متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الإمام الرضا والمأمون ، المأمون وولاية العهد للإمام الرضا
الكتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) ج3    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

4 - الإمام الرضا والمأمون

كان الخليفة المأمون (198 - 218 هـ / 813 - 823 م) مولعا بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمع له العلماء والفقهاء والمتكلمين، من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق أحد منهم، إلا اعتراف بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور، حتى قيل أن أحد العلماء - وهو محمد بن عيسى اليقطيني - جمع من مسائل الإمام الرضا أمامه، وأجوبتها حوالي 18 ألف مسألة -.

هذا وفي كتب الشيعة الكثير من هذه المسائل، ومنها:

أن المأمون سأل الإمام الرضا فقال: يا ابن رسول الله، إن الناس يروون عن جدك (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: خلق الله آدم على صورته، فما رأيك؟.

قال الإمام: إنهم حذفوا أول الحديث الذي يدل على آخره، وهذا هو الحديث كاملا: " مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، برجلين يتسابان، ويقول أحدهما للآخر:

قبح الله وجهك، ووجها يشبهك فقال النبي (صلى الله عليه وسلم)، للساب: لا تقل هذا، فإن الله خلق آدم على صورته، أي على صورة من تشتمه، وعليه يكون شتمك لخصمك هذا، شتم لآدم عليه السلام.

ومنها: أنه سئل: أين كان الله؟ وكيف كان؟ وعلى أي شئ يعتمد؟.

فقال: إن الله تعالى كيف الكيف، فهو بلا كيف، وأين الأين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته.

ومعنى جواب الإمام: أن الله خلق الزمان، وخلق الأحوال، فلا زمان له ولا حال، وغني عن كل شئ، فلا يعتمد على شئ، غير ذاته بذاته.

ومنها: أنه سئل: عن معنى إرادة الله، فقال: هو فعله لا غير، ذلك أن يقول للشئ: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق لسان، ولا همة ولا تفكر، ولا يكف كذلك، ولا كما.


الصفحة 109
ومنها: أنه سئل عن معنى قول جده الإمام الصادق: " لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين " رغم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك، أما معنى " الأمر بين الأمرين ". فهو وجود السبيل إلى إتيان ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، أي أن الله سبحانه وتعالى، قدره على فعل الشر وتركه كما أقدره على الخير وتركه، وأمره بهذا، ونهاه عن ذاك.

ومنها: أنه سئل عن الإمامة، فقال: إن الله لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شئ، حيث قال عز من قال: " ما فرطنا في الكتاب من شئ) (1)، وأنزل في حجة الوداع، (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا) (2).

والإمامة من إكمال الدين، وإتمام النعمة، وقد أقام لهم الإمام علي علما وإماما، ومن زعم أن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لم يكمل دينه - ببيان الإمام - فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر.

إن الإمامة لا يعرف قدرها، إلا الله، فهي أجل قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانة من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم.

إن الإمامة خلافة الله والرسول، وزمام الدين ونظام المسلمين، والإمام يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، ويقيم الحدود، ويذب عن الدين، والإمام أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، وهو مطهر من الذنوب، مبرأ من العيوب، لا يدانيه أحد من خلقه، ولا يعادله عالم، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل، فأين للناس أن تستطيع اختيار مثل هذا (3).

____________

(1) سورة الأنعام: آية 38.

(2) سورة المائدة: آية 3.

(3) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 240 - 242.

الصفحة 110
هذا وقد سئل الإمام الرضا عن العترة: أهم الآل أم غير الآل؟

فقال: هم الآل، فقالت العلماء: فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أمتي آلي، وهؤلاء الأصحاب يقولون: آل محمد هم أمته.

فقال الإمام: أخبروني: فهل تحرم الصدقة على الآل؟ قالوا: نعم، قال:

فتحرم على الأمة، قالوا: لا. قال: هذا فرق بين الآل والأمة، أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين، دون سواهم، قالوا: ومن يا أبا الحسن، فقال: من قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) (1)، فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين، دون الفاسقين (2).

وفي مناظرة جرت في مجلس المأمون بين الإمام الرضا والعلماء، وقد بين فيها الرضا فضل آل البيت، فلقد سأل المأمون عن معنى قول الله تعالى:

(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (3).

فقالت العلماء: أراد الله بذلك الأمة كلها، فسأل المأمون الرضا عن ذلك.

