متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - التقية في السنة
الكتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

2 - التقية في السنة:

تظهر التقية - بأجلى معانيها - في قصة الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان الله عليه، روى الحافظ ابن كثير في تفسيره قال: روى العوفي عن ابن عباس أن آية * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (2)، نزلت في عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك.

وروى ابن جرير بسنده عن أبي عبيد محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد.

____________

(1) تفسير القرطبي ص 3805 - 3807.

(2) سورة النحل: آية 106.

الصفحة 214
ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما تركت حتى سببتك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: إن عادوا فعد، وفي ذلك أنزل الله * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته (1).

هذا وقد خرج عن هذه الآية الكريمة (النحل: 106) رأي مدرسة الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق (80 هـ‍/ 669 م - 148 هـ‍/ 765 م) مع الإمام أبي حنيفة (80 هـ‍/ 669 م - 150 هـ‍/ 767 م) والإمام مالك، في فتواهما المشتركة للناس:

ليس على مكره يمين، حينما سئلا عن بيعتهما للخليفة العباسي المنصور (136 هـ‍/ 754 م - 158 هـ‍/ 775 م) وخروجهما عليه بعد البيعة (2).

وأما الإمام أبو حنيفة، فلقد أرسل له الإمام زيد بن علي زين العابدين (79 هـ‍/ 698 م - 122 هـ‍/ 740 م) الفضيل بن الزبير يدعوه إليه، غير أنه لم يستطع الخروج، وقال للرسول: إبسط عذري إليه، ومع ذلك فقد كان يحث الناس على نصرة الإمام زيد، كما أمده بمعونة مالية، - بلغت ثلاثين ألف درهم - يستعين بها على عدوه، ويروى أن أبا حنيفة قال لما بلغه خروج زيد - ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بدر، فقيل له: لم تخلف عنه؟

قال: حبسني عنه ودائع الناس، عرضتها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخفت أن أموت مجهلاً.

وقال الزمخشري في الكشاف: وكان أبو حنيفة يفتي سراً، بوجوب نصرة

____________

(1) تفسير ابن كثير 2 / 911 - 912 (دار الكتب العلمية - بيروت 1406 هـ‍/ 1986).

(2) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق - رائد السنة والشيعة ص 177.

الصفحة 215
زيد بن علي، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب، المسمى بالإمام أو الخليفة.

وروى أن محمد بن جعفر الصادق قال: رحم الله أبا حنيفة، لقد تحققت مودته لنا في نصرته زيد بن علي (1).

وفي أثناء ثورة الإمام محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي المنصور في عام 145 هـ‍، أفتى الإمام أبو حنيفة بالخروج مع إبراهيم، وكان المحدث الفقيه شعبة بن الحجاج (82 هـ‍/ 701 م - 160 هـ‍/ 776 م) يحث الناس على اتباعه، ويقول: ما يقعدكم؟ هي بدر الكبرى، كما أمده الإمام أبو حنيفة بأربعة آلاف درهم، وكتب إليه أنه لم يكن عنده غيرها (2).

وروى أن امرأة أتت أبا حنيفة فقالت: إنك أفتيت ابني بالخروج مع إبراهيم، فخرج فقتل، فقال لها: ليتني كنت مكان ابنك.

وكتب أبو حنيفة إلى إبراهيم يقول: أما بعد، فإني جهزت إليك أربعة آلاف درهم، ولم يكن عندي غيرها، ولولا أمانات للناس عندي للحقت بك، فإذا لقيت القوم، وظفرت بهم، فافعل كما فعل أبوك (يعني الإمام علي بن أبي طالب) في أهل صفين، أقتل مدبرهم، وأجهز على جريحهم، ولا تفعل كما فعل أبوك في أهل الجمل، فإن القوم لهم فئة، ويقال إن هذا الكتاب وقع إلى الدوانيقي (يعني أبو جعفر المنصور)، وكان سبب تغيره على أبي حنيفة (3).

