متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
سابعاً: في أعقاب مأساة كربلاء
الكتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

سابعاً: في أعقاب مأساة كربلاء:

لا ريب في أن استشهاد مولانا الإمام الحسين وآل بيته الطاهرين المطهرين في كربلاء (في العاشر من المحرم عام 61 هـ‍= العاشر من أكتوبر عام 680 م) إنما هو يوم من أخطر الأيام في تاريخ البشرية جمعاء - وليس في تاريخ العرب والإسلام فحسب - ففي هذا اليوم الكئيب كانت مذبحة كربلاء التي لم ير المسلمون لها مثيلاً - بل لم ير لها تاريخ البشرية كله مثيلاً - فما حدثنا التاريخ أبداً، أن أمة من الأمم آمنت بنبيها وأحبته، وعملت بكتاب الله وسنة نبيها، كما عمل المسلمون على أيام الراشدين، ثم شاءت إرادة الله أن تجعل منهم - بفضل الله وببركة نبيه - سادة العالم المعروف وقت ذاك، ذلك العالم الذي لم يكن - قبل الإسلام - يعترف بوجودهم، أو يقيم لهم وزناً إلا يكونوا خدماً له، وحرساً على قومهم، حتى كان العربي يقتل أخاه العربي، ابتغاء مرضاة الفرس أو الروم، حين اتخذ الفرس قبائل من العرب - عرفوا باللخميين أو المناذرة - واتخذ الروم قبائل من بني غسان، أعواناً لكل منهم ضد الآخرين (2).

ومع ذلك، ففي هذا اليوم المنكود، قام جيش اللئام - على أيام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان - بمذبحة مروعة، قتل فيها سيدنا الإمام الحسين، وقتل

____________

(1) أسد الغابة 4 / 164، وانظر 4 / 166 - 167.

(2) أنظر عن المناذرة والغساسنة (محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم - ط ثامنة - الإسكندرية 1990 ص 561 - 625).

الصفحة 403
معظم الهاشميين، ثم فعل اللئام - بأجسادهم الطاهرة، من قطع للرؤوس، ووطء للأجساد الطاهرة بسنابك الخيل - ما يخجل الشيطان من اقترافه، إن كان الشيطان يخجل، وقد بكى المسلمون جميعاً، حتى أعداء بيت النبي صلى الله عليه وسلم - مولانا الإمام الحسين، وما زالوا يبكونه حتى يوم الناس هذا.

ومن البديهي أن خطيئة كبرى - كمجزرة كربلاء - لن تذهب بغير جريرة، وأن تكون لها من النتائج الخطيرة - القريبة منها والبعيدة - حتى دخل في روع بعض المؤرخين، نتيجة لإصابة الحركة في نتائجها الواسعة، أنها من تدبير الإمام الحسين عليه السلام، وأنه توخاه منذ اللحظة الأولى، وعلم موعد النصر فيه، فلم يخامره شك في مقتله ذلك العام، ولا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق، لا محالة، بقاتليه بعد أعوام.

وقد قال ماريين الألماني في كتابه السياسية: إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير، عز عليه الإذعان، وعز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه، الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة، ليس لها بغير ذلك حياة.

وفي الواقع، إن لم يكن رأي الكاتب حقاً كله - كما يقول الأستاذ العقاد - فبعضه على الأقل حق لا شك فيه، ويصدق ذلك على حركة الإمام الحسين، بعد أن حيل بينه وبين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان، ولم يجهل ما يحيق ببني أمية من جراء قتله، فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه، ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من كربلاء (1).

____________

(1) أنظر عن مذبحة كربلاء (تاريخ الطبري 5 / 347 - 470، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 46 - 94، تاريخ ابن خلدون 3 / 47 - 53، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 162 - 230، المسعودي:

مروج الذهب 2 / 49 - 59، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 125 - 136، ابن دقماق: المرجع السابق ص 59 - 60، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 1 / 332 - 335، ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 1 / 378 - 384، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 73 - 131 (بيروت 1990)، تاريخ اليعقوبي 2 / 243 - 250.

