متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
رابعا: البيان والإنذار
الكتاب : وجاء الحق    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

رابعا: البيان والإنذار

أقامت الدعوة الإلهية الخاتمة حجتها على أهل الكتاب، وبينت لهم أن الله - تعالى - منذ بعث نوحا عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام فلم ينزل - سبحانه - على أحد كتابا من السماء، ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده، إلا وهو من سلالته، قال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) [ الحديد: 26 ]، وبينت الدعوة الخاتمة أن جميع الأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [ الأنبياء 25 ]، وأن إبراهيم عليه السلام لم يدع مع الله غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، ومن ترك طريقة إبراهيم عليه السلام يكون قد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، وبينت الدعوة أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه بالإسلام، وبنيه وصوا أبناءهم به من بعدهم، قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ


الصفحة 21

حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) [ البقرة: 132 - 133 ].

وبينت الدعوة الخاتمة بأنها تؤمن بكل نبي أرسل، وأخبرت أن كل من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال تعالى لرسوله: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [ آل عمران: 84 - 85 ]، وأعلنت الدعوة من يومها الأول أنها على ملة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) [ النحل 123 ]، وقال جل شأنه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) [ الأنعام: 161 - 163 ].

لقد بينت الدعوة الإلهية الخاتمة للبشرية العقيدة الحقة، وأقامت الحجة على أهل الكتاب ليتفكروا وليتدبروا، ليعلموا أن دين إبراهيم برئ من جميع العقائد التي عليها بصمات العجول وآلهة الأمم المتعددة، وأن دين إبراهيم لا علاقة له بعقائد التثليث وألوهية المسيح، ولم تكن مهمة إبراهيم عليه السلام في يوم من الأيام هي البحث عن الميراث من النيل إلى الفرات، وإنما كان عليه السلام إماما للناس، يقتدون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله، وهذه الإمامة لا ينالها ظالم من ولده، لأن الله لا يجعل الظالمين أئمة، ولا يعطي الإمامة لعدوه، لأن هؤلاء يأتون كنتيجة لأعمال الظالمين من الناس، والله - تعالى - رؤوف بالعباد، والناس تحت مظلة الاختبار يمتحنون، فمن سلك طريقا على ذروته إمام للرحمة والعدل، وصل إلى غايته، ومن سلك طريقا على ذروته إمام يدعو إلى النار، دخل فيها.


الصفحة 22
وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة، بين الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن شريعته تنهى عن الفحشاء والمنكر وتأمر بالمعروف، وتحذر من البغي والاستكبار والاختلاف، وتنادي بالعدل والإحسان والاستقامة، وتدعو إلى العمل الصالح والتفكر والتدبر والإصلاح والإخلاص، وأن منهج الدعوة عموده الفقري هو التوحيد، وشجرته الأخلاق الفاضلة، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.

وعلم أهل الكتاب وغيرهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، قال تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) [ الأعراف: 128 ]، ولقد اختبر الله - تعالى - الفرع الإسرائيلي من الشجرة الإبراهيمية، وبعث فيهم الأنبياء والرسل لينظر - سبحانه - كيف تعمل القافلة، وعلم أهل الكتاب كيف سارت القافلة وبماذا حكم الله عليها، وهذا الحكم يقرأوه في ما بين أيديهم من التوراة الحاضرة، ومنه قول الرب لهم: " ها أنذا أنساكم وأرفضكم من أمام وجهي، أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها، وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسى " (1)، وقال: " هو ذا من أجل آثامكم بعتم، ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم " (2)، وبين هذا الحكم وبين البعثة الخاتمة، قتلوا الأنبياء الذين بعثهم الله لإقامة الحجة على الأجيال المتعاقبة، وعند ما جفت المسيرة من الماء، بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ليختبر الله - تعالى - بمنهجه أمة جديدة في مقدمة عالم جديد.

وببعثة النبي الخاتم حكمت الدعوة الإلهية حكمها الفصل على قصة الميراث، التي سهر عليها بنو إسرائيل ليلا طويلا، وذلك ببسط الدعوة يدها على المسجد الحرام والمسجد الأقصى في رحلة واحدة في ليلة واحدة، قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد

____________

(1) أرميا: 23 / 40.

(2) المصدر نفسه: 17 / 2 - 4.

الصفحة 23
الأقصى الذي باركنا حوله) [ الإسراء: 1 ]، فالميراث بدأت حدوده من موضع سجود، وانتهت إلى موضع سجود، وهو ممتد إلى كل موضع سجود، وليس معنى هذا أن الدعوة الخاتمة تبحث عن الأرض والطين، وإنما معناه أنها ترعى التقوى في أي مكان، وتعمل من أجل الإصلاح في كل مكان، ترعى التقوى لأن العاقبة للمتقين، وتعمل من أجل الإصلاح حتى يرث الصالحون، قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) [ الأنبياء: 105 ].

ولأن الدعوة تقوم على التوحيد، ولأن التوحيد هو الحصن الحصين الذي يحفظ الإنسان من الزلل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار " (1) وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى يهود، وقال لهم: " يا معشر اليهود، أسلموا تسلموا "، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال: " أسلموا تسلموا "، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال: " ذلك أريد "، (أي أريد أن تعرفوا أني بلغت)، ثم قال لهم:

" اعلموا أنما الأرض لله ولرسوله، وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله " (2)، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلغ بالاسلام، ولكن القوم كانت عيونهم على الأرض والطين، لأنهم من أجل هذا الميراث يعملون، فوقفوا بما يعتقدون أمام القول الفصل وهو: " اعلموا أن الأرض لله ورسوله "، ولم يكن الجلاء من جزيرة العرب عقابا وحيدا للذين يصدون عن سبيل الله وإنما أنذرهم الله بعقاب أليم في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) [ النساء: 47 ]، قال في

____________

(1) رواه مسلم، الصحيح: 1 / 93.

(2) المصدر نفسه: 5 / 159.

الصفحة 24
الميزان: " دعاهم الله - تعالى - إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه، وطمس الوجوه: محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة، وهذا المحو ليس هو المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها، بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها، فإذا كانت الوجوه تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإن الوجوه المطموسة لا تقصد إلا ما خلفته وراءها، ولا تمشي إليه إلا القهقرى، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة، كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه ودنياه لم ينل إلا شرا وفسادا، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، وليس بفالح أبدا، وقوله تعالى: (نطمس وجوها) فيه أنه - تعالى - أتى بالجمع المنكر، ولو كان المراد الجميع لم ينكر، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها هدف من ورائه حكمة، هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد، وهو إبعاد للجماعة بشر لا يلحق إلا ببعضهم، كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار والتخويف، لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب " (1).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net