فقال الإمام الرضا: أراد الله العترة الطاهرة، لأنه لو أراد الأمة، لكانت جميعها في الجنة، يقول الله: (فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير) (4)، ثم جمعهم كلهم في الجنة،

____________

(1) سورة الحديد: آية 26.

(2) أنظر: الصدوق: عيون الأخبار 1 / 230، الطبري: بشارة المصطفى ص 282، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 272.

(3) سورة فاطر: آية 32.

(4) سورة فاطر: آية 32.

الصفحة 111
فقال تعالى: (جنات عدن يدخلونها) (1) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة، لا لغيرهم.

فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟.

فقال الإمام الرضا: الذين وصفهم الله في كتابه فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا) (2)، وهم الذين قال فيهم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (3).

وهناك كذلك آية المباهلة: قال الله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (4).

والذين اختارهم الله في هذه الآية، واصطفاهم للمباهلة، هم بالذات الذين اصطفاهم وعناهم في آية (ثم أورثنا الكتاب)، ولا يختلف اثنان في أن المراد بأنفسنا " على " وبأبنائنا " الحسن والحسين " ونسائنا " فاطمة " وهذه خاصة لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه مخلوق (5).

____________

(1) سورة النمل: آية 31 (2) سورة الأحزاب: آية 33.

(3) أنظر عن حديث الثقلين (صحيح مسلم 15 / 179، مسند الإمام أحمد 3 / 17، 4 / 466، 371، 5 / 181، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1 / 171 - 172، 2 / 572، 585، 603، 786، كنز العمال 1 / 45، 47، 48، 96، 97، 6 / 390، 7 / 103، سنن البيهقي 2 / 148، 7 / 30، مجمع الزوائد للبيهقي 5 / 195، 9 / 163 - 164، المستدرك للحاكم 3 / 17، 109، 148، سنن الدارمي 2 / 431، مشكل الآثار للطحاوي 4 / 368، صحيح الترمذي 2 / 308، أسد الغابة لابن الأثير 2 / 13، 3 / 147، حلية الأولياء لأبي نعيم 1 / 355، 9 / 64، ابن تيمية: رسالة فضل أهل البيت وحقوقهم 75، 9086، 117).

(4) سورة آل عمران: آية 61.

(5) أنظر أدلة أخرى (محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 258 - 261).

الصفحة 112
ومن المعروف أن آية التطهير، وحديث الثقلين، من أهم الأدلة - عند الشيعة الإمامية خاصة - في حصر الإمامة في سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وأولاده من بعده، وبهذا احتج الإمام الرضا على الخليفة المأمون، وأكد أن الوراثة فيهم، لا في غيرهم.

وسأل المأمون الإمام الرضا فقال. يا أبا الحسن، إني فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك، محمولا على الهوى والعصبية؟.

فقال الإمام الرضا: لو أن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وسلم)، من وراء أكمة من هذه الأكمات، فخطب إليك ابنتك، أكنت تزوجه إياها؟.

فقال المأمون: سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال الرضا: أفتراه يحل له أن يخطب إلي؟.

قال: فسكت المأمون، ثم قال: أنتم والله أمس برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، رحما (1).

وسأل المأمون الإمام الرضا يوما، فقال: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب؟.

فقال الإمام الرضا: ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه، وفرض طاعته على بنيه فأمر له المأمون بألف درهم (2).

 

5 - المأمون وولاية العهد للإمام الرضا

اختلفت الآراء بالنسبة لموقف المأمون بالنسبة للعلويين، فمن قائل: إنه كان شديد الميل إليهم - طبعا لا تكلفا - يقول السيوطي: وفي سنة إحدى

____________

(1) المفيد: الفصول المختارة من العيون والمحابس 1 / 15 - 16، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 273 - 274.

(2) ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 271.

الصفحة 113
ومائتين خلع المأمون أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده، " علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق "، حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه " الرضا "، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد، ولبس الخضرة (1).

هذا وكان الخليفة المأمون يحرص على حضور جنائز رؤساء العلويين، مثل " يحيى بن الحسين بن زيد " الذي صلى عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، على حين أرسل أخاه " صالحا " لينوب عنه في جنازة أحد العباسيين الأقرباء، وقد مات بعد " يحيى " بقليل، فلما عزى صالح أم المتوفى - وهي زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، ابنة عم الخليفة المنصور - وكانت لها عند العباسيين هيبة ومنزلة عظيمة، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، ظهر غضبها، وقالت لحفيدها: تقدم فصل على أبيك، وتمثلت بقول الشاعر:

سبكناه ونحسبه لجينا * فأبدى الكير عن خبث الحديد

ثم قالت لصالح: قل له يا ابن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد " لوضعت ذيلك على فيك، وعدوت خلف جنازته ".

