 187 / 3.

(3) منهاج السنة 199 / 3.

(4) المصدر السابق 198 / 3.

(5) المصدر السابق 199 / 3.

(6) المصدر السابق 199 / 3.

(7) المصدر السابق 188 / 3.

(8) المصدر السابق 190 / 3.

الصفحة 445
بل كلاهما ولي الله من أهل الجنة (1). وقال: إذا ثبت أن عائشة أو عمارا أو غيرهما كفرا آخر من الصحابة عثمان أو غيره. أو أباح قتله على وجه التأويل.

لم يقدح ذلك فلا إيمان واحد منهم ولا في كونه من أهل الجنة (2).

ويقول ابن تيمية في علي بن أبي طالب: لم يكن لعلي في الإسلام أثر حسن إلا ولغيره مثله ولبعضهم آثار أعظم من آثاره (3). وقال: كثير من الصحابة أشجع من علي وأبو بكر وعمر كانا أكثر جهادا منه (4). وعلي تعلم من أبي بكر السنة ولم يتعلم أبو بكر من علي شيئا (5). وأبو بكر وعمر لا يضاهيهما أحد في الزهد وكانوا فوق علي في ذلك (6). وقال: إن الله أخبر أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات ودا وهذا وعد منه صادق ومعلوم. والله قد جعل للصحابة مودة في قلب كل مسلم لا سيما الخلفاء أبو بكر وعمر فإن عامة الصحابة والتابعين كانوا يودونهم وكانوا خير القرون، ولم يكن ذلك علي بن أبي طالب فإن كثيرا من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبونه ويقاتلونه (7)، وقال عن ثقافة السب: فهذا كله سواء كان ذنبا أو اجتهادا أو مخطئا أو عاصيا، فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة والحسنات الماضية (8). وقال: كان علي صغيرا ليلة المعراج لم يحصل له هجرة ولا جهاد، والأنبياء السابقون لم يذكروا عليا في كتبهم، بل ذكر أن المقوقس كان عنده تابوت به صور الأنبياء وصورة أبي بكر وعمر مع صورة النبي!! (9).

____________

(1) المصدر السابق 188 / 2.

(2) المصدر السابق 189 / 2.

(3) المصدر السابق 54 / 4.

(4) المصدر السابق 166 / 4.

(5) المصدر السابق 137 / 4.

(6) المصدر السابق 130 / 4.

(7) المصدر السابق 38 / 4.

(8) المصدر السابق 224 / 2.

(9) المصدر السابق 46 / 4.

الصفحة 446
وقال عن يوم الجمل: لم يكن قتال علي يوم الجمل وصفين بأمر النبي (1) وإنما كان رأيا رآه (2). وعندما خرجت عائشة يوم الجمل لم تتبرج تبرج الجاهلية. والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها (3).

ثم وصف القتال فقال: لم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، لقد خشي القتلة أن يتفق علي مع عائشة، فحملوا على معسكر طلحة والزبير، فظن طلحة أن عليا حمل عليهم، فحملوا دفعا عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه، فحمل دفعا عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم وعائشة راكبة!! (4)، ثم يقول شيخ المسلمين: يوم الجمل إذا كان قد وقع خطأ أو ذنب من أحد الفريقين أو كليهما، فقد عرفنا أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم خيار أولياء الله المتقين وعباده الصالحين وأنهم من أهل الجنة (5).

ثم يقول عن صفين: كان علي عاجزا عن الحق والعدل، وليس لأهل الشام أن يبايعوا عاجزا عن العدل (6). لقد بادر علي بعزل معاوية ولم يكن يستحق العزل (7). إن أهل الشام خير الناس للإسلام. ومعاوية كان خيرا من كثير: فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه (8). وقال شيخ المسلمين: من قاتل عليا إن كان باغيا فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ولا موجبا له النيران ولا مانعا له من

____________

(1) أخرج أحمد والحاكم بسند صحيح قول النبي لعلي: " إنك تقاتل على القرآن كما قاتلت على تنزيله ".

