متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الموقف العملي من الرؤيا
الكتاب : شبابنا ومشاكلهم الروحية    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

 

النقطة الخامسة: الموقف العملي من الرؤيا: يسرف البعض من المتدينين في الاعتماد على الرؤى والمنامات، وقد تجاوز هذا الاسراف الحد المعقول عند البعض فباتت كل مواقفه العملية وأفكاره النظرية تؤسس على ضوء الرؤى والأحلام وكأنها وحي أنزل عليه من السماء، ووصل الأمر عند بعض الجهلة من الناس أن يسمح لنفسه بإلغاء وتجاوز المقررات الشرعية الثابتة بالدليل والنص اعتماداً على ما يراه من رؤى وأحلام يراها مبررة لتجاوزه هذا على أحكام الشريعة.

وفي الحقيقة والواقع أن مثل هذا التعامل المنحرف واللامشروع مع مسألة الرؤيا لم يعدم وجوده على الدوام في الأوساط الدينية الجاهلة واللاواعية التي كانت تحدث نفسها على الدوام بضرورة وجود رابط مباشر بينها وبين العالم الغيبي تستطيع من خلاله التوصل إلى حل مشاكلها واشكالياتها التي تعجز عن حلها بالطرق الطبيعية المتعارفة بين الناس، ولما كانت تعجز عن العثور على هذا الرابط المباشر في عالم اليقظة فإنها كانت تختلقه في عالم النوم بتأثير الايحاء المستمر والتحديث الدائم للنفس بهذا الأمر، وقد أشارت العديد من الأخبار والمرويات عن أهل بيت النبوة (ع) ان من أسباب الرؤيا الكاذبة هو حديث النفس الذي يضغط على الإنسان باتجاه خلق الصور الخيالية التي ترتبط بما يحدث الإنسان به نفسه، ومن الملاحظ والمجرب أن الإنسان إذا حدث نفسه بشيء تشتهيه نفسه وتعجز عن تحقيقه في الخارج بالوسائل والإمكانيات المتوفرة لديها فإنها ترى تحقيقه وإنجازه في عالم الرؤيا الذي لا يعجز الإنسان عن تحقيق كل آماله وطموحاته من خلاله.

ونجد في مقولة الإمام الصادق (ع) للمفضل توضيحاً جامعاً للموقع الذي ينبغي ان لا تتجاوزه الناس في تعاملها مع الرؤيا وموقفهم منها، إذ يقول: "فكريا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها بكاذبها، فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت كلها تكذب، لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلاً لا معنى له، فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها، أو مضرة يتحذر منها، وتكذب كثيراً لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد". (توحيد المفضل 84 ـ 85).

ومن الروايات الكثيرة التي ذكرنا بعضها في ما سبق والتي تعبر عن الرؤيا الصادقة ـ لا مطلق الرؤيا ـ بأنها "بشارة" أو "بشرى" من الله نعى ان الرؤيا لا يمكن لها أن تتجاوز هذا الحد لتصير مصدراً ومقياساً لاثبات أو نفس حقيقة من الحقائق الدينية أو حكم من أحكام الله الشرعية، وهذا مانعية في موقف الإمام الصادق (ع) ممن يرى الله في المنام، إذ يقول إبراهيم الكرخي: "قلت للصادق جعفر بن محمد (ع): إن رجلاً رأى ربه عز وجل في منامه فما يكون ذلك؟ فقال: ذلك رجل لا دين له، إن الله تبارك وتعالى لا يرى في اليقظة ولا في المنام ولا في الدنيا ولا في الآخرة". (بحار الأنوار 61: 167 ـ 168).

إذن نجد في هذا الموقف تثبيتاً لمعتقد ديني يحكم به العقل والنقل ويرقى عن أن يكون مجالاً للاثبات أو النفي من خلال الرؤيا والحلم، ونلحظ هذا النحو من التفكير المتزن والموقف المعقول من الرؤيا في كلام ينقله الكراجكي في "كنز الفوائد" عن شيخه المفيد ـ رضي الله عنه ـ إذ يقول: "وقد كان شيخي ـ رحمه الله ـ يقول: إذ جاز من بشر أن يدعى في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه، مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة، فما لامانع من أن يدعى إبليس عند النائم بوسوسته له أنه نبي، مع تمكن إبليس بما لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام.

ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ منها ما هو حق ومنها ما هو باطل.

إنك ترى الشيعي يقول: رأيت في المنام رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يأمرني بالاقتداء به دون غيره، ويعلمني أنه خليفته من بعده.

ثم ترى الناصبي يقول: رأيت رسول الله (ص) في النوم، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، وهو يأمرني بمحبتهم، وينهاني عن بغضهم، ويلعمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة، وأنهم معه في الجنة، ونحو ذلك.

فتعلم ـ لا محالة ـ أن أحد المنامين حق والآخر باطل، فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحة ما تضمنه.

والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه.

وليس يمكن للشيعي أن يقول للناصبي: إنك كذبت في قولك: رأيت رسول الله (ص)، لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه". (كنز الفوائد 2: 64).

ومن هنا يتضح لنا أنه لا يمكن للرؤية أن تكون وسيلة يعول عليها في إثبات الحقائق الدينية والأحكام الشرعية، وفي ذلك يقول العلامة المجلسي (قده): "قد ورد بأسانيد صحيحة عن الصادق (ع) في حديث الأذان أن دين الله تبارك وتعالى أعز من أن يرى في النوم". (بحار الأنوار 61: 237).

وكلامه هذا إشارة إلى ما يزعمه أهل السنة من أن أصل الأذان رؤيا رآها عبد الله بن زيد وأخبر بها النبي (ص) فأخذ بها وشرع الأذان على أساس منها.

وقال في "كتاب الصلاة من بحار الأنوار": "ثم اعلم أن الأصحاب اتفقوا على أن الأذان والإقامة إنما شرعا بوحي من الله، وأجمعت العامة على نسبة الأذان إلى رؤيا عبد الله بن زيد في منامه ونقلوا مواقفه عمر له في المنام، وفي رواية الكليني ما يدل على أنهم كانوا يقولون أن أبيَّ بن كعب رآه في النوم وهو باطل عند الشيعة، قال ابن أبي عقيل: أجمعت الشيعة على أن الصادق (ع) لعن قوماً زعموا أن النبي (ص) أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، فقال: ينزل الوحي على نبيكم، فيزعمون أنه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، انتهى، والأخبار في ذلك كثيرة في كتبنا". (بحار الأنوار 84: 121 ـ 123).

ورواية الكليني التي يشير إليها المجلسي (رض) في كلامه هذا هي ما رواه في الكافي عن إبن أذينة، عن أبي عبد الله (ع) قال: "قال: ما تروى هذه الناصبة؟ فقالت: جعلت فداك في ماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم، فقلت: إنهم يقولون: إن أبيّ بن كعب رآه في النوم، فقال: كذبوا فإن دين الله عز وجل أعز من أن يرى في النوم...". (الكافي 3: 482).

وعلى هذا الأساس لا يبقى مجال لأحد لأن يتمسك بحديث "من رآني في نومه فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي" (بحار الأنوار 61: 234). لاثبات أو نفي قضايا ومسائل ترتبط بدين الله وأحكامه، مع ما يرد على هذا الحديث من إشكالات علمية كثيرة أهمها عدم ثبوته بسند معتبر وكونه ضعيفاً حتى قال فيه السيد المرتضى (قده): "هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معول على مثل ذلك". (الشريف المرتضى: أمالي المرتضى 2: 394).

أضف إلى ذلك إننا قد أمرنا من قبل أئمتنا (ع) بأخذ الأحكام الشرعية من قبل رواة أحاديثهم حينما يتعذر علينا الوصول إليهم، ولم يشر الأئمة (ع) إلى الاعتماد على الرؤيا في التوصل إلى أحكام دين الله، ولو كانت الرؤيا حجة في مثل هذا لما كان من المعقول أن يسكت الأئمة (ع) عن بيان ذلك، بل كان بيانهم على خلاف ذلك كما تصرح بذلك الرواية المتقدمة التي تقول: "فإن دين الله عز وجل أعز من أن يرى في النوم".

