متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
حقيقة عالم المثال
الكتاب : شبابنا ومشاكلهم الروحية    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

 

النقطة الثانية: حقيقة عالم المثال: بينا في النقطة الثانية من الكلمة الخامسة أن العوالم الوجودية خمسة، وهي عالم الأعيان الثابتة، وعالم الجبروت، وعالم الملكوت، وعالم الملك، وعالم الإنسان الكامل، ولما كان الحديث عن حقيقة كل عالم من هذه العوامل وخصائصه لا يسعه المجال أولاً، وربما لا تستوعبه الكثير من الأذهان ثانياً، فإننا لن نتحدث عن هذه العوالم من قريب أو بعيد، وما كان ينبغي لنا ـ في الواقع ـ أن نتطرق لذكر هذه الأمور في مثل هذا الكتاب لولا أننا وجدنا مسألة الرؤيا والمنامات تثار بشدة وبقوة في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية، وتأصل مسارات غير صحيحة في التعامل مع القضايا الشرعية والمسائل الاجتماعية عند الكثير من المتدينين، من دون أن يكون هناك أدنى وعي للإثارات والأبحاث العلمية المعمقة التي تناولها الفلاسفة والعرفاء والعلماء في كتاباتهم وأبحاثهم عن الرؤيا والمنامات والأحلام.

وعلى كل حال فإننا سنتحدث ـ مضطرين ـ في هذه النقطة من الكلمة السابعة عن عالم من العوالم الغيبية الذي يرتبط الحديث عنه بقضايا الرؤيا أشد الارتباط، وهو عالم المثال الذي يعد من عالم الملكوت، وقد ذكرنا أن الرؤيا الصادقة للإنسان إنما تحصل بسبب اطلاع الإنسان على هذا العالم وما فيه من حال النوم.

فما هي حقيقة هذا العالم وكيف تتصل النفس أو الروح به وتطلع على أسراره وخفاياه؟

يقول القيصري: "اعلم ان بين عالم الأجسام وعالم الأرواح المجردة عالماً آخر يسمى برزخاً. وإليه الإشارة في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان)  أي بين بحري عالم الأرواح والأجسام برزخ يمنع عن بغي أحدهما على الآخر. وللبرزخ (البرزخ في اللغة: ما يكون حاجزاً بين شيئين ومتوسطاً بينهما). ان يكون نصيباً منهما، فهو من حيث أنه غير مادي شبيه بعالم الأرواح ومن حيث أنه ذو صورة وشكل ومقدار شبيه بعالم الأجسام". وقال عبد الرحمن جامي أحد العرفاء المشهورين: "ثم اعلم ان العالم المثالي هو عالم روحاني من جوهر نوراني شبيه بالجوهر الجسماني في كونه محسوساً مقدارياً، وبالجوهر المجرد العقلي في كونه نورانياً. وليس بجسم مركب مادي، ولا جوهر مجرد عقلي، لأنه برزخ وحد فاصل بينهما، وكل ما هو برزخ بين الشيئين، لابد وأن يكون غيرهما". وقال: "إنما سمى "العالم المثالي" لكونه مشتملاً على صور ما في العالم الجسماني، ولكونه أول مثال صوري لما في الحضرة العلمية الإلهية من صور الأعيان والحقائق". ويبين كيفية التأثير المتبادل بين هذا العالم والعالم الجسماني المادي فيقول: "اعلم أنه لما كان عالم الأرواح متقدماً بالوجود والمرتبة على عالم الأجسام، وكان الامداد الرباني الواصل إلى الأجسام موقوفاً على توسط الأرواح بينهما وبين الحق سبحانه، وتدبيرها ـ أعني تدبير الأجسام ـ مفوض إلى الأرواح، وتعذر الارتباط بين الأرواح والاجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط ـ فإن الأجسام كلها مركبة، والأرواح بسيطة، فلا مناسبة بينهما، فلا ارتباط، وما لم يكن ارتباط، لا يحصل تأثير ولا تأثر ولا إمداد ولا استمداد ـ فلذلك خلق الله سبحانه عالم المثال برزخاً جامعاً بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصح ارتباط أحد العالمين بالآخر، فيتأتي حصول التأثر والتأثير ووصول الامداد والتدبير".

وبعد أن وعينا حقيقة هذا العالم فإن علينا أن ندرك بأن للإنسان القدرة على الاتصال بهذا العالم والاطلاع على ما فيه، وقد بينا هذا الأمر في النقطة المتقدمة من الكلمة، ونضيف هنا مزيداً من التوضيح فنقول: ان الارتباط بين عالم الغيب وعالم الشهادة وإن كان أمراً لا يستشعره أكثر الناس نتيجة احتجابهم عن العالم الغيبي وانصرافهم بشكل كلي إلى العالم المادي واشتغالهم به، إلا أنه من المعلوم ان هناك جملة من الناس تستطيع أو استطاعت التوصل إلى نوع ارتباط بينهما وبين العالم الغيبي، ولا أقل من الأنبياء والرسل (ع) الذين اختارهم الله تعالى لتبليغ رسالاته، وهذا هو المستوى الأعلى والاتم من مستويات الارتباط بين الإنسان وعالم الغيب، ولكن اختصاص الوحي الخاص بالأنبياء والرسل (ع) لا يعني انسداد باب الارتباط بين بقية الناس وبين العالم الغيبي، بل هناك العديد من النصوص الشرعية التي تؤكد على أنه لولا اشتغال الإنسان بعالمه المادي وانغماسه فيه وتقلبه في الشهوات واللذات التي تحجبه عن الحق تعالى لكان يطلع على الغيب ويراه كما يرى ويحس هذا العالم المادي. وهذا ما نعيه في قوله تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين).  فقد دلت هذه الآيات على أن الإنسان لو كان عنده علم اليقين لكان ينظر إلى الجحيم ويراها كما يرى ما سواها من أمور مادية محسوسة.

