الشبهة الأولى: عدم رد فدك في خلافة أمير المؤمنين
لعل هناك من يقول: إنكم تدّعون أن فدك هي نحلة لفاطمة، وأن أبا بكر كان ظالماً لها، إذن لماذا في خلافة أمير المؤمنين لم يُرجعها إلى أولادها، فيفهم من ذلك أنه أقرّ عمل الخليفة أبو بكر؟
نقول: إن هذا الإشكال مدفوع بأمرين:
الأمر الأول: التقية الشديدة لخوف الفرقة وشر الفتنة
قال السيد المرتضى رحمه الله:
>فأما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين× فدك لما أفضى الأمر إليه، واستدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها، فالوجه في تركه× رد فدك هو الوجه في إقراره أحكام القوم، وكفه عن نقضها وتغييرها، وقد بيناه في هذا الكتاب مجملاً ومفصلاً, وذكرنا أنه× كان في انتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية<([1]).
نعم أمير المؤمنين كان يعيش التقية الشديدة، ولم يستطع تغيير بعض السنن التي أقرها الخلفاء قبله؛ لأنه سوف يتهم بأنه أتى شيئاً منكراً، ولتفرّق عنه الناس.
وهذا ما نجده في خطبته× التي يرويها الكليني رحمه الله في الروضة بسند صحيح ([2]).
عن سليم بن قيس قال: خطب أمير المؤمنين× فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي’, ثم قال: >إني سمعت رسول الله’ يقول: كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير, يجري الناس عليها ويتخذونها سنة، فإذا غير منها شيء قيل: قد غيرت السنّة، وقد أتى الناس منكراً، ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة، كما تدق النار الحطب، وكما تدقّ الرحى بثفالها، ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته، فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله’ متعمدين لخلافه, ناقضين لعهده مغيرين لسنّته، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله’ لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله’.
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم× فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله’, ورددت فدك إلى ورثة فاطمة÷ و رددت صاع رسول’ كما كان, وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله’ لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ.... إلى آخر الرواية<([3]).
وهذا الكلام غير مقصور على رواية الكليني لهذا الحديث؛ بل روته كتب القوم عن عبد الله بن مسعود، قال:
>كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير, ويهرم عليها الكبير, وتتخذ سنة مبتدعة جرى عليها الناس, فإذا غير منها شيء قيل: غيرت السنّة<
ورواية الكليني صريحة في أن أمير المؤمنين في زمان خلافته، لا يستطيع تغيير الأحكام لأنه لو غير شيئاً لاتهم بتغيير سنة رسول الله’، ولتفرق عنه جنده وبقي وحيداً.
ونظرُ أمير المؤمنين× هو إلى زوال الإسلام عن مساره الصحيح، فأراد إن يحافظ عليه بهذا القدر الذي عاشه في زمن خلافته.
ولصدق ما قاله أمير المؤمنين، ورد فرضية انه أقر حكم أبي بكر.
فإن عمر بن عبد العزيز لما تولى الأمر ردّ فدك على ولد فاطمة÷، وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: >إن فاطمة÷ قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم؟ فكتب إليه: أما بعد, فإني لو كتبت إليك أمرك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها، فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة÷ من علي×، فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه، وقالوا له: (هجنت فعل الشيخين).
وقيل: إنه خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال لهم: (إنكم جهلتم وعلمت, ونسيتم وذكرت, إن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله’، قال: (فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني, ويرضيني ما أرضاها<([5]).
وكذلك ردّها المأمون على الفاطميين سنة ( 210 ه ) وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة:
>أما بعد, فإن أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله’ والقرابة به أولى من استن سنته، ونفذ أمره، وسلم لمن منحه منحة وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته، وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته وإليه في العمل بما يقربه إليه رغبته، وقد كان رسول الله’ أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك وتصدق بها عليها, وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه.
