متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المقدمة : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة
الكتاب : بحوث قرآنية في التوحيد والشرك    |    القسم : مكتبة القرآن و الحديث

المقدمة

كلمة التوحيد و توحيد الكلمة


 بُني الاِسلام على كلمتين: «كلمة التوحيد» والشهادة على أنّه لاإله إلاّ اللّه ونفي أُلوهية وربوبية كلّ موجود سواه، و«توحيد الكلمة» والاعتصام بحبل اللّه المتين والنهي عن التفرق والتشتت وراء مسائل هامشية لا تمسُّ ـ في كثير من الاَحيان ـ جوهرَ الاِسلام، ورائدُنا في الدعوة إلى الوحدة وحفظ كيان الاِسلام، قوله سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَقُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) .(1)

 ولو سبرنا أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته العملية نلمس منها اهتماماته الكبيرة بتوحيد الكلمة ولمّ الشمل، فانّ الوحدة هي دعامة القوة والرفاه ونيل السعادة، كما أنّ التفرقة هي بوَرة الضعف والشقاء والاندحار.

 
____________

 1 ـ آل عمران|103.


( 8 )

 ولنقتصر من سيرته وكلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الاَُمور التالية:

 أ. قدِم النبيص يثرب، و الاَوس و الخزرج يقودان جمله وشبّانهم يطوفون حوله وكانت القبيلتان هما الحجر الاَساس لبناء الدعوة الاِسلامية، ولكن كان بين الطائفتين قبل اعتناق الاِسلام حروب طاحنة أسفرت عن مصرع العديد منهم و كانت البغضاء والعداوة متفشية بينهم، وفي تلك الظروف هبط عليهم النبيورأى ضرورة رأب الصدع وتقريب الخطى بين القبيلتين بل جعْلَهما اخوين متحابين ومتراحمين.

 فأوّل خطوة قام بها هي التآخي بينهما حسماً لمادة الخلاف وإنساءً للماضي.(1)

 ب. انتصر المسلمون على قبيلة بني المصطلق، فبينا رسول اللّه على مائهم نشب النزاع بين رجل من الاَنصار ورجل من المهاجرين، فصرخ الاَنصاري، فقال: يا معاشر الاَنصار، وصرخ الآخر، وقال: يا معشر المهاجرين، فلما سمعهما النبيصقال: دعوها فانّها منتنة...(2) يعني انّها كلمة خبيثة، لاَنّها من دعوى الجاهلية، واللّه سبحانه جعل الموَمنين إخوة وصيّرهم حزباً واحداً، فينبغي أن تكون
____________

 1 ـ الدر المنثور:2|287، تفسير الآية 103 من سورة آل عمران، نقل عن مقاتل بن حيان انّ هذه الآية نزلت في قبيلتين من قبائل الاَنصار، إلى أن قال: فقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصلح بينهم.

 2 ـ ابن هشام: السيرة النبوية:3|303، غزوة بني المصطلق.


( 9 )

الدعوة في كلّ مكان وزمان لصالح الاِسلام والمسلمين عامة، لا لصالح قوم ضد الآخرين، فمن دعا في الاِسلام بدعوى الجاهلية يعزر.

 فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصف كلّدعوة تشقّ عصا المسلمين وتمزق وحدتهم بأنّها دعوى منتنة، وكيف لا تكون كذلك وهي توجب انهدام دعامة الكيان الاِسلامي.

 ج. نزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دار هجرته والتفت حوله القبيلتان: الاَوس والخزرج، فمرَّ شاس بن قيس ـ الذي كان يحمل في قلبه ضغناً للمسلمين ـ على نفر من أصحاب رسول اللّه ص من الاَوس والخزرج في مجلس يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الاِسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.

 فقال: قد اجتمع ملاَ بني قيلة بهذه البلاد، لا واللّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملوَهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من اليهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بُعاث، يوم إقتتلت فيه الاَوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للاَوس على الخزرج، وكان على الاَوس يومئذ حُضير بن سماك الاَشهلي، وعلى الخزرج عمرو بن النُّعمان البياضي، فقتلا جميعاً.

 دخل الشاب اليهودي مجتمعَ القوم فأخذ يذكر مقاتلتهم ومضاربتهم في عصر الجاهلية فأحيى فيهم حميَّتها حتى استعدُّوا للنزاع والجدال، وأخذ الشاب يوَجج نار الفتنة.

 


( 10 )

 فبلغ ذلك رسول اللّهص فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقالص: يا معشر المسلمين! اللّه، اللّه، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم اللّه بالاِسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم من الكفر وألّف به بين قلوبكم.(1)

 وقد تركت كلمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقعاً في نفوسهم، حيث فطنوا إلى أنّـها نزعة من نزعات الشيطان، فندموا على ما وقع منهم ثمّ انصرفوا.

 انّ كلمة الرسول، كشفت القناع عن الخدعة اليهودية، وأطفأت نار الفتنة في مهدها، ودخلت في القلوب الموَمنة وصيّرتهم إخواناً متحابِّين.

 هذه القصة وكم لها من نظير تعكس لنا المحاولات المستميتة التي يبذلها أعداء الاِسلام بغية الاِطاحة بوحدة المسلمين وتمزيق شملهم.

 ولو كان في عصر الرسول شاس أو شاسان من اليهود، ففي الوقت الحاضر المئات بل الاَُلوف منهم جنّدوا قواهم الشيطانية، وأثاروا النعرات الطائفية بين المسلمين من خلال طرح مسائل هامشية لتكدير صفوهم.

 إنّ أساليب الاَعداء في إثارة الفتن لا تعدُّ ولا تُحصى، ولهم مخططات مختلفة حسب ما تقتضيه الظروف والبيئات.

 
____________

 1 ـ انظر السيرة النبوية: 1|555ـ556، ط عام 1375هـ.


( 11 )

 فالعقل يفرض على المسلمين رصَّ صفوفهم، وتوحيدَ كلمتهم بغية الوقوف أمام تلك الخُطط والموَامرات .

 إنّ مسألة التوحيد ونبذ الشرك من المسائل الهامّة التي تعد الهدف الاَسنى للاَنبياء والمرسلين وكبار المصلحين. فالتوحيد رمز الاِسلام وعزّة المسلمين .

 هذا ومع الاعتراف بأهميته ولكن وجدت ـ من خلال البحث في التوحيد والشرك ـ مسائل هامشية صارت ذريعة للاختلاف ووسيلة للتشتت فآثرنا في هذه الرسالة المتواضعة استنطاق القرآن الكريم في هذه المسائل والاستنارة بنور السنة النبوية التي اتفق المسلمون على كونها المصدر الثاني للعقيدة والشريعة بعد الذكر الحكيم.

 وأخيراً ندعو المجتمع الاِسلامي إلى ما دعا به القرآن الكريم، وقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) .

 فالمسلمون ملّة واحدة يجمعهم إله واحد، وكتاب واحد، ودين واحد، وشريعة واحدة فما يجمعهم أكثر ممّا يفرقهم.

 والجميع كما يقول شاعر الاهرام:

انّا لتجمعنا العقيدة أمَّة * ويضمّنا دين الهدى أتباعا
ويؤلف الاِسلام بين قلوبنا * مهما ذهبنا في هوى أشياعا

 

جعفر السبحاني

 


( 12 )



( 13 )


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net