الصفحة 404
هذا ولم تنقض سنتان على مذبحة كربلاء، حتى كانت المدينة المنورة - أي في أخريات عام 63 هـ‍(682 م) - في ثورة حنق جارف، يقتل السدود، ويخترق الحدود، لأن اللئام من بني أمية حملوا إليها خبر مقتل الإمام الحسين، محمل التشهير والشماتة، وضحك واليهم عمرو بن سعيد، حين سمع أصوات البكاء والصراخ من بيوت آل النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بنت عقيل بن أبي طالب، تخرج في نسائها، حاسرة وتنشد:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم درجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم

فكان الأمويون يجيبون بمثل تلك الشماتة، ويقولون ناعية كناعية عثمان، وبدهي أنه لا موضع للشماتة بالإمام الحسين، ذلك لأنه إنما قد أصيب - وكذا أخوه الإمام الحسن - وهما يذودان عنه ويجتهدان في سقيه، وسقي آل بيته، ولكنها شماتة هوجاء، لا تعقل ما تصنع ولا ما تقول، وكان أبوهما الإمام علي أمرهما أن اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، ولا تدعا أحد يصل إليه، وحين قتل الخليفة المظلوم، ثار عليهما، ولطم الحسن، وضرب الحسين، بينما كان هذا الوالي السفيه حيث يعلم الله (1).

وسرعان ما حدثت وقعة الحرة في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين (28 سبتمبر 682 م) فقتل فيها خلق كثير، واستبيحت مدينة الرسول ثلاثة أيام، وأوقع مسلم بن عقبة المري وجيشه من جنود الشام - والمكون من عشرة آلاف فارس، وقيل اثنا عشر ألفاً، أو خمسة عشر ألف

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 466 - 467، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 88 - 89، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 214.

الصفحة 405
رجل - كثيراً من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية، ما لا يحد ولا يوصف، حتى ذهبت بعض المصادر إلى أن عدد القتلى بلغ ألفاً وسبعمائة من بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف، سوى النساء والصبيان، وقتل من حملة القرآن سبعمائة، ومن قريش 97 قتلوا ظلماً في الحرب صبراً، وافتضت ألف عذراء، روى المدائني بسنده عن أبي قرة قال هشام بن حسان: ولدت بعد الحرة ألف عذراء من غير زواج، وروى المدائني أيضاً بسنده عن أم الهيثم ابنة يزيد قالت: رأيت امرأة من قريش تطوف فعرض لها أسود فعانقته فقبلته، فقلت: يا أمة الله أتفعلين هذا بهذا الأسود، فقالت:

هو ابني، وقع علي أبوه يوم الحرة.

ويقول ابن حزم: وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالت وراثت بين القبر والمنبر (الروضة الشريفة) أدام الله تشريفها، وأكره الناس على البيعة على أنهم عبيد ليزيد، إن شاء أعتق (1).

وسرعان ما ينتقل موكب الشر إلى البلد الحرام - إلى مكة المكرمة - فيحاصرها، ويضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق حتى يحرقها، وكان سعيد بن المسيب يسمي سني يزيد بالشؤم، في السنة الأولى قتل الحسين بن علي، وأهل بيت رسول الله، والثانية استبيح حرم رسول الله، وانتهكت حرمة المدينة، والثالثة سفكت الدماء في حرم الله، وحرقت الكعبة (2).

____________

(1) أنظر عن وقعة الحرة (تاريخ اليعقوبي 2 / 250 - 251، ابن دقماق: المرجع السابق ص 60، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 136 - 139، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 111 - 121، تاريخ الطبري 5 / 482 - 495، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 235 - 243، المسعودي: مروج الذهب 2 / 63 - 65، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 183 - 189.

