متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
حاجة الرؤيا إلى التعبير
الكتاب : شبابنا ومشاكلهم الروحية    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

 

النقطة الرابعة: حاجة الرؤيا إلى التعبير: من الأمور المهمة في فهم حقيقة الرؤيا وتمييز صحيحها من باطلها هو العلم بتعبير وتفسير الرؤى والأحلام، وهو من العلوم التي لا يحظى بتمام مراتبها ولا يحيط بجميع جزئياتها إلا المعصوم من الأنبياء والأئمة (ع)، وذلك لأننا قلنا فيما سبق أن الرؤيا الصادقة هي رتبة من مراتب الكشف والاطلاع على الغيب، ومن المقرر بين العرفاء إن الكشف التام لا يكونإلا للمعصوم (ع) وأما بقية الناس فإن مكاشفاتهم سواء كانت في اليقظة أم في المنام لا تخلو في كثير من الأحيان من نقص، ولذا فإن العرفاء يقولون لما سوى كشف المعصوم (ع) بأنه كشف ناقص، ومن هنا اشترط العرفاء في صحة كشف العارف أن لا يكون مخالفاً لكشف المعصوم ـ كما أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة ـ.

ويبين بعض العرفاء حقيقة علم التعبير فيقول: "وهذا العلم لا يحصل إلا بانكشاف رقائق الأسماء الإلهية والمناسبات التي بين الأسماء المتعلقة بالباطن وبين الأسماء التي تحت حيطة الظاهر، لأن الحق سبحانه إنما يهب المعاني صوراً بحكم المناسبة الواقعة بينها، لا جزافاً ـ كما يظن المحجوبون أن الخيال يخلق تلك الصور جزافاً، فلا يعتبرون ويسمونها أضغاث أحلام ـ بل المصور هو الحق من وراء حجابية الخيال، ولا يصدر منه ما يخالف الحكمة. فمن عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي يظهر الصور في حضرة خيالاتهم بحسبها يعلم علم التعبير كما ينبغي. ولذلك يختلف أحكام الصورة الواحدة بالنسبة إلى أشخاص مختلفة المراتب. وهذا الانكشاف لا يحصل إلا بالتجلي الالهي من حضرة الأسم الجامع بين الظاهر والباطن". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 161 ـ 162).

وقال نفسه في مقام آخر: "وأتم الأنوار التي تكشف ويكشف بها في الكاشفية وأعظمها نفوذاً في الأشياء بالكشف عن حقائقها هو النور التام العلمي الذي يكشف به ويدرك ما أراد الله بالصور المتخيلة المرئية في النوم. المتغيرة عما كانت عليه في عالم المثال، ويصير مشاهداً في عالم الحس بتصرف القوة المتصرفة. وهو أي الكشف عما أراد الله بها هو علم التعبير.

وإنما كان ذلك النور التام العلمي أتم الأنوار واعظمها نفوذاً لأن الصورة الواحدة المتخيلة المرئية في النوم قد تظهر في خيال أشخاص متعددة بمعان كثيرة مختلفة لتفاوت استعدادات تلك الأشخاص واختلافات أمزجتهم وتباين أمكنتهم وأزمنتهم وغير ذلك. لكن يراد منها، أي من هذه الصورة، في حق صاحب الصورة، أي صاحب كان، معنى واحد من تلك المعاني الكثيرة. فمن كشفه، أي المعنى المراد، وميزه عن غيره وعبر الصورة المرئية به بذلك النور التام العلمي، فهو صاحب النور الأتم، ونوره أتم الأنوار لأنه يتميز به ما هو في غاية الالتباس ونهاية الاشتباه". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 179 ـ 180).

ويوضح هذا العارف بعد ذلك كيفية ظهور الصورة الواحدة بمعان كثيرة لا يقدر على التمييز بينها جميعها إلا صاحب الكشف التام، فيقول: "وإنما قلنا أن الصورة الواحدة تظهر بمعان كثيرة، فإن الشخص الواحد من جماعة قديري في النوم أنه يؤذن، فيحج في عالم الحس. وشخص آخر منهم يرى فيه أنه يؤذن، فيسرق في الحس. أما الحج، فمن قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج). وأما السرقة، فمن قوله تعالى: (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون). وصورة الأذان واحدة، لكن التعبير مختلف لاختلاف الرئين. وكذلك شخص آخر يرى فيه أنه يؤذن، فيدعو إلى الله على بصيرة. وشخص آخر يرى أنه يؤذن، فيدعو إلى الضلالة، وذلك لاشتراك الأذان مع هاتين الدعوتين في مطلق الدعوة إلى أمر ما، وإنما اختلف المدعو إليه لاختلاف الرأي". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 180).