(2) المصدر السابق 231 / 2.

(3) المصدر السابق 186 / 2.

(4) المصدر السابق 185 / 2.

(5) المصدر السابق 241 / 3.

(6) المصدر السابق 203 / 2.

(7) المصدر السابق 222 / 2.

(8) المصدر السابق 223 / 2.

الصفحة 447
الجنان (1)، وقال: القول بأن أول من يدخل النار مبغض علي وأن أول من يدخل الجنة محبه..، هل تعلق السعادة والشقاوة بمجرد حب علي دون حب الله ورسوله إلا كتعلقها بحب أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم (2).

وقال: إن عليا ليس قائدا لكل البررة ولا هو أيضا قاتلا لكل الكفرة، وكذلك القول: منصور من نصره فهو خلاف الواقع... فمن المعلوم أن الأمة كانت منصورة في عصور الخلفاء الثلاثة... فلما قتل عثمان... لم يكن الذين قاتلوا مع علي منصورين.. بل أولئك الذين انتصروا عليه عندما صار الأمر إليهم لما تولى معاوية انتصروا على الكفار وفتحوا البلاد (3) والعسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خذلوه قط في قتال علي. فكيف يكون النبي قال له: اللهم اخذل من خذله؟ (4)، ولو كان حرب علي حربا للرسول ولله تعالى لوجب أن يغلب محارب رسول الله، ولم يكن الأمر كذلك، فقد طالب علي مسالمة معاوية ومهادنته وأن يكف عنه (5). إن عليا قاتل على الخلافة حتى غلب وسفك الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا (6). واجتهاد علي في سفك دماء المسلمين بعضهم بعضا ذل المؤمنين (7). إن الخلفاء الثلاثة اتفق المسلمون عليهم، وكان السيف في زمانهم مسلولا على الكفار أما علي بن أبي طالب فلم يتفق المسلمون عليه وكان السيف في مدته مكفوفا عن الكفار مسلولا على أهل الإسلام (8). إن الله أظهر الدين على أيدي الخلفاء الثلاثة وعلي لم يظهر الدين في خلافته (9). ولم يكن في

____________

(1) المصدر السابق 205 / 2.

(2) المصدر السابق 107 / 4.

(3) المصدر السابق 6 / 4.

(4) المصدر السابق 17 / 4.

(5) السابق 234 / 2.

(6) المصدر السابق 121 / 4.

(7) المصدر السابق 223 / 2.

(8) المصدر السابق 148 / 2.

(9) المصدر السابق 138 / 2.

الصفحة 448
خلافة علي للمؤمنين الرحمة التي كانت في زمن عمر وعثمان، بل كانوا يقتتلون ولم يكن لهم على الكفار سيف، فكيف يظن مع هذا تقدم علي في هذا الوصف على أبي بكر وعمر وعثمان (1). ثم قال: وبعد علي لم يعرف أحد إلا أهل السنة الذين نصروا دين الله (2).

ثم يقول شيخ المسلمين عن قتل معاوية للحسن: إن كان معاوية دس السم للحسن فهو من باب قتال بعضهم بعضا، وقتال المسلمين بعضهم بعضا بتأويل باب عظيم - أي لا يمنعهم من دخول الجنة (3). ثم يقول عن استخلاف يزيد:

أهل السنة يعتقدون أن يزيد ملك جمهور المسلمين وكان خليفتهم في زمانهم (4). ولقد كان كل واحد من الخلفاء إماما وخليفة وسلطانا (5). وأهل السنة إذا اعتقدوا إمامة واحد من هؤلاء يزيد أو عبد الملك أو المنصور كان بهذا الاعتبار، ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولاية أبي بكر وعمر وعثمان (6). وقال: إن يزيد رغم ما فيه من ظلم وقتل وفعل ما فعل يوم الحرة، فإنه لا يخرج عليه لأن من لم يكن مطيعا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية (7).