(2) أنظر عن شرب الكعبة بالمنجنيق أيام الأمويين (ابن فهد الهاشمي: غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام 1 / 141 - 144، 182 - 188، الفاسي: العقد الثمين 5 / 45 - 59، 143 - 144، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 123 - 124، الأزرقي: أخبار مكة 1 / 196 - 221، النجم عمر بن فهد: إتحاف الورى بأخبار أم القرى 1 / 58 - 77، 88 - 99، 103 - 104، تاريخ

=>


الصفحة 406
ولعل كل هذه المآسي هي التي دفعت بالبعض إلى القول إلى أنه من بين الأحداث التي رأى الباحثون أنها بداية التشيع إنما هو فاجعة كربلاء، ذلك أن السيف اللئيم الذي جز رأس مولانا الإمام الحسين - سبط النبي صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة - إنما قد جز معه وحدة المسلمين إلى اليوم، ومن ثم فإن استشهاد سيدنا الإمام الحسين إنما يعتبر نقطة تحول هامة في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع، إذ لم يقتصر أثر تلك الكارثة الأليمة إلى إذكاء نار التشيع في نفوس الشيعة، وتوحيد صفوفهم - وكانوا من قبل متفرقي الكلمة، مشتتي الأهواء - بل ترجع أهمية تلك الكارثة إلى أن التشيع كان قبل استشهاد الإمام الحسين، مجرد رأي سياسي لم يصل إلى قلوب الشيعة، فلما قتل الإمام الحسين امتزج التشيع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم، وبالتالي فقد أصبح عقيدة راسخة في نفوسهم.

وهكذا بينما كان الشيعة بعد وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتعدى طائفة قليلة من الناس، يرون أن الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم وجهه في الجنة - لصفات فيه - أحق الناس بالإمامة وبينما ناصر كثير من المسلمين الإمام علي بن أبي طالب، حينما آل إليه الأمر بعد مقتل عثمان، رضي الله عنه لأنه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين - أو لأسباب أخرى - فإن هذه الدماء التي أريقت في كربلاء - وهي دماء آل بيت النبي، وعلى رأسهم الإمام الحسين - إنما قد ركزت الانتباه إلى مدى ما لاقاه بيت النبوة، من اضطهاد وقتل، ومن ثم فقد أصبح التشيع مقروناً بأحقية آل البيت في الخلافة.

____________

<=

الطبري 5 / 496 - 499، 6 / 187 - 195، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 243 - 245، 270 - 271، ابن دقماق: المرجع السابق ص 60 - 61، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 139 - 142، 162 - 168، تاريخ اليعقوبي 2 / 251 - 253، 266 - 267، 272، مروج الذهب 2 / 65، 75، 100 - 103، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 2 / 14 - 15، ابن الطقطقي: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص 95).

الصفحة 407
وهكذا فإن دماء الإمام الحسين الطاهرة - فضلاً عن دماء أهل بيته - إنما هي التي أنبتت العقيدة الشيعية في صورتها النهائية، فلقد أدرك الشيعة - بعد كارثة كربلاء - أن لا قبل لهم بمقاومة جيوش بني أمية بالقوة والسيف - خاصة وقد رأوا ما فعلت جيوش اللئام بالمدينة المنورة ومكة المكرمة - ومن ثم فقد استعانوا على أمرهم بمبدأ التقية، ثم تحول الشيعة أيضاً، بعد كارثة كربلاء، إلى مقاومة الأمويين بقوة أخرى - غير قوة السلاح - قوة معنوية، لا تصمد لها أيديولوجية الدولة الأموية في الحكم، وهي قوة الفكر الذي ارتبط بالدين، فأصبح في الناس عقيدة (1).

وهكذا قامت حركة التوابين بقيادة الصحابي الجليل - سليمان بن صرد (2) - الذي سمي أمير التوابين، حيث جمع أنصاره في النخيلة في ربيع الآخر عام 65 هـ‍، وسار بهم إلى قبر الإمام الحسين، وطبقاً لرواية ابن الأثير فما أن وصلوا إلى القبر الشريف، حتى صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه، وتابوا عنده من خذلانه، وترك القتال معه، ثم نادوا - فيما يروي الطبري - يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه، الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوا عليه، فإن لم تعفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ثم أقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه.

