متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثالثا: اتباع إبراهيم عليه السلام
الكتاب : وجاء الحق    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثالثا: اتباع إبراهيم عليه السلام

بعد عهد السبي تاجر اليهود بالميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، وانطلقوا في اتجاه هذا الهدف بالعمل على إقامة مملكة داود، وعاصمتها أورشاليم، بعد أن تبنوا عقيدة تقول: إن مملكة داود هي وعاء للعهد الإبراهيمي، وعلى امتداد مسيرتهم وبخهم الأنبياء على هذا الاعتقاد، فقال لهم حزقيال:

تقولون: إن إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض، ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا... تأكلون بالدم، وترفعون أعينكم إلى أصنامكم، وتسفكون الدم. أفترثون الأرض؟ " (1)، وقال لهم يوحنا (يحيى): تقولون: " لنا إبراهيم أبا، فإني أقول لكم: إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم " (2)، وقال لهم المسيح عليه السلام: " لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم "، وقال: " أنتم أولاد أبيكم إبليس،. شهوات أبيكم، ترغبون في أن تعملوا، فهو من البدء كان قاتلا للناس " (3).

____________

(1) حزقيال: 33 / 23 - 25.

(2) متى: 3 / 7 - 11.

(3) يوحنا: 8 / 37.

الصفحة 15
وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، تحدث أهل الكتاب بعقيدتهم الخاصة بالميراث، وعملوا على نشر الثقافة التي تصب في وعاء هذه العقيدة، واليهود في مصادر الإسلام أعلنوا أنهم في انتظار المسيح الذي يملكون به الأرض، والنصارى تحدثوا بما وضعه بولس في عقولهم، وهو أن الأمم شركاء لليهود في الميراث، ووفقا لهذا الاعتقاد بدأوا بالتحرك لوقف تحرك الدعوة الخاتمة في اتجاه الأمم، وشيد اليهود والنصارى صروحهم على إبراهيم عليه السلام، فبينما زعم الحي اليهودي أن إبراهيم كان يهوديا، زعم الحي النصراني أن إبراهيم كان نصرانيا، وفي زحمة هذه الثقافات، قالت اليهود:

ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى: ليست اليهود على شئ، هذه الأقوال والاعتقادات شهد بها القرآن الكريم، ورد عليها، وأقام على هؤلاء وهؤلاء الحجة الدامغة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) [ المائدة: 18 ]، والمعنى: لو كنتم - كما تدعون - أبناء ه وأحباءه، فلم أعدت لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم (بل أنتم بشر ممن خلق)، أي لكم أسوة بأمثالكم من بني آدم، وهو - سبحانه - الحاكم في جميع عباده، فعال لما يريد، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.

وقال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق) [ البقرة:

135 - 137 ]، وقبل هذه الآيات بين - تعالى - أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده، كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، ويستنتج من ذلك أن أهل الكتاب على عهد البعثة

الصفحة 16
الخاتمة، كانوا قد انتهى بهم المطاف إلى أرضية الاختلافات والانشعابات، التي أفرزتها اختراعاتهم وهوسهم، بعد أن صبغوا دين الله بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، وروي أن اليهودي عبد الله بن صوريا قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك (1)، فقال الله لرسوله: (قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)، أي: قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم، وما كان صاحب هذه الملة - وهو إبراهيم - من المشركين.

ثم ذكر لهم أن الدعوة الخاتمة تؤمن بالله وما أنزل إليها، وهو القرآن، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى، وخصهما بالذكر، لأن المخاطبة مع اليهود والنصارى، ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم، لتشمل الشهادة جميع الأنبياء، فيستقيم قوله بعد ذلك: (لا نفرق بين أحد منهم)، ثم قال تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، أي فإن آمنوا بما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه.

من الآيات السابقة يمكن أن نستشف الثقافة التي كان اليهود والنصارى يبثونها على عهد الرسالة الخاتمة، فلقد ادعوا بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، ويبدو أن القرآن عند ما ضرب العمود الفقري لثقافتهم هذه، قرروا بأن يعمل كل حي من أحيائهم على انفراد، ويمكن أن نستشف ذلك من قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب) [ البقرة:

113 ]، قال المفسرون: " هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت في ما رمت به الطائفة الأخرى، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم في ما قالوه مع علمهم

____________

(1) تفسير ابن كثير: 1 / 186.

الصفحة 17
بخلاف ذلك، ولهذا قال تعالى: (وهم يتلون الكتاب)، أي: وهم يعلمون شريعة التوراة والانجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد " (1)، وبالجملة، قد كان أوائل اليهود والنصارى على شئ، وهذا لا تخلو منه كتبهم لإقامة الحجة عليهم على امتداد المسيرة، ثم ابتدع الذين من بعدهم وتفرقوا، ثم جاء العلماء الذين وضعوا التفسير الشفهي للتوراة (التلمود)، وعندها انقسم اليهود إلى فرق وأحزاب، وانتهى الأمر بأن وقف الحي اليهودي داخل دائرة حددها الأحبار، ووقف الحي النصراني داخل دائرة حددها بولس لخدمة أصحاب الدائرة الأولى، فالثقافة التي تخرج من مدونات خدمة النصارى لليهود تقول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه، أما الثقافة التي تدفع أصحابها إلى أن يقول كل منهم أن الآخر ليس على شئ، فهي نتيجة لحجة البعثة الخاتمة ومواجهتها للأطراف مجتمعين، فالدعوة الخاتمة أرشدتهم إلى الحق ليتفكروا ويتدبروا، وبدلا من أن يرجعوا إلى كتبهم التي لا تخلو من حق، ويعرضوها على منهج البعثة الخاتمة، انطلقوا من التفسير الشفهي، وهذا التفسير لا يقيم حقا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لأنه مقابلة للفاسد بالفاسد.