وحين مات " محمد بن جعفر " - وكان قد أرسل إلى خراسان بعد خروجه على المأمون - دخل المأمون بين عمودي السرير، فحمله حتى وضعه في لحده، وقال: هذه رحم مجوفة منذ مائتي سنة، وقضى دينه، وكان عليه نحو ثلاثين ألف دينار.

ويرى بعض الباحثين أن المأمون - كما سنرى - إنما كان يفضل الإمام

____________

(1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 307 (القاهرة 1964).

الصفحة 114
علي بن أبي طالب على غيره من الخلفاء الراشدين، ويرى أنه أحق بالخلافة منهم، ويرجعون هذا الاعتقاد إلى تأثير البيئة التي تربى فيها المأمون، فإنه كان في أول أمره في حجر " جعفر البرمكي " ثم انتقل إلى " الفضل بن سهل "، وكلاهما يضمر التشيع، فاختمرت عنده هذه الفكرة - على غير ما كان عليه آباؤه - ولهذا كان المأمون يعامل الطالبيين معاملة تناسب اعتقاده في فضل أبيهم، وظل على عقيدته هذه إلى آخر حياته (1).

ويستدل هذا الفريق على صحة رأيه بما رواه الطبري في تاريخه، والذهبي في دول الإسلام، والسيوطي في تاريخ الخلفاء من أنه في سنة إحدى عشرة ومائتين أمر بأن ينادي: " برئت الذمة ممن ذكر معاوية بن أبي سفيان بخير، وأن أفضل الخلق - بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) - علي بن أبي طالب " (2).

ويروي المسعودي: أنه في سنة اثنتي عشرة ومائتين نادى منادي المأمون:

" برئت الذمة من أحد الناس ذكر معاوية بخير، أو قدمه على أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتكلم في شئ من التلاوة أنها مخلوقة، وغير ذلك، وتنازع الناس في السبب الذي من أجله أمر بالنداء في أمر معاوية، فقيل في ذلك أقاويل، منها أن بعض سماره حدث بحديث عن مطرق بن المغيرة بن شعبة الثقفي.

وقد ذكر هذا الخبر " الزبير بن بكار " (172 هـ / 788 م - 256 هـ / 870 م) في كتاب " الموفقيات " قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرق بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة

____________

(1) محمد مصطفى هدارة: المأمون - الخليفة العالم - القاهرة 1966 ص 70 - 71 (أعلام العرب رقم 95).

(2) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308، تاريخ الطبري 10 / 243.

الصفحة 115
فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتما، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشئ حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتما منذ الليلة.

قال: يا بني إني جئت من عند أخبث الناس، قلت له: وما ذاك؟ قال:

قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوانك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه.

فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو " تيم " فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو " عدي "، فاجتهد وشمر عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، ثم ملك أخونا عثمان، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به، وأن أخا هاشم (وفي رواية ابن أبي كبشة) يصرخ به في كل يوم خمس مرات: " أشهد أن محمدا رسول الله "، فأي عمل يبقى مع هذا؟ لا أم لك، والله إلا دفنا دفنا (1).

وأن المأمون لما سمع هذا الخبر، بعثه ذلك على أن أمر بالنداء على حسب ما وضعنا، وأنشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر، فأعظم الناس ذلك وأكبروه، واضطربت العامة منه، فأشير عليه بترك ذلك، فأعرض عما كان هم به (2).

هذا فضلا عن وصية المأمون (198 - 218 هـ / 813 - 833 م) لأخيه المعتصم (218 - 227 هـ / 833 - 842 م) والتي يقول فيها " وهؤلاء بنو

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب 2 / 429 - 430 (بيروت 1982)، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5 / 129 - 130 (بيروت 1965) (وانظر مخالفة معاوية للسنة في أمور عدة شرح نهج البلاغة 2 / 130 - 131).

(2) المسعودي 2 / 430.

الصفحة 116
عمك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم وتجاوز عن سيئتهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " (1).

وفي الكامل: قال: " يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم، قال: هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي - صلوات الله عليه - فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأقبل من محسنهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " (2).