واتجه سليمان بجيشه نحو الشام، حتى إذا ما وصلوا إلى عين الوردة دارت رحى الحرب بينهم وبين جند الشام، وأبلى التوابون بلاءً حسناً، فكان لهم النصر أول الأمر، غير أن ابن زياد سرعان ما أمد جيش الشام باثني عشر ألفاً،

____________

(1) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 47 - 48، وانظر 335. p , iii , encyclopedia of islam.

(2) أنظر عن سليمان بن صرد (أسد الغابة 2 / 449 - 450، الإصابة في تمييز الصحابة 2 / 75 - 76، الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 63 - 65).

الصفحة 408
بقيادة الحصين بن نمير، ثم بثمانية آلاف، بقيادة ابن ذي الكلاع، فأحاطوا بالتوابين من كل جانب، ورأى سليمان ما يلقى أصحابه من شدة، فترجل عن فرسه، وهو يومئذ في الثالثة والتسعين من عمره، وكسر جفن سيفه، وصاح بأصحابه: يا عباد الله، من أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فليأت إلي.

واستجاب له الكثيرون، وحذوا حذوه، وكسروا جفون سيوفهم، وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى أصيب أميرهم سليمان بسهم، فوثب ووقع، ثم وثب ووقع، وهو يقول فزت ورب الكعبة، وحمل الراية بعده المسيب بن نجية فقاتل بها حتى استشهد، رحمه الله، وانتهت المعركة إلى جانب أهل الشام، بعد أن ترك التوابون أمثلة رائعة للبطولة والفداء، التي استمدت روحها من مواقف الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، والتي لها صداها في النفوس، وأثرها القوي في التاريخ الإنساني كله (1).

وهكذا يرى كثير من المؤرخين أن التشيع - كعقيدة - إنما يبدأ بعد مأساة كربلاء، يقول ستروثمان في دائرة معارف الإسلام: إن دم الإمام الحسين الذي أراقته سيوف الحكومة القائمة، إنما يعتبر البذرة الأولى للتشيع كعقيدة (2)، والأمر كذلك بالنسبة إلى ول ديورانت الذي يرى أن نشأة طائفة الشيعة، إنما كان على أثر مقتل الحسين وأسرته (3).

ويقول الدكتور الخربوطلي: كانت هناك نتائج دينية هامة تخلفت عن

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 551 - 563، 5 / 583 - 609، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 175 - 189، المسعودي: مروج الذهب 2 / 83 - 86، تاريخ اليعقوبي 2 / 257، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 271 - 277، أسد الغابة 2 / 18 - 23، البلاذري: أنساب الأشراف 5 / 204 - 214، علي النشار: المرجع السابق ص 21، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 191 - 193.

(2) دائرة معارف الإسلام 3 / 350.

(3) ول ديورانت: قصة الحضارة 4 / 32.

الصفحة 409
فاجعة كربلاء، فنحن لا يمكننا أن نفسر دعوة شيعة الكوفة للإمام الحسين، ثم خذلانهم له، إلا بضعف العقيدة في نفوسهم وقت ذاك ذلك لأن العقيدة لم تكن قد اختمرت في نفوسهم، ولا تملكت قلوبهم، ولكن الحال قد اختلف بعد مقتل الإمام الحسين، فقد كانت دماؤه أبعد أثراً من دماء أبيه الإمام علي في نمو حركة الشيعة وازدياد أنصارها، بل يمكننا أن نقول: إن الحركة الشيعية إنما بدأ ظهورها في العاشر من المحرم عام 61 هـ‍(10 أكتوبر عام 680 م) وصبغت مبادئ الشيعة بصبغة دينية، فاتجهت الشيعة بعد مقتل الإمام الحسين اتجاهاً دينياً، بل غلب الجانب الديني في التشيع الجانب السياسي (1).