وقال شيخ المسلمين في قتل الحسين: قالوا للحسين: لا تخرج. وهم بذلك قاصدون نصيحته ومصلحة المسلمين والله ورسوله يأمر بالصلاح لا بالفساد، فتبين أن الأمر على ما قاله هؤلاء، إذ لم يكن في خروج الحسين مصلحة لا في دين ولا في دنيا (8)، وقال عن جهاد الحسن والحسين: جهاد

____________

(1) المصدر السابق 228 / 2.

(2) المصدر السابق 138 / 2.

(3) المصدر السابق 225 / 2.

(4) المصدر السابق 239 / 2.

(5) المصدر السابق 239 / 2.

(6) المصدر السابق 24 / 2.

(7) المصدر السابق 37 / 1.

(8) المصدر السابق 241 / 2.

الصفحة 449
الحسنين في سبيل الله كذب عليهما (1). وقال عن قتل الحسين: قتل الحسين لم يجلب فسادا على الأمة (2). وقال: لم يعظم إنكار الأمة لقتل الحسين كما عظم لقتل عثمان، ولا انتصر له جيوش كالجيوش التي انتصرت لعثمان، ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه، ولا حصل بقتله من الفتن والشرور والفساد ما حصل بقتل عثمان ولا كان قتله أعظم إنكارا عند الله ورسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان (3). وقال: " إن عثمان أعظم أجرا. وقتلته أعظم إثما ممن لم يكن متوليا فخرج يطلب الولاية ولم يتمكن حتى قتل، ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره، وعثمان ترك القتال دفعا عن نفسه وولايته أقرب من الحسين (4).

ثم يقول: من قال إن عثمان كان مباح الدم، لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ولا الحسين، فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم الحسين، وعثمان أبعد من موجبات القتل من علي والحسين، وشبهة قتل عثمان أضعف بكثير من شبهة قتل علي والحسين فإن عثمان لم يقتل مسلما ولا قاتل أحدا على ولايته (5). ثم يقول: كان المنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام، والمنتصرون من قتلة الحسين المختار، ولا يشك عاقل أن معاوية خير من المختار (6).

وعمر بن سعد قائد السرية التي قتلت الحسين لم يصل في الجرم إلى ما وصل إليه المختار الذي تتبع قتلة الحسين (7). وفي الختام يقول: إن عثمان تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا يذكرونها ويظهر له أنها منكرة. وكذلك عائشة ندمت على مسيرها إلى البصرة وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها، وطلحة

____________

(1) المصدر السابق 118 / 2.

(2) المصدر السابق 164 / 1.

(3) المصدر السابق 188 / 2.

(4) المصدر السابق 188 / 2.

(5) المصدر السابق 129 / 3.

(6) المصدر السابق 188 / 2.

(7) المصدر السابق 165 / 1.

الصفحة 450
والزبير ندما على مسير يوم الجمل (1). ولم يقل لنا الشيخ لماذا كان الندم؟ هل لأنهم كانوا على حق أم أن خصمهم هو صاحب الحق؟

كان هذا مجمل رأي ابن تيمية وفي إمكاننا أن نعارضه بالأدلة التي لا تدفع ولا ترد، ولقد ذكرنا على امتداد هذا الكتاب ما فيه كفاية للرد على هذا الكلام وغيره، ولقد حرصت على أن أعرض وجهة نظر الشيخ حتى يعلم الحاضر حقيقة الأمور من حوله وهو يأخذ بخيوط البحث عن الحقيقة، ولقد تبين لنا أن ابن تيمية يصادر الأصول ولا يقيم لها وزنا إذا تعارضت مع آرائه. وقد وصفه الشيخ ناصر الدين الألباني بأنه " متسرع في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها " (2)، وقال في حديث استنكره ابن تيمية: " استنكره شيخ الإسلام ولو صحت عن رسول الله لم نعبأ باستنكاره " (3)، ويقول الشيخ محمد الكوثري قاضي الدولة العثماني عن تضعيف ابن تيمية للأحاديث وعن آرائه التي تخالف النصوص: فمثل هذا الشيخ الحراني لا يمكن أن يوزن في كفة وأئمة علوم شتى المذاهب في كفة أخرى، إن ما ألفه ابن تيمية في أواخر عمره متوغل في الفساد " (4).