ويمكن أن نفسر في ضوء هذا الاعتقاد، ما قاله المأمون للسيدة زينب بنت سليمان بن علي، التي كان العباسيون يعظمونها - كما أشرنا آنفا - حين سألته عما دعاه من نقل الخلافة من بيته إلى بيت الإمام علي بن أبي طالب، قال: يا عمة، إني رأيت عليا حين ولي الخلافة أحسن إلى بني العباس، وما رأيت أحدا من أهل بيتي، حين أفضى الأمر إليهم، كافؤوه على فعله في ولده، فأحببت أن أكافئه على إحسانه (3).

وأسند الصولي: أن بعض آل بيته (أي بيت المأمون) قال: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب، والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت، لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحدا من بني هاشم شيئا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدا منهم حتى ولاه

____________

(1) محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 71 - 72.

(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 6 / 431، وانظر تاريخ الطبري 10 / 295.

(3) محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 72.


الصفحة 117
شيئا، فكانت هذه منة في أعناقنا، حتى كافأته في ولده بما فعلت (1).

والمأمون حين قال ذلك، وحين كتب وصيته، وحين أخذ المواثيق على أخيه المعتصم - وهو يحتضر - كان بعيدا عن تأثير " الفضل بن سهل "، بعد أن قضى الأخير نحبه منذ زمن طويل، وإن كان اعتقاده - مع ذلك - لا يخلو من تأثير قديم، صحب نشأته.

على أن هناك وجها آخر للنظر، يذهب أصحابه إلى أن التشيع إنما كان قد انتشر في عهد المأمون - فضلا عن عهد أبيه من قبله - حتى امتدت جذوره إلى البلاط الملكي، فكان الفضل بن سهل، ذو الرياستين، وزير المأمون شيعيا، وكذلك كان " طاهر بن الحسين الخزاعي " قائد المأمون، الذي فتح له بغداد، وقتل أخاه الأمين (193 - 198 هـ - / 808 - 813 م) وكثير سواهما، كانوا شيعة، حتى أن المأمون خشي عاقبة هذين الرجلين، فقتل الفضل، وولى طاهرا إمارة هرات - أي عزله عن قيادة الجيش إلى وظيفة أدنى - وكانت الطاهرية كلها تتشيع - كما قال ابن الأثير في حوادث عام 250 هـ (2).

وجاء المأمون إلى الحكم، ورأى ما رأى من كثرة الشيعة، وإقبال الناس على الإمام الرضا، ونقمتهم على أبيه، والحاكمين من أسلافه، فحاول أن يداهن، ويستميل الرأي العام، فأظهر التشيع كذبا ونفاقا، وأخذ يدافع ويناظر عن إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأنه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر، وهو لا يؤمن بشئ إلا بتثبيت ملكه، وتوطيد سلطانه، والغريب أن حيل المأمون قد انطلت على كثير من الشيعة، فظنوا به خيرا.

والحقيقة أن الرشيد والمأمون قد بنيا على أساس واحد، وهو الاحتفاظ بالسلطة، وإن اختلف شكل البناء، فلقد دس الرشيد السم للإمام الكاظم، ودس

____________

(1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308.

(2) محمد الحسين المظفري: تاريخ الشيعة ص 50 (ط 1353 هـ)، محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 164 - 165 الشيعة في الميزان ص 165 - 166

الصفحة 118
المأمون السم للإمام الرضا، ولكن المأمون كان قد أفاد من أخطاء أبيه الرشيد، الذي جاهر بالعداء لأهل البيت، وسجن الإمام الكاظم علنا، ثم اغتاله بأسلوب يدينه، وأفاد المأمون من أخطاء أبيه، فأحكم الخطط، لإخفاء جرائمه وآثامه، وقصته مع الإمام الرضا - كما سنرى - تدل على ذلك بوضوح.

وروي أن الخليفة المأمون اجتمع بالإمام علي الرضا، وقال له: رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك.

قال الرضا: إن كانت الخلافة حقا لك، وأنت أهل لها، فلا يجوز أن تخلع نفسك منها، وإن لم يكن لك حق بها، فلا يجوز أن تعطيها لغيرك.

قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الأمر.

قال الرضا: إني بالعبودية (لله) أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالردع عن محارم الله، أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع أرجو الرفعة عند الله.

قال المأمون: إن لم تقبل الخلافة فكن ولي عهدي.

قال الرضا: لست أفعل ذلك مختارا أبدا.