ومن الأحاديث التي دلت على لزوم الرجوع في معرفة الأحكام الشرعية إلى رواة أحاديثهم (ع)، ما رواه الحر العاملي في "وسائل الشيعة" عن أبي خديجة قال: "بعثني أبو عبد الله (ع) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر". (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 100).

وروي عن الإمام صاحب العصر والزمان (عج) انه قال: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله". (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 101).

وحتى في مقام التنازع والمخاصمة قد أمرنا بالرجوع إلى رواة أحاديثهم ومن نظر في حلالهم وحرامهم (ع)، فقد روى عن عمر بن حنظلة انه قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة (المراد من القضاة قضاة العامة). أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظر أن من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله". (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 99).

وعلى هذا الأساس لم يعول علماؤنا وفقهاؤنا على الرؤيا في استنباط الأحكام الشرعية، وقد كان هذه سيرتهم منذ زمن الأئمة (ع) إلى يومنا هذا، وقد سأل بعضهم العلامة الحلي (قده) فقال: "ما يقول سيدنا في من رأى في منامه رسول الله (ص) أو بعض الأئمة (ع) وهو يأمره بشيء أو ينهاه عن شيء، هل يجب عليه امتثال ما أمر به أو اجتناب ما ينهاه عنه أم لا يجب ذلك مع ما صح عن سيدنا رسول الله (ص) أنه قال: "من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لم يتمثل بي" وغير ذلك من الأحاديث المروية عنه (ص) وما قولكم لو كان ما أمر به أو نهى عنه على خلاف ما في أيدي الناس من ظاهر الشريعة، هل بين الحالين فرق أم لا".

فأجاب ـ (رض) ـ قائلاً: "ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه، وأما ما يوافق الظاهر فالأولى متابعته من غير وجوب، ورؤيته ـ (ص) ـ لا يعطي وجوب اتباع المنام". (العلامة الحلي: أجوبة المسائل المهنائية 97 ـ 98).

ولا ينافي كل هذا ما توحيه بعض أخبار الأئمة (ع) من اعتماد بعض الناس في زمان وجودهم (ع) على الرؤيا التي كانوا يرون فيها أحد الأئمة (ع) يأمرهم بشيء أو ينهاهم عنه أو يجيبهم على حكم مسألة شرعية، كما في هذه الرواية التي يرويها بشير الدهان عن الإمام الصادق (ع) إذ يقول: "قلت له: إني رأيت في المنام أنى قلت لك: إن القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، فقلت لي: هو كذلك؟ فقال أبو عبد الله (ع): هو كذلك هو كذلك". (الكافي 5: 23).

لأننا نقول ـ وكما أشرنا إليه سابقاً ـ ان الرؤية الصادقة هي رتبة من رتب معرفة الغيب والاطلاع على الحقائق، ولكن تمييز الرؤيا الصادقة ومعرفتها وفهم تعبيرها لا يكون في بعض الأحيان إلا للمعصوم (ع)، وفي هذه الرواية قد أقر المعصوم (ع) الجواب الذي أجابه عن حكم المسألة في الرؤيا، ومع وجود المعصوم (ع) الذي تعرض عليه الرؤى والمكاشفات فيميز صحيحها من سقيمها لا يبقى مجال للتردد والإبهام في ما يراه الإنسان من مكاشفات يعرضها على الإمام المعصوم (ع) فيميز بينها ويكشف حقها من باطلها سواء كانت المكاشفات حصلت... في اليقظة أم في المنام، وبالتالي يكون المرجع الأصلي في إثبات أو نفي الحقيقة الدينية والحكم الشرعي ليست هي المكاشفة أو الرؤيا وإنما هو إقرار الإمام المعصوم (ع) وتصديقه.

وإلى هنا ننتهي من البحث عن الرؤيا وما يرتبط بها من أبحاث علمية، ونختم هذه الكلمة بالحديث عن قضية ترتبط بالرؤيا وملابساتها، وهي النقطة الأخيرة من هذه الكلمة.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net