وهكذا نرى أن حركة التشيع كانت ما تزال متعثرة في طريقها - حتى كارثة كربلاء - لأن التشيع في نظر أهل العراق إنما كان مرتبطاً بذكرى حكم الإمام علي، الذي يمثل زعامة العراق بين الأمصار (2)، ثم كان لاستشهاد الإمام الحسين، عليه السلام، أثر كبير في نفوس شيعته، وقد أغنت هذه الحادثة الأدب العربي بالروائع، وألفت الكتب الكثيرة في مقتل الإمام الحسين (3).

وهكذا كان تبلور الحركة السياسية تحت اسم الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين مباشرة (4)، ومن ثم فقد أصبحت كلمة الشيعة - بعد مقتل الحسين - تطلق مفردة، فيقال الشيعة، ولا يقال شيعة علي أو شيعة الحسين، وهذا يعني أن مفهوم الشيعة كجماعة بدأ في الوضوح والتحديد (5)، ويذهب الشيخ المفيد إلى أن كلمة شيعة إذا دخلت عليها أل التعريف، فهي على

____________

(1) علي حسني الخربوطلي: تاريخ العراق في ظل الأمويين ص 123، أحمد صبحي: المرجع السابق ص 48 - 49.

(2) الدوري: مقدمة في صدر الإسلام ص 61.

(3) أنظر كأمثلة (ابن طاووس: كتاب اللهوف في قتلى الطفوف، ابن نما الحلي: كتاب مثير الأحزان، الخوارزمي: كتاب مقتل الحسين، جمال الطاووس: عين العبرة في غبن العترة).

(4) الشيبي: المرجع السابق 1 / 17.

(5) نبيلة عبد المنعم داوود: المرجع السابق ص 76.


الصفحة 410
التخصيص لأتباع أمير المؤمنين (1) (علي بن أبي طالب).

وعلى أية حال، فيتضح لنا من الروايات التاريخية أن الشيعة أصبحت - بعد خروج التوابين - حزباً سياسياً واضح المفهوم، فكان يقال الشيعة وشيخ الشيعة فيعرف مدلولها (2).

وهكذا لم يكن أثر مقتل الإمام الحسين يقف عند انشقاق فريق من المسلمين باسم الشيعة، أو يشكل مجرد عقائد الشيعة حتى تميزت بها عن سائر فرق المسلمين، وإنما كانت دماؤه بحق هي التي ظلت طوال القرون، تروي عقائد الشيعة، فصمدت هذه الفرق، على العالم الرغم مما أصابها من اضطهاد فكري وسياسي، وعلى الرغم ما جد على العالم من أحداث وتطورات، ولم يكن الأمر وقفاً على تلك العاطفة الحزينة التي صبغت عقيدة الشيعة، أو على تلك المرثيات التي يرددونها دائماً، والتي تزدخر بها كتبهم، لتظل النفوس عالقة بتلك العقائد، منفعلة بتلك الكوارث، تتخذ من مصرع مولانا الإمام الحسين مثلاً أعلى في الصبر على البلاء والاستشهاد، وإنما أمدتهم تلك الدماء الطاهرة بما جعلهم على رأيهم ثابتين، بالرغم من تحالف قوى الفكر عليهم - من سنة ومعتزلة ومرجئة وخوارج (3) - وبالرغم من الاضطهاد السياسي العنيف الذي حاق بهم في العصرين: الأموي (41 - 132 هـ‍/ 661 - 750 م) والعباسي (132 - 656 هـ‍/ 750 - 1258 م) (4).

وهكذا جعلت كارثة كربلاء من التشيع مذهباً وعقيدة، فلقد روى دم الإمام الحسين، عليه السلام، موات الأحداث ليصبح الانشقاق أمراً مقضياً،

____________

(1) الشيخ المفيد: أوائل المقالات في المذاهب و المختارات ص 3 (تبرير 1371 هـ‍).

(2) نبيلة عبد المنعم داوود: المرجع السابق ص 78، وانظر: تاريخ الطبري 5 / 558 - 559.