ولقد أخذ ابن تيمية على عاتقه التشكيك في كل حديث يتعلق بأهل البيت حتى ولو كان هذا الحديث في الصحاح، وعلى سبيل المثال قال في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن علي " إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق "، قال: في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق (بغض الأنصار. وقال: لا يبغض الأنصار رجل مؤمن بالله واليوم الآخر. فإن هذه الأحاديث أصح مما يروى عن علي أنه قال: لعهد النبي الأمي إلي... "، فإن هذا الحديث رواه مسلم.

____________

(1) المصدر السابق 181 / 3.

(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة 344 / 4 ط المكتب الإسلامي.

(3) المصدر السابق 400 / 4.

(4) صفات البرهان / الكوثري ص 30.


الصفحة 451
والبخاري أعرض عنه بخلاف أحاديث الأنصار... وأهل العلم شكوا في حديث علي (1). ولم يذكر الشيخ من هم أهل العلم الذين شكوا في أحاديث الإمام مسلم؟ ولو صح هذا لانهدم جانب كبير من السنة، وقال الشيخ أيضا في حديث الثقلين كتاب الله فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال: وعترتي أهل بيتي أذكركم الله - ثلاثا. قال الشيخ: هذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري، والحديث الذي رواه مسلم إذا كان النبي قد قاله، فليس فيه إلا الوصية باتباع كتاب الله، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر باتباع العترة!! (2).

وإذا كان ابن تيمية يرد كل شئ إلى البخاري ويشكك في الحديث الذي يرويه مسلم ولم يروه البخاري، فإننا نجده يشكك في البخاري نفسه عندما روى حديثا لم يصادف هوى ابن تيمية. روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ويح عمار. تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار "، فقال الشيخ: حديث عمار " تقتلك الفئة الباغية "، رواه مسلم ورواه البخاري، ولكن البخاري في كثير من النسخ لم يذكره تاما (3). وعندما لم يجد مفرا قال: ولكن لا يختلف أهل العلم بالحديث أن هذه الزيادة " يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " هي في الحديث (4). لقد وضع الشك أولا ليتأرجح الباحث بين الحقيقة والخيال. وشكك أيضا في أقوال أحمد بن حنبل فقال:

وأحمد بن حنبل لم يقل إنه صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره، بل أحمد أجل من أن يقول مثل هذا الكذب (5). وشكك في حديث " وأنذر عشيرتك الأقربين " الذي رواه أحمد وغيره بسند صحيح كما ذكرنا من قبل، وطعن في الترمذي والنسائي وقال: رويا أحاديث ضعيفة في فضل

____________

(1) منهاج السنة ص 40 / 4.

(2) منهاج السنة 85 / 4.

(3) منهاج السنة 210 / 2.

(4) المصدر السابق 211 / 2.

(5) المصدر السابق 99 / 4.

الصفحة 452
علي (1)، وطعن في تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي (2).

والواحدي وابن حميد وعبد الرزاق (3)، وأبي نعيم (4) والكلبي (5) والديلمي (6) والحاكم وابن عبد ربه وابن عقدة (7) وابن خلويه (8) وابن عساكر (9) وابن إسحاق (10) وجريمة هؤلاء جميعا في نظر ابن تيمية أنهم رووا أحاديث في فضل أهل البيت. حتى أنه قال في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين وقال: من أحبني وأحب هذين وآباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة "، قال الشيخ:

