متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
حقيقة الرؤى والمنامات
الكتاب : شبابنا ومشاكلهم الروحية    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

 

وستتم معالجة المشكلة من خلال النقاط التالية:

النقطة الأولى: حقيقة الرؤى والمنامات: في هذه النقطة سنحاول التعرف على حقيقة الرؤى والمنامات وكيف تحصل للإنسان عند نومه، وأول بيان عن حقيقة الرؤى والمنامات نقدمه للقارئ هو ما ينقله العلامة المجلسي في "بحار الأنوار" عن بعض الحكماء إذ يقول: "إن للنفوس الإنسانية اطلاعاً على الغيب في حال المنام وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك من نفسه تجارب أوجبته التصديق، وليس ذلك بسبب الفكر، فإن الفكر في حال اليقظة التي هو فيها أمكن يقصر عن تحصيل مثل ذلك، فكيف في حال النوم، بل بسبب أن النفوس الإنسانية لها مناسبة الجنسية إلى المبادئ العالية المنتقشة بجميع ما كان وما سيكون وما هو كائن في الحال، ولها أن تتصل بها اتصالاً روحانياً وأن تنتقش بما هو مرتسم فيها، لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها عن الاشتغال بغير تلك الأفاعيل، وليس لنا سبيل إلى إزالة عوائق النفس بالكلية عن الانتقاش بما في المبادئ العالية، لأن أحد العائقين هو اشتغال النفس بالبدن، ولا يمكن لنا إزالة هذا العائق بالكلية مادام البدن صالحاً لتدبيرها، إلا أنه قد يسكن أحد الشاغلين في حالة النوم، فإن الروح ينتشر إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل الإدراك بها، وهذه الحالة هي اليقظة فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، فإذا انخنس الروح إلى الباطن تعطلت هذه الحواس وهذه الحالة هي النوم، وبتعطلها يخف إحدى شواغل النفس عن الاتصال بالمبادئ العالية والانتقاش ببعض ما فيها، فيتصل حينئذ بتلك المبادئ اتصالاً روحانياً، ويرتسم في النفس بعض ما انتقش في تلك المبادئ وما استعدت هي لأن تكون منتقشة به، كالمرايا إذ احوذى بعضها ببعض، والقوة المتخيلة جبلت محاكية لما يرد عليها، فتحاكي تلك المعاني المنتقشة في النفس بصور جزئية مناسبة لها، ثم تصير تلك الصور الجزئية في الحس المشترك فتصير مشاهدة، وهذه هي الرؤيا الصادقة.

ثم إن الصور التي تركبها القوة المتخيلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس حتى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركبتها القوة المتخيلة تفاوت إلى في الكلية والجزئية، كانت الرؤيا غنية عن التعبير، وإن لم تكن شديدة المناسبة إلا أنه مع ذلك تكون بينهما مناسبة بوجه ما، كانت الرؤيا محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع من الصورة التي في الخيال إلى المعنى الذي صورته المتخيلة بتلك الصورة. وأما إذا لم تكن بين المعنى الذي أدركته النفس وبين الصورة التي ركبتها القوة المتخيلة مناسبة أصلاً لكثرة انتقالات المتخيلة من صورة إلى صورة لا تناسب المعنى الذي أدركته النفس أصلاً، فهذه الرؤيا من قبيل أضغاث الأحلام، ولهذا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر والكاذب، لان قوتهما المتخيلة قد تعودت الانتقالات الكاذبة الباطلة". وفي تعليقته على "بحار الأنوار" يعطى محمد تقي المصباح اليزدي بعض التصورات عن حقيقة الرؤيا فيقول: "لا ريب أن النائم عند ما يرى شيئاً من المنامات تحصل له إدراكات من غير طرق الحواس الظاهرة، وتسمية تلك الإدراكات بالخيالات لا تخرجها عن واقعها، فإن الخيال حتى الفاسد الباطل منه له حصول في الذهن ووجود علمي للنفس، وإنما فساده وبطلانه من ناحية عدم انطباقه على الخارج. ولا ريب في حكاية كثير من المنامات عن وقوع أشياء في الخارج في ما مضى أو ما يأتي مع عدم سبيل للرائي حتى في حال يقظته إلى الاطلاع على شيء منها، وهي أكثر من أن يمكن حملها على الصدفة والاتفاق، وخاصة منامات الأنبياء والأولياء المشتملة على الوحي والإلهام، كما أنه لا ريب في أن كثيراً منها تمثيلات ذهنية لا ميال وآمال وتركيبات وتحليلات لما اختزن من الصور في خزانة الخيال. وهذه النوع الأخير من الرؤيا ـ وإن أنقسم إلى أقسام مختلفة ـ يرجع إلى بروز ما كمن في النفس إلى ساحة الحواس الباطنة وإدراك النفس لها بتوسيط تلك الحواس مرة أخرى. ومعرفة علل هذه الأفاعيل النفسية ومدى ارتباطها بالحالات البدنية والروحية رهينة لتجارب كثيرة لا يزال علماء النفس مشتغلين بها.