قال المأمون: إنك تريد بهذا أن يقول الناس عنك، أنك زاهد في الدنيا.

قال الرضا: والله ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد.

قال المأمون: وما أريد، قال الرضا: تريد أن يقول الناس: إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد، حين أتيحت له الفرصة.

فغضب المأمون، وقال: والله إن لم تقبل ضربت عنقك.

قال الرضا: إن الله سبحانه قد نهاني أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان

الصفحة 119
الأمر كذلك، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل، على: أن لا آمر، ولا أنهى، ولا أقضي، ولا أغير شيئا، فأجابه المأمون إلى ذلك.

وهكذا أراد المأمون أن يري الناس أن الإمام الرضا راغب في الدنيا بقبوله، ولاية العهد، فيسقط محله في قلوبهم، ولكن ما زاده ذلك إلا رفعة وعظمة عندهم، ولما أعيت المأمون الحيل في أمر الرضا اغتاله بالسم.

ومن ثم، فإن موقف المأمون من الإمام الرضا، كموقف أبيه الرشيد من الإمام الكاظم، وموقف جده " المنصور " من الإمام الصادق، وموقف معاوية بن أبي سفيان من الإمام الحسن، لقد هانت دماء الأبرياء والأولياء على حكام الجور من أجل الملك والسلطان، وهانت على المصلحين نفوسهم من أجل الحق (1).

ويروي الحافظ ابن كثير القصة كالتالي: وبايع المأمون لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه " الرضا من آل محمد "، وطرح لبس السواد، وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين، وذلك أن المأمون رأى أن عليا الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده (2).

ويروي الإمام الطبري (3): أن علي الرضا لما قدم " مرو " أحسن المأمون وفادته، وجمع رجال دولته وأخبرهم أنه قلب نظره في أولاد العباس، وأولاد

____________

(1) الصدوق: عيون الأخبار، محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 167 - 168 (بيروت 1981).

(2) ابن كثير: البداية والنهاية 10 / 247 (القاهرة 1351 هـ / 1933 م).

(3) تاريخ الطبري 10 / 43، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 2 / 185 - 186. القاهرة 1964).

الصفحة 120
علي بن أبي طالب، فلم يجد أحدا أفضل، ولا أورع ولا أعلم منه، لولاية عهده، ولقبه " الرضا من آل محمد " وأمر جنده بطرح السواد - شعار العباسيين - وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من رمضان عام 201 هـ.

وفي تاريخ اليعقوبي: وبايع المأمون للرضا علي بن موسى بن جعفر، بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201 هـ، وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذ البيعة للرضا، ودعا له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه (1).

ويقول المسعودي (2): ووصل إلى المأمون أبو الحسن علي بن موسى الرضا، وهو بمدينة " مرو " فأنزله المأمون أحسن إنزال، وأمر المأمون بجميع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في ولد العباس، وولد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر من " علي بن موسى الرضا "، فبايع له بولاية العهد، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وزوج محمد بن علي بن موسى الرضا بابنته " أم الفضل ". وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وأظهر بدلا من ذلك الخضرة في اللباس والأعلام وغير ذلك، ونمى ذلك إلى من بالعراق من ولد العباس، فأعظموه، إذ علموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم.

وحج بالناس " إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق " - أخو الرضا بأمر المأمون - واجتمع من في مدينة السلام (بغداد) من ولد العباس ومواليهم وشيعتهم، على خلع المأمون، ومبايعة إبراهيم بن المهدي، المعروف " بابن

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 448 (بيروت 1980).

(2) المسعودي: مروج الذهب 2 / 417.

الصفحة 121
شكلة " فبويع له يوم الخميس لخمس ليال خلون من المحرم، سنة اثنتين ومائتين وقيل: إن ذلك في سنة ثلاث ومائتين.

وفي رواية ابن خلكان: كان المأمون قد زرج علي الرضا ابنته " أم حبيبة " في سنة اثنتين ومائتين، وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس - الرجال منهم والنساء - وهو بمدينة " مرو " من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين الكبار والصغار، واستدعى علي الرضا، فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء وأخبرهم: أنه نظر في أولاد العباس، وأولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر، من علي الرضا، فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، ونمى الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم، فخلعوا المأمون، وبايعوا إبراهيم المهدي - وهو عم المأمون - وذلك يوم الخميس لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين ومائتين، وقيل: سنة ثلاث ومائتين (1).