(3) أنظر عن هذه الفرق (البغداد: الفرق بين الفرق - دار المعرفة - بيروت، ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل - القاهرة 1964 (5 أجزاء)، الشهرستاني: الملل والنحل - القاهرة 1968 (3 أجزاء)، الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية - القاهرة 1959).

(4) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 49 - 50.

الصفحة 411
ذلك أن الشيعة قد أدركت بعد هذه الفاجعة الأليمة، أن اقتلاع سلطان الغاصبين من بني أمية وغيرهم، لا تكفي فيه قوة السلاح، إنه إن عز النصر بسلاح الحرب، فلا بد من قوة معنوية تشد أزر القوة المادية، وليس ذلك إلا سلاح الفكر، إذ أن الكلمة أحياناً أبقى أثراً، وأشد تنكيلاً بالعدو من السيف، ومن ثم فقد بات لزاماً أن يكون للشيعة مذهب خاص، وإيديولوجية مثمرة في الإمامة، ولن يتسنى ذلك ما دامت تربطهم بأهل السنة وحدة الفكر، وهكذا جعلت فاجعة كربلاء انشقاق الشيعة عن جمهور المسلمين أمراً مقضياً (1).

على أن الصورة النهائية لعقائد الشيعة لم تظهر إلى حيز الوجود في أعقاب استشهاد الإمام الحسين مباشرة، وربما احتاج ذلك إلى عشرات من السنين حتى تتبلور هذه العقائد، عير أن الفرق التي تندرج تحت اسم الشيعة - المعتدلين فيهم - إنما قد بدأ ظهورها بعقائدها عقب مأساة كربلاء، منذ بدأت فرقة الكيسانية (2) التي تعتبر أولى الفرق التي ظهرت في التيار العام للحركة الشيعية، على اعتبار أن حركة ابن سبأ لا تدخل في هذا التيار العام، إذ صدرت عن باعث الفتنة، لا عن ينبوع العقيدة، من ناحية، ولأن حركة ابن سبأ إنما تعتبر بوجه عام - أولى حركات الغلاة، لا المعتدلين (3)، من ناحية أخرى، ولأن الشيعة أنفسهم لا يعترفون بها - هذا إن كان هناك من يدعى ابن سبأ حقاً -.

وهكذا يمكن القول إن التشيع كفكرة إنما لاحت في عصر النبوة مع العباس بن عبد المطلب في إلحاحه على الإمام علي بالاستفسار من النبي صلى الله عليه وسلم، عن البيعة والوصية الكتابية فرفض الإمام علي (4)، ولكنها ولدت ولادة صحيحة

____________

(1) أحمد صبحي: الزيدية ص 6 - 17.

(2) أنظر عن الكيسانية (البغدادي: الفرق بين الفرق ص 38 - 53، الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية ص 288 - 289، الشهرستاني: الملل والنحل ص 147).

(3) أحمد صبحي: نظرية الإمامة ص 50.

(4) محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 484 - 485.

الصفحة 412
يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وشبت بعد قتل عثمان وحرب معاوية بن أبي سفيان للإمام علي، ومن قبل ذلك خروج السيدة عائشة وطلحة والزبير، ثم موقعة الجمل، ثم نضجت يوم استشهاد الأئمة - علي والحسين وزيد ويحيى وغيرهم من كرام الأئمة - حتى اتخذت ثوب التقية وتدرعت به لتحفظ رسالة الإمام الصادق، كإمام قاعد، يعيش للعلم، يدرسه عن ربه ونبيه وأجداده، ويعلمه ويعمل، ويدرس ما اختلف فيه، فيكون أعلم الناس، لعلمه باختلاف الناس (1)، كما قال عنه الإمام أبو حنيفة.

ومن هنا أكد مؤرخو الشيعة أن التراث الشيعي إنما قد عاش، لأن أربعة عشر قرناً تعيش في تياراته، وتغني المضمون الروحي للفكر الإسلامي من خلال صراع آرائه (2).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net