وبتقدير أن يكون أحمد روى الحديث فمجرد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحا يجب العمل به، بل الإمام أحمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناس ضعفها!! (11) مما سبق نعلم أن الشيخ لجم العقل ولم يجعل فيه نافذة مفتوحة إلا لاستقبال رأيه فقط، ونحن فيما سبق دعونا الله أن يرحم العلماء الذين جمعوا لنا الحديث لأنهم بهذا العمل وضعوا أمام العقل في كل مستقبل المادة الغزيرة التي من خلالها يتم البحث عن الحقيقة، ولكن الأمر مختلف عن ابن تيمية. لقد جاهد من أجل أن يري الناس ما يراه مبينا لهم أن أي حديث لا يعرفه هو فليس بحديث، وعلى أي حال إذا كانت هذه المحاولة قد حققت نجاحا في فترة من

____________

(1) المصدر السابق 48 / 4.

(2) المصدر السابق 80 / 4.

(3) المصدر السابق 4 / 4.

(4) المصدر السابق 10 / 4.

(5) المصدر السابق 18 / 4.

(6) المصدر السابق 38 / 4.

(7) المصدر السابق 99 / 4.

(8) المصدر السابق 106 / 4.

(9) المصدر السابق 111 / 4.

(10) المصدر السابق 48 / 4.

(11) المصدر السابق 106 / 4.

الصفحة 453
الزمان، ألا أنه بالتأكيد لن يكتب له الخلود.

* ويقتضي الأمر أن نبين رأي المعتزلة في الأحداث كما بينا الرأي السلفي الذي يمثله ابن تيمية. يقول ابن أبي الحديد المعتزلي.

فأما علي كرم الله وجهه فإنه عندنا بمنزلة الرسول في تصويب قوله والاحتجاج بفعله ووجوب طاعته، ومتى صح عنه أنه قد برئ من أحد من الناس برئنا منه كائنا من كان، ولكن الشأن في تصحيح ما يروى عنه فقد كثر الكذب عليه... وأما براءته كرم الله وجهه من المغيرة وعمرو بن العاص ومعاوية فهو عندنا معلوم جار مجرى الأخبار المتواترة، فلذلك لا يتولاهم أصحابنا، ولا يثنون عليهم، وهم عند المعتزلة في مقام غير محمود (1)، وقال ابن أبي الحديد:

فأما الأفاضل من المهاجرين والأنصار الذين ولوا الإمامة قبله فلو أنه أنكر إمامتهم وغضب عليهم وسخط فعلهم فضلا عن أن يشهر عليهم السيف أو يدعو إلى نفسه لقلنا: إنهم من الهالكين كما لو غضب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " حربك حربي وسلمك سلمي " وقال: " اللهم والي من والاه وعادي من عاداه "، وقال: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق "، ولكنا رأيناه رضي إمامتهم فلم يكن لنا أن نتعدى فعله ولا نتجاوز ما اشتهر عنه، إلا ترى أنه لما برئ من معاوية برئنا منه ولما لعنه لعناه، ولما حكم بضلال أهل الشام ومن كان فيهم من بقايا الصحابة كعمرو بن العاص وعبد الله ابنه وغيرهما حكمنا أيضا بضلالهم، والحاصل: أنا لم نجعل بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا رتبة النبوة.

وأعطيناه كل ما عدا ذلك من الفضل والمشترك "، ولم نطعن في أكابر الصحابة الذين لم يصح عندنا أنه طعن فيهم، وعاملناهم بما عاملهم به (2).

قال ابن أبي الحديد: لو نازع عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه، كما حكمنا بهلاك

____________

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 764 / 5.

(2) المصدر السابق 881 / 5.

الصفحة 454
من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول تنسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال: " علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار " وقال له غير مرة: " حربك حربي وسلمك سلمي " وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي وبه أقول (1).

وقال: ومذهب أصحابنا من البغداديين أنه الأفضل والأحق بالإمامة وأنه لولا ما يعلمه الله ورسوله من أن الأصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه لكان من تقدم عليه هالكا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أن الإمامة حقه، وأنه أولى بها من الناس أجمعين، وأعلمه أنه في تقديم غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة راجعة إلى المكلفين، وأنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها ويغض عنها لمن هو دون مرتبته، فامتثل ما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق (2).