على أن هناك اتجاها يذهب إلى أن " الفضل بن سهل " إنما هو الذي كان من وراء تولية المأمون للرضا ولاية العهد، ذلك أن المأمون عندما بلغه موت أبيه الرشيد، ورجوع رجاله إلى أخيه " الأمين " بالأموال والأحمال، وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته في " مرو " وشاورهم في الأمر، وأظهر لهم ضعفه، وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرا، وقال له الفضل بن سهل: أنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم، اصبر، وأنا أضمن لك الخلافة، فاطمأن خاطر المأمون بهذا الوعد الصريح وقال له: صبرت: وجعلت الأمر لك، فقم به " وسماه ذا الرياستين " - أي رياسة السيف والقلم - وجهز الفضل الجيوش بقيادة " طاهر بن الحسين "، وانتهت الحرب بفتح بغداد، وقتل

____________

(1) ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 269 - 270.

الصفحة 122
الأمين عام 198 هـ، وحملت رأسه إلى المأمون في خراسان، وأصبح الفضل صاحب الكلمة النافذة في الدولة، وولى أخاه " الحسن بن سهل " كور الجبال والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، على أن يكون مقامه في بغداد.

وبذل الفضل كل جهده في تحريض المأمون على بيعة الإمام علي الرضا بولاية العهد من بعده، وربما كانت تلك البيعة شرطا لمساعدته في استرجاع الخلافة له، وربما حسن الفضل له ذلك، وإن لم يشترطه، فأجابه المأمون إلى ذلك، إما وفاء لوعده، أو مجاراة له للمكر به، أو أنه فعله عن حسن ظن في العلويين، وقد رضع حب الشيعة منذ طفولته، وكان يظهر التشيع، فبايع لعلي الرضا سنة 201 هـ، وجعله الخليفة من بعده، ولقبه " الرضا من آل محمد "، وأمر جنده بطرح السواد، ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق (1).

هذا وتذهب رواية إلى أن " الفضل بن سهل " لم يفعل ذلك حبا للإمام علي الرضا، يروي الجهشياري أن كلاما دار بين الفضل وبين " نعيم بن أبي حازم " - بحضرة المأمون - فقال له نعيم: إنك تريد أن تزيل الملك عن بني العباس إلى ولد علي، ثم تحتال لتجعل الملك كسرويا، ولولا أنك أردت ذلك، لما عدلت عن لبسه إلى علي وولده وهي البياض إلى الخضرة، وهي لباس كسرى والمجوس (2)، هذا فضلا عن الخلاف الذي حدث بين الإمام الرضا والفضل بن سهل بعد البيعة.

هذا ويذهب " ابن طباطبا " (3) إلى أن الفضل بن سهل، وزير المأمون، هو

____________

(1) جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3 / 438 - 439 (بيروت 1967).

(2) الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 312 - 313 (القاهرة 1938).

(3) ابن طباطبا: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسن بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، الحجازي الأصل، المصري الدار والوفاة، كان طاهرا فاضلا كريما، واسع الثراء، ولد عام 286 هـ، وتوفي في الرابع من رجب عام 348 هـ، ودفن بقرافة مصر، وقبره مشهور بإجابة الدعاء، روي أن رجلا ==>


الصفحة 123
القائم بهذا الأمر (أي بيعة الإمام الرضا) والمحسن له (1)، ويعتقد الدكتور الدوري أن تأثير الفضل بن سهل، ووجود المأمون في خراسان، مما اضطره إلى هذه الخطة (2).

هذا وتذهب المصادر الإمامية إلى أن هناك أسبابا أخرى - فضلا عن الأسباب التي جاءت في المصادر التاريخية - دفعت المأمون إلى مبايعة الإمام الرضا بولاية العهد، فيذهب الصدوق إلى أن المأمون إنما كان يعتقد أن الإمام الرضا إنما كان يدعو إلى نفسه في السر، فأراد أن يجعله ولي عهده، وبالتالي يعترف بخلافة العباسيين وملك المأمون، وليعتقد فيه المفتونون به، أنه ليس مما ادعى من قليل ولا كثير، وإن هذا الأمر لهم دونه (أي للعباسيين) (3).

وهكذا كان الخلفاء العباسيون يعتقدون أن الأئمة إنما يدعون إلى أنفسهم، ويطلبون الخلافة، وإن لم يخرج منهم أحد، لاتخاذهم الجانب السلبي تجاه الأحداث السياسية، بعد أن رأوا أنه لا جدوى من الخروج، غير أن الواضح أن الخلفاء العباسيين إنما كانوا يخشون أتباع الأئمة الذين كانوا يعتقدون في إمامتهم، وينكرون شرعية الحكم العباسي (4).