وأما الإمام مالك، فلقد أفتى الناس أيضاً بالخروج مع محمد النفس الزكية،

____________

(1) تفسير الكشاف 1 / 64، شذرات الذهب 1 / 159، ابن البزار: مناقب الإمام أبي حنيفة 1 / 55 (حيدر الدكن 1321 هـ‍)، الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 146، المحلى: الحدائق الوردية 1 / 144.

(2) ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 130، وانظر: مقاتل الطالبيين ص 361، 364، 365، 367، 369.

(3) ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 130 (دار مكتبة الحياة - بيروت).

الصفحة 216
وبايعه، ولهذا فقد تغير المنصور عليه، فقيل: إنه خلع أكتافه (1).

وروى ابن الأثير في كامله: وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد (النفس الزكية) وقالوا: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته (2).

قال صاحب الجواهر - كما جاء في كتاب فقه الإمام جعفر الصادق - الاجتماع على ذلك، مضافاً إلى النصوص العامة، مثل رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه، ورواية زرارة عن الإمام أبي جعفر الصادق: ليس طلاق المكره بطلاق، ولا عتقه بعتق (3).

ولقد اختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي وأصحابه لا يلزمه شئ، وذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئاً، وكذا رأي ابن عمر وعطاء وطاوس والحسن البصري وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور، وأجازت طائفة طلاقه كالشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وقال أبو حنيفة طلاق المكره يلزم (4).

وفي تفسير ابن كثير: روى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام، وقلوبنا تلعنهم، وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان.

____________

(1) نفس المرجع السابق ص 126.

(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5 / 532.

(3) محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق - الجزء السادس ص 6 (دار الجواد - بيروت 1404 هـ‍/ 1984 م).

(4) تفسير القرطبي ص 3800.

الصفحة 217
وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة (1).

وروى الإمام مالك في الموطأ عن عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت.

استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: وأنا معه في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ابن العشيرة، ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه، فلما خرج الرجل قلت: يا رسول الله، قلت فيه ما قلت، ثم لم تنشب أن ضحكت معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره (2).

وروى البخاري في صحيحه (باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب) قال: حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا ابن عيينة سمعت ابن المنذر، سمع عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها أخبرته، قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إئذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام، قال: أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس - أو ودعه الناس - إتقاء فحشه (3).

وفيه من حديث أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم وفي رواية الكشميهني وإن قلوبنا لتقليهم أي تبغضهم، ويقول صاحب تفسير المنار: وأما المداراة - فيما لا يهدم حقاً، ولا يبني باطلاً - فهي كياسة مستحبة، يقتضيها أدب المجالسة، ما لم تنته إلى حد النفاق، ويستجز فيها الدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء، تصوناً من سفههم، واتقاء لفحشهم (4).

____________

(1) تفسير ابن كثير 1 / 535 (بيروت 1986).

(2) الإمام مالك بن أنس: الموطأ - صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه - محمد فؤاد عبد الباقي ص 563 - 564 (ط كتاب الشعب 1970).

(3) صحيح البخاري 8 / 20 - 21.

(4) تفسير المنار 3 / 231 - 232 (الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1973).

الصفحة 218
وفي مسند الإمام علي بن أبي طالب عن أبي مريم عن علي قال:

انطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتينا الكعبة، فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: إجلس، وصعد على منكبي فنفضته، فنزل، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إصعد على منكبي، قال: فنهض بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه ليخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تماثيل صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله يميناً وشمالاً، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقذف به، فقذفت به، فتكسر، كما تكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، نستبق حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد من الناس (1).

ويقول الطبري (2): وما يهمنا هنا في هذا الخبر: أن علياً رحمه الله، أخبر أنه حين رمى بالصنم من فوق الكعبة فتكسر، نزل فانطلق هو و رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسعيان حتى استترا بالبيوت، خشية أن يعلم بهما أحد، ولا شك أنهما لم يخشيا أن يعلم ما كان منهما من الفعل بالصنم أحد من المشركين، إلا كراهة أذاهم على أنفسهما، وأن يلحقهما منهم مكروه، لما كان فعلا بصنمهم.