ومعنى هذا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه " فيه إشارة إلى مخاطبة دائرة الاختيار والإرادة عند الصحابة. بمعنى إذا أردتم سلوك طريقي والنجاة من الفتن التي حدثتكم عنها فهذا هو طريق ولا إجبار في دين الله، وهذا أصل في حكمة الوجود وخلافة الوجود وخلافة الإنسان في الأرض، فحركة الإنسان تدور في فلك عظيم لينظر الله كيف يعملون ويترتب على هذا العمل إما الثواب وإما العقاب وليس معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه " أنه اكتفى بمخاطبة دائرة الاختيار عن الصحابة، لا فلقد روى في أحاديث صحيحة قوله: " فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي " فهناك خاطب ملكة الاختيار وهنا ثبت الأمر في هذه الملكة.

وقال ابن أبي الحديد في حروب الإمام: كان لا يستعمل في حربه إلا ما

____________

(1) المصدر السابق 480 / 1.

(2) المصدر السابق 480 / 1.

الصفحة 455
وافق الكتاب والسنة، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنة ويستعمل جميع المكايد حلالها وحرامها ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وعلي يقول: لا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم ولا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا بابا مغلقا.. فعلي كان ملجما بالورع من جميع القول إلا ما هو لله عز وجل رضا، وممنوع اليدين من كل بطش إلا ما هو لله رضا، ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه الله ويحبه، ولا يرى الرضا إلا فيما دل عليه الكتاب والسنة (1).

وبعد أن ألقينا شعاعا من الضوء على رأي المعتزلة في الخطوط العريضة للأحداث نقدم هنا رأي الأستاذ سيد قطب صاحب " في ظلال القرآن " ورأيه الذي سنقدمه جاء في كتاب " كتب وشخصيات " (2)، وفي هذا الكتاب يعلق سيد قطب على بعض الكتب المختارة فيقول: حلقة من سلسلة (اقرأ) استعرض فيها الأستاذ شفيق جبري بعض الواقف والمواقع من تاريخ صدر الإسلام وتاريخ بني أمية مبرزا فيها العنصر النفسي الذي قامت عليه ليكشف عن دراية صاحب الموقف أو الموقعة بذلك العنصر النفسي أو عدم درايته وعن أثر العلم بهذا العنصر أو الجهل به في هذا الموقف أو الموقعة، ويقول سيد قطب عن إحدى ملاحظات الكاتب:

" أما الملاحظة الثانية فتبدو على أتمها في الحكم على موقف عمر بن الخطاب من العهد بالخلافة، وندع المؤلف يبين رأيه في هذه السطور: " مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبض فيه، فأمر أبا بكر أن يصلي، بالناس... ثم كان أمر السقيفة ما كان... ثم مرض أبو بكر المرض الذي مات فيه، فاستخلف على المسلمين عمر بن الخطاب، ثم طعن عمر، فدخلوا عليه وهو في البيت وسألوه أن يستخلف عليهم، فجعل الخلافة شورى بين هؤلاء الستة من المهاجرين الأولين... وكل هذا يدل على الارتباك، ولقد كانت هذه

____________

(1) المصدر السابق 529 / 3.

(2) كتب وشخصيات / سيد قطب ط دار الشروق.