بين آل رسول الله’ ولم تزل تدعي منه ما هو أولى به من صدق عليه، فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها ويسلمها إليهم تقرباً إلى الله تعالى بإقامة حقه وعدله وإلى رسول الله’ بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه والكتاب به إلى عماله، فلئن كان ينادي في كل موسم بعد أن قبض الله نبيه’ أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وتنفذ عدته، إن فاطمة÷ لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله’ لها<([6]).
وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا برد مـأمون هـاشما فـدكا
إذن لا يمكن قبول أن الإمام علياً× أقرَّحكم أبي بكر بعدم إعطاء فدك للزهراء. فالدليل واضح من إعادة وإرجاع فدك في خلافة عمر بن عبد العزيز والمأمون.
إن قيل: هل أن عمر بن عبد العزيز أو المأمون هم أكثر عدلاًً من علي×؟
قلنا: علي مع الحق والحق يدور معه حيث دار([7])،
أليس هو القائل والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم, وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم, وبين أهل الزبور بزبورهم, وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى يظهر كل كتاب من هذه الكتب، ويقول: يا رب إن علياً قد قضى بقضائك. ولكن الإمام يرى أنه لو غير حكماً، ولو كانت فدك، لاتهم× بتغيير سنة رسول الله، ومعلوم حكم من يغيّر السنة.
إذن علي× يرى أن الفتنة والفرقة تكون منشأً وسبباً لو قام بإرجاع فدك لأولاده. بعكس ما لو فعله عمر بن عبد العزيز أو المأمون.
إن قيل: إنّ علياً خالفهم في مسائل فما بال فدك؟
قلنا: ليس في تلك ما يؤدي إلى تظليم القوم، وتحريك الأحقاد الكامنة فيهم, وقد وافقهم في كثير، ولهذا قال لقضاته: اقضوا كما كنتم تقضون, حتى تكون الناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي, فلينظر العاقل ما في هذه الأحوال([8]).
الأمر الثاني: فدك ملك لأهل البيت^
إن أمير المؤمنين× يرى أن فدك هي لأهل البيت؛ وذلك من خلال ما كتبه إلى عثمان بن حنيف قوله: >بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين<([9]).
ففدك إذن كانت في يد علي×، واليد إمارة على الملك.
وعليه فلابد أن نحمل عمل الإمام علي $ ثلاثة وجوه.
أـ أنه كان يخص ورثة الزهراء وهم أولادها وزوجها بحاصلات فدك، وليس في هذا التخصيص ما يوجب إشاعة الخبر؛ لأن المال كان عنده وأهله الشرعيون هو وأولاده.
ب ـ يحتمل أنه كان ينفق غلاتها في مصالح المسلمين برضى منه ومن أولاده عليهم الصلاة والسلام.
ج ـ بل لعلهم أوقفوها وجعلوها من الصدقات العامة ([10]).
إذن هذا الإشكال وهذه الشبهة لا تصمد أمام ما قدمناه ووقرناه.
4- إبراهيم بن عثمان: مصحف إبراهيم بن عمر اليماني الصنعاني، شيخ من أصحابنا ثقة، ضعفه ابن الغضائري ولا يلتفت إلى تضعيفه بعد توثيق النجاشي له. وكذلك قول العلامة الحلي في الخلاصة: والأرجح عندي قبول روايته. انظر رجال النجاشي ص20. خلاصة أقوال الرجال ص51.
قال السيد الخوئي في ترجمته لإبراهيم بن عثمان اليماني في كتابه (معجم رجال الحديث ج1 ص235): ( إنّ ابن داود لم يذكره مع أن نسخة الرجال بخط الشيخ كانت عنده, وكذلك لم يذكره العلامة والسيد التفريشي, والميرزا في رجاليه وإنما ذكر كلهم إبراهيم بن عمر اليماني, ويؤكد ذلك عدم تعرض الشيخ له في الفهرست مع أنه ذكر أن له كتاباً رواه عن أبي جعفر, وأبي عبد الله عليهما السلام، ويؤيد ذلك عد البرقي إبراهيم بن عمر اليماني, من أصحاب الباقر والكاظم عليهما السلام )؛ إذن التصحيف وارد, وما قاله السيد الخوئي & في محله.
|