أما النوع الأول منه فلا يمكن تعليله بأمثال تلك العلل فحسب كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى حصول هذا النوع من الإدراكات للنفس ليس معلولاً لحالات فسيولوجية أو ظاهرات بسيكولوجية معينة. فأي حالة بدنية أو نفسية توجب العلم بوجود كنز على مقدار معين في مكان خاص أو بحدوث حادثة مشخصة في زمان خاص في المستقبل؟! وما هو الذي يمكن أن يجعل وجه الربط بين الظاهرات الجسمية والروحية في الإنسان وبين العلم بقضايا عازبة عن ذهنه بموضوعاتها ومحمولاتها؟! فهذه المعلومات ليست مما يستقل به النفس من الادراك بصرف النظر عما هو خارج عن ذاتها رأساً، والغير الذي يمكن أن يشارك النفس في حصول هذه الإدراكات لها بوجه إما أن يكون أمراً عقلياً محضاً، أو مثالياً برزخياً، ولا يكون أمراً مادياً البتة، للقطع بعدم حصول ارتباط مادي بين الإنسان وبين موجود مادي آخر مما يقع تحت الحواس في حال النوم بحيث يمكن إسناد تلك العلوم إليه بوجه، فعلى فرض جعل المشارك للنفس أمراً عقلياً يصير الرؤيا اتصالاً للنفس بموجود عقلي في المنام وتمثل ما تستفيد منه حسب استعدادها بصور جزئية في عالمها المثالي. وإن شئت قلت: في ساحة الحواس الباطنة ولوح الذهن، وعلى فرض جعل المشارك أمراً مثالياً يصير الرؤيا إشرافاً للنفس على عالم المثال ومشاهدة أمور هناك مباشرة. وكلاهما مما يصح فرضه عقلاً، ولا ينفيه دليل شرعي، بل يوجد في الأخبار ما يؤيدهما بل يدل عليهما، فعليك بإجادة التدبر فيها". ومن خلال هذين البيانين عن حقيقة الرؤى والمنامات وكيفية حصولها نعلم أن الأصل في ذلك هو تجرد النفس وعدم كونها جسمانية مادية وهذا الأمر مما تسالم عليه الفلاسفة الإلهيون والحكماء الربانيون وأقرته الشرائع السماوية وأكدت عليه، ومعنى كون النفس مجردة أنها تنتمي إلى عالم آخر غير عالم المادة والأجسام الصورية، ولتجردها تشتاق النفس والروح إلى عالمها الروحي والعقلي وتسعى للتواصل معه والإتصال به، ولكن لأن النفس مادامت في هذه الدنيا فهي منشغلة بتدبير أمور البدن ومهماته فلا تتوجه إلى عالمها العلوي الذي تنتسب إليه، إلا حينما تكون النفس قوية ومجذوبة بجذبة إلهية إلى عالمها الأصلي كما هو الشأن في نفوس الأنبياء والرسل والأولياء الذين لا يصرفهم الاشتغال بالأمور الدنيوية عن التوجه إلى عالم الأرواح والعقول والمجردات، وأما سائر الناس فلانهماكهم بتدبير أمورهم الدنيوية وتوجههم التام إلى هذا العالم الدنيوي الفاني فإنهم لا يكادون يفكرون في العوالم الأخرى التي تغيب عن سمعهم وبصرهم، وحينما يخلد الإنسان إلى النوم وتنصرف حواسه الظاهرة والباطنة عن تدبير أمور بدنه وتنقطع علائقه مع عالمه الدنيوي، فإن الروح ربما سرحت ومرحت في عالمها الأصلي الذي تشتاق إليه بطبعها وطبيعتها، وحينئذ تطلع الروح على بعض