الصفحة 456
الطريقة سبيلا إلى المخاصمة، فقد تشاح أصحاب الشورى على الخلافة، وأخروا إبرام الأمر، ورجا كل واحد منهم أن يكون خليفة... وكاد يؤدي هذا الأمر إلى الفتنة، فقد تطلع الناس إلى معرفة خليفتهم وإمامهم، واحتاج من أقام لانتظار ذلك من أهل البلدان إلى الرجوع إلى أوطانهم، ولسنا ندري ما الذي حمل سيدنا عمر على الوقوع في هذا الارتباك، وقد كان قادرا على أن يستخلف أصلح القوم، وهو يعرفهم واحدا واحدا، ويعرف عيوبهم وفضائلهم، ولكنه عدل عن ذلك، وإذا لجأت إلى الحرية في الكلام قلت: خاف التبعة ففر منها، فإنه جعل الأمر شورى بين جماعة كل واحد منهم يريد الخلافة لنفسه مخالفا للقواعد النفسية في السياسة، ولقد أنقذ الله المسلمين من فتنة الشورى، وكانوا في غنى عنها لو حزم عمر... ففكرة عمر في أن يجعل أمر المسلمين شورى بين ستة يتزاحمون على الخلافة غلطة نفسية، وقد أدرك معاوية هذه الغلطة، ومثله لا يكاد يفوته شئ من أسرار السياسة النفسية، فقد ذكروا أن زيادا أوفد ابن حصين إلى معاوية، فأقام عنده ما أقام، ثم إن معاوية بعث إليه ليلا فخلا به، فقال له:

يا ابن حصين قد بلغني أن عندك ذهنا وعقلا فأخبرنا عن أي شئ أسألك عنه؟

قال: سلني عما بدا لك، قال: أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين وملأهم وخالف بينهم؟ قال ابن حصين: نعم، قتل الناس عثمان، فقال معاوية: ما صنعت شيئا. قال: فمسير علي إليك وقتاله إياك. فقال: ما صنعت شيئا، قال ابن حصين: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال علي إياهم، فقال: ما صنعت شيئا. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: فأنا أخبرك، إنه لم يشتت بين المسلمين، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر.... فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه وجاها له قومه وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف... وعلى هذا فالشورى غلطة نفسية رحم الله من غلطها.

ويعلق سيد قطب على هذا الكلام فيقول:... إن الشخصية التي يصدر عليها مثل هذا الحكم السريع شخصية جليلة ضخمة فذة في تاريخ الإسلام...

على أنني لست من أنصار القداسة المطلقة للشخصيات الإسلامية، ولست أعني

الصفحة 457
مما تقدم أن أحرم المعاصرين حق الحكم على هذه الشخصيات، ولكني أريد أن تتوافر أسباب الحكم كاملة... وليس ما نقله الأستاذ من أقوال معاوية حجة، فمعاوية كان يريد بهذا القول التمهيد لاستخلاف ابنه يزيد، وهنا عنصر نفسي فات الأستاذ جبري ملاحظته، ولست أجزم الجزم القاطع برأيي هذا، كما فعل الأستاذ في تخطئة عمر، ولكني أريد فقط ألا نسارع إلى الحكم القاطع وبين أيدينا كفتا الميزان على الأقل تتأرجحان (1).

ثم يتطرق الكاتب إلى معركة صفين، فوصف الإمام بأنه كان يجهل العناصر النفسية في صراعه مع معاوية فقال: لم تكن معرفته بالأمور النفسية على قدر صراحته، فإذا لم تنجح سياسته النجاح كله، فهذا سببه أنه لم يخطر على باله أن طلب الحقوق يستلزم كثيرا من حسن الموارد والمصادر... ولم يدر الإمام أن الناس عامة إنما همهم حطام هذه الدنيا، فكان يعز عليه أن يعتقد أن الناس يدورون كيف دارت مصالحهم ومنافعهم، فلم يعاملهم كنا يجب أن يعاملهم رجل السياسة، وإنما عاملهم كما يعاملهم رجل الأخلاق، فكان من عواقب هذه المعاملة شكوه منهم في كل كلام وفي كل خطبة.