إلى أن يقول في ختام كلامه: "ولا يعرف هذا المقام إلا من يكاشف جميع المقامات العلوية والسفلية، فيرى الأمر النازل من الحضرة إلى العرش والكرسي والسموات والأرض ويشاهد في كل مقام صورته". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 180).

ومن هنا يتضح لنا أن حاجة الرؤيا إلى التعبير تنطلق من أن ما يراه الإنسان من صور في عالم المثال وما يطلع عليه من حقائق في عالم العقل تكون مجردة من المادة دون الصورة كما هو الشأن في عالم المثال، أو منهما معاً كما هو الأمر في عالم العقل، وحينما ترى النفس تلك الصورة وتطلع على تلك الحقائق في عالم النوم بفضل قوتها المتخيلة فانها لابد وأن ترجعها إلى الحس المشترك الذي يقوم بتصويرها بصور مألوفة ومأنوسة عند الإنسان، فيصور معنى العظمة مثلاً بالجبل، وإذا لم يكن الإنسان مطلعاً تمام الاطلاع على تصرفات القوة المتخيلة وأفاعيلها وكيفية تأثيرها في الحس المشترك الذي يقوم بتجسيد المعاني المتخيلة وتصويرها في صورة حسية فإنه لا يستطيع أن يعبر من الخيال إلى الحس وأن يدرك المعنى المراد من الصور الحسية التي يشاهدها الإنسان في رؤياه، وإذا لم يكن الإنسان صاحب كشف تام فإنه ربما أخطأ في التعبير وتصور ما ليس مراداً بأنه مراد، وهذه الرواية التي يرويها بعضهم عن الصادق (ع) تدل على أهمية التعبير وأن الانتقال فيه من الصورة الحسية إلى المعنى المراد ربما كان في غاية الغموض والابهام بحيث لا يتيسر لكل أحد، فقد قال: "كنت عند أبي عبد الله (ع) فجاءه رجل فقال: رأيتك في النوم كأني أقول لك: كم بقى من أجلي؟ فقلت لي بيدك: هكذا ـ وأومأ (أي أشار بيده). إلى خمس ـ وقد شغل ذلك قلبي. فقال (ع): "إنك سألتني عن شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهي خمسة تفرد الله بها (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). (لقمان: 34). (بحار الأنوار 61: 160 ـ 161).

وفي قصة يوسف (ع) التي يحكيها القرآن، المجيد في سورة كاملة نجد أن يوسف (ع) يعبر رؤيا الملك بتعبير لا تجد الأذهان بينه وبين الرؤيا مناسبة، وحينما يعجز المفسرون والمعبرون للرؤيا عن إدراك معناها فإنهم يقولون للملك أنها أضغاث أحلام في الوقت الذي يعترفون بانهم لا يعلمون بتأويل الأحلام وتفسير الرؤى، وهذا ما حكاه لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذين نجا منهما وأدكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف ايها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون). (يوسف: 43 ـ 49)

ويبين العلامة الطباطبائي انقسام المنامات الصادقة إلى منامات صريحة لا تحتاج إلى التعبير ومنامات غير صريحة تحتاج إليه ويتوقف فهمها عليه فيقول: "وقد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم إنقساماً أولياً إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على مالها من التأويل من غير مؤنة، ومنامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده، وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولى للنفس كرد التاج إلى الفخار، ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.

ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلاً بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كأن تنتقل من الشيء إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود، وهذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.

وقد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: وهي المنامات الصريحة ولا تعبير لها لعدم الحاجة إليها، وأضغاث الأحلام ولا تعبير فهيا لتعذره أو تعسره والمنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهي التي تقبل التعبير". (الميزان في تفسير القرآن 11: 272 ـ 273).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net