صور وحقائق العالم العقلي ولاسيما عالم المثال الذي توجد فيه صور الأشياء مجردة من المادة، وحينما يستيقظ الإنسان فإنه ربما يبقى متذكراً لما شاهده في ذاك العالم وربما ينسى الكثير منه، وعلى هذا الاساس تحصل الرؤى والأحلام التي يشاهدها كل الناس، ولهذا فإن الإنسان في حال النوم يعيش حالة تشابه بعض الشيء حالة الموت التي ينقطع فيها الإنسان بالكلية عن هذا العالم الدنيوي وتصير روحه مع الأرواح وترجع إلى عالمها الأولى، ومن هنا جاءت المقارنة بين النوم والموت في قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وقد روي عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) في تفسير هذه الآية أنه قال: "ما من عبد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، وإن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح وهو قوله سبحانه: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) فمهما رأت في ملكوت السموات فهو مما له تأويل، وما رأته بين السماء والأرض فهو مما يخيله الشيطان ولا تأويل له". وهناك العديد من الأخبار التي تذكر بأن سبب الرؤيا والمنامات هو عروج الروح أو النفس في حال النوم إلى السماء والعالم العلوي واطلاعها على ما فيه، ففي "بحار الأنوار" إن علياً (ع) قال: "سألت رسول الله (ص) عن الرجل ينام فيرى الرؤيا فربما كانت حقاً، وربما كانت باطلاً، فقال رسول الله (ص): يا علي ما من عبد ينام إلى عرجت بروحه إلى رب العالمين، فما رأى عند رب العالمين فهو حق، ثم إذا أمر الله العزيز الجبار برد روحه إلى جسده، فصارت الروح بين السماء والأرض، فما رأته فهو أضغاث أحلام". ومن المرويات التي رواها أهل السنة في حقيقة الرؤيا عن علي (ع): "إن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل انه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال، فيكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئاً. فقال علي بن أبي طالب (ع): أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله يقول: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) فالله يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها. فعجب عمر من قوله". ومن خلال هذا البيان الذي قدمناه عن حقيقة الرؤيا يتضح أن الرؤيا ـ الصادقة طبعاً ـ في حقيقتها وواقعها نحو من أنحاء اطلاع الإنسان على الغيب ولكن بصورة ضعيفة ومخففة، ومن هذه الجهة فهي تشابه نوع مشابهة النبوة التي تكون للأنبياء والتي من خلالها يتصلون بالعالم الغيبي ولكن بصورة قوية وجلية لا يتطرق إليها الخطأ والزيغ ولا تؤثر أية مؤثرات خفية في حرفها عن وجهتها لأن الله يصون أنبيائه ورسله عن تأثيرات الشياطين والقاءاتهم كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم). (الحج: 52)