ويعلق سيد قطب فيقول: وهكذا يحكم على علي كرم الله وجهه بأنه كان يجهل النفس البشرية لمجرد أنه لم يستخدم الوسائل السياسية التي استخدمها خصماه معاوية وعمرو بن العاص، وأبسط نظرة تكشف أن هناك فرقا كبيرا بين معرفة السلاح واستخدام هذا السلاح، فلم يكن الفرق بين علي وبين خصميه أنه يجهل النفس البشرية وأنهما يعرفانها، إنما كان الفرق في حقيقته هو الرضى باستخدام كل سلاح يرضاه الخلق العالي أو يأباه، فعلي لم تكن تنقصه الخبرة بوسائل الغلبة ولا بنوازع النفوس البشرية وأهوائها، ولكنه لم يكن يتدنى لاستخدام الأسلحة القذرة جميعا، وفي رده على من أشاروا عليه بتوزيع المال لرشوة الضمائر ما يكفي " أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من الإسلام. فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم "

____________

(1) أي كفة الغلطة النفسية لعمر. وكفة الغلطة النفسية لمعاوية.

الصفحة 458
فحين قالها لم يكن جاهلا أن الناس عامة همهم حطام هذه الدنيا، ولكنه كان مترفعا عن استخدام سلاح تستقذره نفسه الكريمة ويستخدمه خصمه بلا تحرج وكذلك رده على ابن عباس. حينما استصوب إشارة المغيرة بن شعبة على علي بأن يولي الزبير البصرة ويولي طلحة الكوفة يدل على هذا، فلقد قال: ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام "، فهو إذن لم يكن بجهل ما يضر وما ينفع، ولكنه كان يأبى ويترفع. ثم يقول سيد قطب رحمه الله:

إن معاوية وزميله عمرو لم يغلبا عليا لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب، ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح، وهو مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع، وحين يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم. لا يملك علي أن يتدنى إلى هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحان ويفشل، وإنه لفشل أشرف من كل نجاح، على أن غلبة معاوية على علي كانت لأسباب أكبر من الرجلين، كانت غلبة جيل على جيل، وعصر على عصر، واتجاه على اتجاه، كان مد الروح الإسلامي العالي قد أخذ ينحسر، وارتد الكثيرون من العرب إلى المنحدر الذي رفعهم منه الإسلام، بينما بقي علي بن أبي طالب في القمة لا يتبع هذا الانحسار، ولا يرضى بأن يجرفه التيار، من هنا كانت هزيمته، وهي هزيمة أشرف من كل انتصار ثم يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله.

لقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت روح الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس، ولو قد قدر لعلي أن ينتصر، لكان انتصاره فوزا لروح الإسلام الحقيقية، الروح الخلقية العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في النضال، ولكن انهزام هذه الروح ولما يمض عليها نصف قرن كامل، وقد قضى عليها فلم تقم لها قائمة بعد - إلا سنوات على يد عمر بن عبد العزيز - ثم انطفأ ذلك السراج، وبقيت الشكليات الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية. قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده، ولكن روح الإسلام قد تقلصت، وهزمت، بل انطفأت، فإن يهش إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضوض، فتلك غلطة نفسية

الصفحة 459
وخلقية لا شك فيها.

ثم يقول رحمه الله: على أننا لسنا في حاجة يوما من الأيام أن ندعو الناس إلى خطة معاوية، فهي جزء من طبائع الناس عامة، إنما نحن في حاجة لأن ندعوهم إلى خطة علي بن أبي طالب، فهي التي تحتاج إلى ارتفاع نفسي يجهد الكثيرون أن ينالوه، وإذا احتاج جيل لأن يرعى إلى خطة معاوية، فلن يكون هو الجيل الحاضر على وجه العموم، فروح " مكيافيلي " التي سيطرت على معاوية قبل مكيافيلي بقرون هي التي تسيطر على أهل هذا الجيل، وهم أخبر بها من أن يدعوهم أحد إليها، لأنها روح " النفعية " التي تظلل الأفراد والجماعات والأمم والمحكومات.

ثم يقول رحمه الله: وبعد، فلست " شيعيا " لأقرر هذا الذي أقول، إنما أنا أنظر إلى المسألة من جانبها الروحي الخلقي، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيا لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية، ولينتصر لعلي بن أبي طالب على معاوية وعمرو، إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة......... (1).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net