وفي مجال عمل كل حي منفردا عن الآخر، قام كل منهما بوضع جميع الأنبياء داخل الحي الخاص به، ورد القرآن عليهم قولهم، قال تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) [ البقرة: 140 ]، والمعنى: قال كل من الفريقين: إن إبراهيم ومن ذكر من بعده منهم، فقال تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله)، أي: فإن الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابيهما بعد إبراهيم، فإذا كان تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فكيف يكون إبراهيم والذين ذكروا معه هودا أو نصارى؟ وقال تعالى: (يا أهل الكتاب لم

____________

(1) تفسير ابن كثير: 1 / 155.

الصفحة 18
تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين، ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون، يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون، يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) [ آل عمران: 65 - 71 ].

لقد أنكر الله عليهم قولهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها، وشهد - سبحانه - بأن إبراهيم كان متحنفا عن الشرك، قاصدا إلى الإيمان، وما كان من المشركين، وأخبر - سبحانه - بأن أحق الناس بمتابعة إبراهيم، الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي، يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا، لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم، وكذا كل من اتبعه دون أن يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل، ثم أخبر - تعالى - بأن طائفة من أهل الكتاب تود أن تضل الذين آمنوا بإلقاء الشبهات بينهم، وأنهم يضلون أنفسهم أولا، لأن الإنسان لا يفعل شيئا - من خير أو شر - إلا لنفسه، كما قال تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فلها وما ربك بظلام للعبيد) [ فصلت: 46 ]، ثم قال سبحانه: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) [ آل عمران:

70 ]، وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها، وإنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم، كنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكون عيسى عبد الله ورسوله، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني، وأن يد الله مبسوطة، وأن الله غني، وأن الدجال فتنة فيه تصب جميع الفتن، إلى غير ذلك. وقوله تعالى: (وأنتم تشهدون)، والشهادة هي الحضور والعلم عن حس، دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله، إنكارهم

الصفحة 19
كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والانجيل، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه، وأيضا إنكارهم ما يبينه لهم النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من آيات ربهم التي تنطق بها كتبهم التي بين أيديهم، ويشهد القرآن بها، ثم قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) [ آل عمران: 71 ]، والمعنى: لم تظهرون الحق في صورة الباطل؟ وقوله: (وأنتم تعلمون) دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية، غير ما يشاهد من الآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.

ولما كان الله - تعالى - قد أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون، فإنه - تعالى - بين في آية أخرى من آيات القرآن الكريم، أن جدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم، رغبة منهم في إدحاض الحق الصريح بهذا الجدال، قد أوقعهم في فتنة المسيح الدجال، ففي قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير) [ غافر: 56 ]، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب، أن هذه الآية نزلت في اليهود في ما ينتظرونه من أمر الدجال، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، قال: قال اليهود: يكون منا ملك آخر الزمان، البحر إلى ركبتيه، والسحاب دون رأسه، يأخذ الطير بين السماء والأرض، معه جبل خبز ونهر، وقال أبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود، وذلك أنهم ادعوا أن المسيح (الدجال) منهم، وأنهم يملكون به الأرض، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعذ من فتنة الدجال (1).

وبالجملة، بينت الدعوة الإلهية الخاتمة أن الرقعة التي يقف عليها أهل الكتاب ويطالبون من فوقها بالميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، رقعة لا علاقة لها بإبراهيم ولا بالأنبياء الذين جاؤوا من بعده، لأنها رقعة أوجدتها

____________

(1) أنظر: تفسير ابن كثير: 4 / 84، تفسير الميزان: 17: 348.

الصفحة 20
الاختلافات والانشعابات، وهذا لا يستقيم مع الدين الإلهي، لأن الدين واحد، كما أن الإله المعبود بالدين واحد، وهو دين إبراهيم عليه السلام، وهذا الدين هو الذي تتمسك به الدعوة الإلهية الخاتمة، ولما كان القوم لا علاقة لهم بإبراهيم، وشهد بذلك حزقيال وأشعيا ويوحنا والمسيح عليه السلام، وشهد بذلك القرآن الكريم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالنتيجة هي أن القوم لا علاقة لهم بميراث إبراهيم في الدنيا والآخرة، ولما كان القوم ما زالوا يعتقدون بأن القدر يخبئ لهم أميرا سيخرج آخر الزمان يمتلكون به الأرض، فإن الدعوة الخاتمة أخبرت بأن المسيح الدجال سيخرج آخر الزمان، وأنه سيرفع شعار أرض الميعاد، وأن أكثر أتباعه من اليهود، ويلحق بهم الذين أخذوا بذيول اليهود، ثم الذين اتبعوا سنن أهل الكتاب شبرا بشبر، وذراعا بذراع..


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net