ومن هنا انطلقت الكثير من الروايات لتؤكد أن رؤيا المؤمن تقترب بنسبة يسيرة من النبوة لأنها تمثل صورة ضعيفة من صور اطلاع الإنسان على الغيب، ومن تلك الروايات ما رواه في "بحار الأنوار" عن الصادق (ع) انه قال: "رأى المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزء من أجزاء النبوة".

وروى عن النبي (ص) في قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا).  انه قال: "الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة". وعنه (ص) أيضاً: "ألا أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له".

وعنه (ص) أيضاً: "لا نبوة بعدي إلا المبشرات. قيل: يا رسول الله! وما البشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة". وعنه (ص) أيضاً: "الرؤيا الصالحة بشرى من الله وهي جزء من أجزاء النبوة".

إلى غير ذلك من الروايات التي تؤكد على أن الرؤيا الصالحة والصادقة هي من أجزاء النبوة، مما يعني أنها وسيلة يتعرف الإنسان من خلالها على بعض الأمور الغيبية، ولكن بمستوى دون مستوى النبوة الخاصة التي تنكشف فيها للنبي جميع حيثيات الغيب الذي أراد الله سبحانه وتعالى اطلاعه عليه، وعلى هذا الأساس تتفاوت صحة الرؤيا وصدقها من شخص إلى آخر بحسب القدرات الذاتية والمؤهلات الشخصية التي تتواجد في الأشخاص بصورة متفاوتة ومختلفة، وهذا ما تصرح به بعض المرويات كالرواية التي يقول فيها الإمام الصادق (ع): "رأى المؤمن ورؤياه جزء من سبعين جزء من النبوة، ومنهم من يعطى على الثلث".

ومعنى ذلك أن القدرات بين المؤمنين في الاطلاع على الغيب من خلال الرؤيا تكون متفاوتة وغير متساوية.

وهناك بعض الروايات التي تدخل الرؤيا الصالحة بكل صراحة تحت الوحي وتلحقها به، ومن تلك المرويات ما رواه في "بحار الأنوار" عن "جامع الأخبار" عن الأئمة (ع): "إن رؤيا المؤمن صحيحة لأن نفسه طيبة، ويقينه صحيح، وتخرج فتتلقى من الملائكة، فهي وحي من الله العزيز الجبار".

ولأن الرؤيا الصادقة هي كشف للغيب بنسبة معينة فقد اعتبرها العرفاء أول باب من أبواب المكاشفة، وقالوا: أن الناس تتفاوت في مكاشفاتها الغيبية بحسب قوة الشخص واستعداده واعتدال مزاجه، وفي ذلك يقول الآملي: "ولما كان كل من الكشف الصوري والمعنوي (مر بيان معنى الكشف الصوري والمعنوي في الكلمة الخامسة). على حسب استعداد السالك ومناسبات روحه وتوجه سره إلى كل من أنواع الكشف، ولما كانت الاستعدادات متفاوتة المناسبات، متكثرة، صارت مقامات الكشف متفاوتة بحيث لا تكاد تنضبط.

وأصح المكاشفات وأتمها أنما تحصل لمن يكون مزاجه الروحاني أقرب إلى الاعتدال التام، كأرواح الأنبياء والكمل من الأولياء (صلوات الله عليهم أجمعين) ثم لمن يكون أقرب إليهم نسبة".

ومن الأبحاث المهمة التي ترتبط بمسألة الرؤيا هو البحث في حقيقة عالم المثال باعتباره العالم الذي تترائى للإنسان فيه الصور والمشاهدات حال نومه، كما أنه العالم الذي يطلع العارف عليه من خلال كشفه وشهوده في حال اليقظة. وكما يقول القيصري فإن "... جميع أرباب المكاشفة أكثر ما يكاشفون الأمور الغيبية يكون في هذا العالم وفيه يتجسد الأعمال والأفعال الإنسانية الحسنة والقبيحة كل بما يناسبها". ثم يقول: "ولكل إنسان فيه نصيب وهو القوة الخيالية التي فهيا يرى المنامات".

وعلى هذا الأساس فسيكون حديثنا في النقطة الثانية عن عالم المثال، ونود أن نعتذر مسبقاً من القارئ الشاب إذا كان الخوض في مثل هذه الأبحاث العلمية يرهق تفكيره لأننا لم نجد بداً من الاسهاب في الحديث عنها بعد أن أصبح الكثير من شبابنا المسلم ينجذب للخوض في مثل هذه القضايا والمسائل المعقدة والتي نعلم أن أكثر الشباب لا يعي ولا يدرك الأكثر من أبعادها وجوانها، ومن هنا كنا مضطرين لأن نبحثها بشيء من التفصيل والتوسع.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net