وكذلك القول على كل خائف على نفسه من فرط أذى من لا طاقة له به، أن يناله به في نفسه، إذا هو غير هيئة بعض ما وجده معه، أو مع بعض أشيائه من الأشياء التي لا تصلح إلا لأن يعصى الله به، وهو بهيئته، في أنه في سعة من ترك تغييره عن هيئته، حتى يأمن ذلك على نفسه، فإذا أمن على نفسه، كان له تغييره من الهيئة عن هيئته، حتى يأمن من ذلك على نفسه، فإذا أمن على نفسه، كان له تغييره من الهيئة المكروهة إلى غيرها من الهيئات التي تصلح لغير معصية الله.

____________

(1) أبو جعفر الطبري: تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار - مسند الإمام علي بن أبي طالب - قرأه وخرج أحاديثه محمود محمد شاكر - ص 237 (ط جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية بالرياض).

(2) نفس المرجع السابق ص 242 - 243.

الصفحة 219
وفيه دلالة واضحة على صحة ما نقول من أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إنما يلزم فرضهما المرء المسلم على قدر طاقته، وعند أمانه على نفسه، أن ينال منها ما لا قبل لها به، فأما مع الخوف عليها أن تنال بما لا قبل لها به، فموضوع عنها فرض ذلك، إلا النكير بالقلب.

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تحين لكسر الصنم الذي كان فوق الكعبة، وقت الخلوة من عبدته، ومن يحضره لتعظيمه، كراهة أن ينالوه بمكروه في نفسه، لو حاول كسره بمحضر منهم، أو أن يحولوا بينه وبين ما يحاول من ذلك، ثم لم يقف بعد كسره إياه بموضعه، ولكنه أسرع السعي منه إلى حيث يأمن على نفسه أذاهم، وأن يعملوا أنه الذي ولى كسره، أو كان الذي سبب كسره (1).

وهناك حديث لا ضرر ولا ضرار، وحديث رفع عن أمتي تسعة أشياء:

الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق، وقول الرسول الأعظم وما اضطروا إليه صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحظورات (2).

وقال الإمام الغزالي (450 هـ‍/ 1059 م - 505 هـ‍/ 1111 م) في موسوعته إحياء علوم الدين (باب ما رخص فيه من الكذب): أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم، قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بكذب، فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما لا

____________

(1) مسند الإمام علي بن أبي طالب ص 242 - 243.

(2) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 50.


الصفحة 220
يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة (1).

وقال الإمام الرازي في التفسير الكبير، في تفسير قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * - بعد أن نقل الأقوال المختلفة في التقية - قال: روى عن الحسن البصري أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى - فيما يرى الرازي - لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (2).

ونعى الإمام الشاطبي (المتوفى 1388 م) في الموافقات على الخوارج إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم (المتوفى 1388 م) بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم (3).

وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في الأشباه والنظائر: لا يجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة (1445 - 1505 م) في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر، ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال، إلا نادراً، فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه (4).

وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي (5) (305 هـ‍/ 917 م - 370 هـ‍/ 981 م) - من أئمة الحنفية - في قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار

____________

(1) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 9 / 1588 (دار الشعب - القاهرة 1970).

(2) الشيعة في الميزان ص 50.

(3) الإمام الشاطبي: الموافقات 4 / 180.

(4) السيوطي: الأشباه والنظائر ص 76.

(5) أنظر عن الجصاص (تاريخ بغداد 4 / 314 - 315، معجم المؤلفين لكحالة 2 / 7 - 8، الفهرست لابن النديم ص 208، المنتظم لابن الجوزي 7 / 105 - 106، الأعلام للزركلي 1 / 165، البداية والنهاية لابن كثير 11 / 297، تذكرة الحفاظ للذهبي 959، الجواهر للقرشي 1 / 84 - 85، شذرات الذهب 3 / 71، فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي - المجلد الأول 1 / 102 - 104 - جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية 1403 هـ‍/ 1983 م).