وروي عن رسول الله (ص) انه قال: "لولا ان الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض".

وروى عنه (ص) أيضاً: (لولا تكثير في كلامكم، وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى، ولسمعتم ما أسمع".

وعلى هذا الأساس نعى ان الارتباط بين الإنسان والعالم الغيبي لا ينحصر في ما يصطلح عليه بـ: "الوحي الخاص" الذي لا يكون إلا للأنبياء والرسل (ع) وإن الإنسان لو توجه تمام التوجه إلى الله تعالى واستفرغ همه لعبادته وقطع عن نفسه العلائق الدنيوية التي تصرفه عن الحق تعالى لكان من الممكن ان يطلع ويتعرف على امور غيبية لا يطلع عليها ولا يعرفها سائر الناس، ومن هنا أكد العرفاء على أن الوحي الخاص بالأنبياء والرسل (ع) يعتبر الرتبة الأعلى والأتم والأكمل من مراتب الاطلاع على الغيب التي يعبر عنها العرفاء بمراتب الكشف، وإن هناك مراتب آخر للكشف كالمكاشفات والمشاهدات التي تحصل للعرفاء في حال اليقظة، وكالرؤى والمنامات الصادقة التي تحصل لكثير من الناس حال نومهم وسباتهم، وقد بينا الوجه والسبب في ذلك في النقطة السابقة من الكلمة. وهناك من الأخبار ما يعبر بالصراحة عن الرؤيا الصادقة بأنها اطلاع على ملكوت السماء، إذ يقول أحد أصحاب الإمام الصادق (ع): "قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): المؤمن يرى الرؤيا فتكون كما رآها، وربما رأى الرؤيا فلا تكون شيئاً. فقال: إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء، فكلما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحق، وكلما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام. فقلت له: وتصعد روح المؤمن إلى السماء؟ قال: نعم. قلت: حتى لا يبقى شيء في بدنه؟ فقال: لا، لو خرجت كلها حتى لا يبقى منها شيء إذا لمات. قلت. فكيف تخرج؟ فقال: أما ترى الشمس في السماء في موضعها وضوؤها وشعاعها في الأرض؟ فكذلك الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة".

ولأن مكاشفات الإنسان التي تحصل له في حال اليقظة أو حال النوم لا ترقى إلى مستوى المكاشفات التي تحصل للأنبياء والرسل (ع) بسبب الوحي الخاص من الله عز وجل، ولأنها ـ أي مكاشفات غير الأنبياء والرسل والمعصومين (ع) ـ ربما داخلتها بعض الملابسات التي تحول بين من يراها وبين معرفة المراد الحقيقي والواقعي منها، فإن العرفاء أكدوا أيما تأكيد على ضرورة اتباع المعصوم في كشفه وإن كشفه مقدم على كشف العارف، وإننا لا نستغني بمكاشفاتنا عن رأى المعصوم (ع) نبياً كان أم إماماً، حتى ان العرفاء كانوا يرون ضرورة الرجوع إلى المعصوم (ع) في التعرف على أول رتبة من مراتب الكشف، وهي التمييز بين الإلهام الإلهي والإلهام الشيطاني وقي ذلك يقول السيد حيدر الآملي: "والتمييز بين هذين الإلهامين محتاج إلى ميزان إلهي ومحك رباني، وهو نظر الكامل المحقق والإمام المعصوم والنبي المرسل، والمطلع على بواطن الأشياء على ما هي عليه، واستعدادات الموجودات وحقايقها.

ولهذا احتجنا بعد الأنبياء والرسل (ع) إلى الإمام والمرشد، لقوله تعالى: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) لأن كل واحد ليس له قوة التمييز بين الإلهامين الحقيقي وغير الحقيقي، وبين الخاطر الإلهي والشيطاني، وغير ذلك".

وسنتحدث في النقاط القادمة عن أسباب وعوامل صواب الرؤيا وخطئها وعن حاجة الرؤيا إلى التعبير الذي لا يتوفر لكل أحد القدرة عليه، وقد من الله تعالى به على بعض عباده الصالحين كنبيه يوسف (ع) الذي قال تعالى فيه: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم واسحاق إن ربك عليم حكيم).

وقال: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث).

وشكر يوسف (ع) ربه على هذه النعمة وغيرها من النعم التي آتاها الله إياه فقال كما يحكى لنا القرآن ذلك: (رب قد اتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين).

وتأويل الأحاديث إشارة إلى العلم بتعبير الرؤيا الذي أتاه الله سبحانه وتعالى نبيه يوسف (ع) كما أشارت إلى ذلك الروايات وأقوال مفسري القرآن.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net