متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
خامسا: العنكبوت والدعوة
الكتاب : وجاء الحق    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

خامسا: العنكبوت والدعوة

حذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين كفروا من أهل الكتاب، لأن الدعوة تقيم وجهها للدين وتتجه بالبشرية إلى الأمام، وتمدها على امتداد الطريق بالزاد الفطري الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، بينما تتقدم قافلة الذين كفروا إلى الخلف بزاد عذاب الطمس الذي ضربه الله عليهم بما كسبت أيديهم، وعلى امتداد هذا الطريق، كلما بالغ أصحابه في التقدم زادوا في التأخر، ولن يحصلوا على السعادة الحقيقية أبدا.

____________

(1) الميزان: 4 / 367.

الصفحة 25
ومن الآيات التي حذر فيها الله من الذين كفروا من أهل الكتاب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [ المائدة: 51 ]، قال في الميزان: " نهى عن مودتهم الموجبة إلى تجاذب الأرواح والنفوس، لأن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية المبنية على سعاة اتباع الحق، إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية، وقوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض)، أي: لتضارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم، المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى والاستكبار عن الحق وقبوله، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة، وليسوا على وحدة الملية، لكن يبعث القوم على الاتفاق ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق، ويخالف أعز المقاصد عندهم، وهو اتباع الهوى والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا، فهذا هو الذي جعل الطائفتين - اليهود والنصارى -، على ما بينهما من الشقاق والعداوة، مجتمعا واحدا، يقترب بعضه من بعض ويرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود النصارى وبالعكس، ويتولى بعض اليهود بعضا وبعض النصارى بعضا، وبالجملة، لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم، لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة، وربما أمكن أن يستفاد من قوله: (بعضهم أولياء بعض) معنى آخر وهو: أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذين هم أولياؤكم على البعض الآخر، ولا ينفعكم ذلك، فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم " (1).

ومن آيات التحذير أيضا قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) [ النساء: 44 - 45 ]، قال في الميزان: " أي

____________

(1) الميزان: 5 / 373.

الصفحة 26
أنك ترى اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، أي حظا منه، لا جميعه، كما يدعون لأنفسهم، يشترون الضلالة ويختارونها على الهدى، ويريدون أن تضلوا السبيل، فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه، وظهروا لكم في زي الصلاح، واتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين، فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم، لكنهم لا يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، والله أعلم منكم بأعدائكم، وهم أعداؤكم، فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم، فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياؤكم وأنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم " (1).

ومنها قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [ البقرة: 120 ]، قال في الميزان: " أي أن هؤلاء ليسوا براضين عنك حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثم أمر الله رسوله بالرد عليهم بقوله: (قل إن هدى الله هو الهدى)، أي أن الاتباع إنما هو لفرض الهدى، ولا هدى إلا هدى الله، أما غيره، وهو ملتكم، ليس بالهدى، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة " (2)، وقال ابن كثير: " وقوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم... الآية) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة من اتباع طريق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة، والخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: (حتى تتبع ملتهم) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة " (3).

____________

(1) الميزان: 4 / 363.

(2) المصدر نفسه: 1 / 265.

(3) تفسير ابن كثير: 1 / 163.


الصفحة 27
وبالجملة، حذر الله - تعالى - الأمة من تنظيمات أهل الكتاب، التي لها أهداف قريبة وأهداف بعيدة، والتي يحمل أعلامها الفرق المتعددة والطوائف المختلفة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) [ آل عمران: 100 ]، قال المفسرون: يحذر - تبارك وتعالى - عباده المؤمنين من أن يطيعوا فريقا من أهل الكتاب، الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم) [ البقرة: 109 ]، وهكذا قال هاهنا: (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) [ آل عمران: 100 ]، وفي آية أخرى قال تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) [ آل عمران: 69 ].

وباختصار، فالقاعدة العريضة منهم ودوا لو يردون الذين آمنوا من بعد إيمانهم كفارا، وهناك فرق حملت أعلام هذه القاعدة وانطلقت رجاء تنفيذ هذا الهدف، وهناك طائفة من أهل الكتاب مهمتها إطفاء الأنوار رغبة منها في أن تضل قافلة الذين آمنوا عن الطريق، والمعنى: أن الطائفة في خدمة الفريق، والفريق في خدمة القاعدة، وليس معنى هذا أن قاعدة أهل الكتاب خالية من العلماء الذين يبحثون عن الحقيقة، فهؤلاء أثر أقدامهم على الطريق، والإسلام لم يغلق أبوابه أمام الذين يريدون الاستبصار منهم في الدين، وقد أمر الله - تعالى - بمجادلتهم بالتي هي أحسن، فقال في آية محكمة: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) [ العنكبوت: 46 ]، وقوله: (إلا الذين ظلموا منهم) يعني أهل الحرب، وذكر - تعالى - في كتابه أن الذين قالوا إنهم من أتباع عيسى عليه السلام وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله، وما ذاك إلا لما في قلوبهم من الرقة والرحمة، ويوجد فيهم قسيسون، وهم خطباؤهم وعلماؤهم، ورهبانا، من صفتهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع والانقياد للحق واتباعه والإنصاف، وإذا سمعوا ما أنزل الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ترى أعينهم تفيض

الصفحة 28
من الدمع مما عرفوا من الحق، قال تعالى: (لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) [ المائدة: 82 - 84 ]، فهذا الصنف من النصارى كان أول ظهوره بالحبشة كالنجاشي وأصحابه، وهم المذكورون في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله) [ آل عمران: 199 ]، وهم الذين قال الله فيهم: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا تتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) [ القصص: 52 - 53 ]، ومنذ أيام النجاشي وعلى امتداد المسيرة الإسلامية، لم تغلق الدعوة أبوابها في وجوه الذين يريدون الاستبصار في الدين، لأن الله - تعالى - أمر رسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ليحذروا بأس الله تعالى، وأمره - تعالى - أن من احتاج من الناس إلى مناظرة وجدال، فليكن بالأسلوب الحسن برفق ولين وحسن خطاب.

فمن هذه النصوص ومن غيرها نعلم أن الدعوة الإلهية الخاتمة حذرت من اتباع أي مشروع تقدمه الطوائف أو الفرق التي تهدف من وراء برامجها الصد عن سبيل الله، وفي الوقت نفسه فتحت الدعوة أبوابها للباحثين عن الحقيقة من أهل الكتاب لتقيم الحجة عليهم وعلى غيرهم في كل مكان وزمان..


الصفحة 29


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net