الصفحة 221
الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم.

وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله) *، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (1).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن ابن المنكدر، سمع عروة بن الزبير يقول: حدثتني عائشة أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إئذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول، قال:

يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة ودعه أو تركه الناس، إتقاء فحشه (2).

وفي السيرة الحلبية: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال له حجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل، إن نلت منك، وقلت شيئاً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقول ما شاء (3).

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقله الجصاص

____________

(1) الجصاص: أحكام القرآن 2 / 10 (ط 1347 هـ‍).

(2) صحيح مسلم 16 / 144 (ط بيروت 1981 م).

(3) أنظر: السيرة الحلبية 2 / 761 - 763، تاريخ الطبري 3 / 17 - 19، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 223 - 224، سيرة ابن هشام 3 / 259 - 260، السيرة النبوية لابن كثير 2 / 407 - 492.

الصفحة 222
إلى الجمهور من أهل العلم، وهو الذي جاء في كل كتب السيرة، وهو بعينه ما تقول الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة، أما قصة نعيم بن مسعود الأشجعي، فأشهر من أن تذكر، وقد فصلتها كتب السيرة كذلك (1).

ويقول الأستاذ مغنية: لا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام، أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب الله، وسنة نبيه، ما ذكرنا آنفاً من الآيات والأحاديث، فضلاً عن أقوال أئمة السنة، وهو غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، ثم كيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة، إذا شابها أدنى شائبة من رياء (2).

وعلى أية حال، فالتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم (3). وعن ابن عباس إلا أن تتقوا منهم تقاة، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان، وعن عكرمة في قوله إلا أن تتقوا منهم تقاة، قال: ما لم يهرق دم مسلم، وما لم يستحل ماله (4).

هذا وقد روى الكليني - أكبر علماء الإمامية، والمتوفى 328 هـ‍/ 939 م - أخباراً كثيرة في التقية، فروى عن الإمام أبي عبد الله أنه قال: تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شئ، إلا في النبيذ والمسح على الخفين.

____________

(1) أنظر: مغازي الواقدي 2 / 480 - 487 (بيروت 1984)، ابن كثير: السيرة النبوية 3 / 214 - 217، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3 / 273 - 274، ابن حزم: جوامع السيرة ص 151 - 152 (القاهرة 1982)، عرجون: محمد رسول الله 4 / 181 - 189 (دمشق 1985)، أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 788 - 790، البوطي: فقه السيرة ص 1 / 22 (بيروت 1978)، الندوي: السيرة النبوية ص 219 - 220، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 211 - 214 (بيروت 1990)، الشيعة في الميزان ص 51.

(2) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 51.

(3) تفسير القرطبي ص 1299.

(4) تفسير الطبري 6 / 313 - 317.

الصفحة 223
وقال في قوله تعالى: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) * (1) قال:

بما صبروا على التقية، وما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين.

وقد سئل أبو الحسن عن القيام للولاة فقال: قال أبو جعفر الباقر: التقية من ديني، ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له.

وسئل الإمام أبو جعفر عن رجلين من أهل الكوفة أخذا، فقيل لهما: إبرآ من أمير المؤمنين علي عليه السلام، فبرئ واحد منهما، وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي برئ، وقتل الآخر، فقال: أما الذي برئ، فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ، فرجل تعجل إلى الجنة.

وأراد جماعة السير إلى العراق، فقالوا لأبي جعفر: أوصنا، فقال أبو جعفر: ليقو شديدكم ضعيفكم، ولتعد غنيكم على فقيركم، ولا تبثوا سرنا، ولا تذيعوا أمرنا.

وقال أبو عبد الله: إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق، فمن هتك علينا أذله الله (2).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net