هذا إلى أن منزلة الأئمة عند الناس، وما كانوا يتمتعون من تقدير وإجلال، إنما قد أثار خوف العباسيين، يروي الكليني عن الإمام الرضا قوله:

" والله ما زادني هذا الأمر الذي دخلت فيه من نعمة عندي شيئا، ولقد كنت بالمدينة، وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنت أركب حماري وأمر

____________

<= حج وفاته أن يزور النبي (صلى الله عليه وسلم)، فضاق صدره لذلك، فرأى النبي (صلى الله عليه وسلم) في نومه فقال له: إذا فاتتك الزيارة، فزر قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا (وفيات الأعيان 3 / 81 - 83).

(1) ابن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص 217 (بيروت 1960).

(2) عبد العزيز الدوري: العصر العباسي الأول ص 208 (بغداد 1944).

(3) الصدوق: عيون أخبار الرضا 2 / 170.

(4) نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 242 - 244.

الصفحة 124
في سكك المدينة، وما بها أعز مني، وما كان بها أحد منهم يسألني حاجة يمكنني قضاؤها، إلا قضيتها له " (1).

ويروي الطبرسي - عن ابن نوح قال: قلت للرضا إنا نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يسديه الله إليك من غير سيف، فقد بويع لك، وضربت الدراهم باسمك، فقال: ما منا أحد اختلفت إليه الكتب، وسئل عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحملت إليه الأموال، إلا أغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله عز وجل بهذا الأمر، رجلا خفي المولد والمنشأ، غير خفي في نسبه " (2).

وأما قصة اختيار الإمام الرضا وليا لعهد المأمون - عند أبي الفرج الأصفهاني (3) - فيرويها كالتالي:

" وجه المأمون إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملوا إليه من المدينة، وفيهم علي بن موسى الرضا، فلما قدموا على المأمون، أنزلهم دارا، وأنزل علي بن موسى الرضا دارا، ووجه إلى الفضل بن سهل، فأعلمه أنه يريد العقد له، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما فيه إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له: إن عاهدت الله أن أخرجها إلى أفضل آل أبي طالب، إن ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل، فاجتمعا معه على ما أراد،

____________

(1) الكليني: الكافي 8 / 151.

(2) الطبرسي: إعلام الورى بأعلام الهدى ص 407 (طهران 1479 هـ).

(3) أبو الفرج الأصفهاني: هو علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، صاحب " الأغاني " و " مقاتل الطالبيين " كان عالما بالأنساب والسير وأيام الناس، ولد عام 284 هـ، وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة عام 356 هـ، ببغداد (وفيات الأعيان 3 / 307 - 309، شذرات الذهب 3 / 19 - 20، ميزان الاعتدال 3 / 123، معجم الأدباء 13 / 94، تاريخ بغداد 11 / 398).

الصفحة 125
فأرسلهما إلى علي بن موسى الرضا، فعرضا ذلك عليه فأبى، فتهدداه وتهدده المأمون حتى قبل، وحين أجلسه للبيعة جعل ابنه العباس أول المبايعين " (1).

ومن الواضح من هذا النص أن المأمون كانت له رغبة حقيقية في اختيار ولي عهده من آل أبي طالب، وأن فكره قد اتجه إلى " علي الرضا " فأنزله في دار مستقلة، وأن معارضة الحسن بن سهل ربما كانت من تدبير أخيه الفضل حتى يبعدا عن نفسيهما تهمة التأثير على المأمون في هذا الأمر الخطير، وربما كانت فكرة اختيار أحد العلويين فكرتهما في الأصل، وأن اختيار الإمام الرضا إنما كان اختيار المأمون وحده، ومن المعروف أن هناك ودا غير متبادل بين الإمام الرضا وبين الفضل والحسن ابني سهل، وقد نجح الإمام الرضا في إزالة الغشاوة عن عيني المأمون من ناحيتهما، وتبصيره بما كان يحاول الفضل إخفاءه عنه من أحوال البلاد المضطربة حتى أنهم بايعوا عمه " إبراهيم بن المهدي " خليفة بدله، وبدا المأمون وكأنه يسمع ذلك لأول مرة، حتى رد على الإمام الرضا قائلا: " إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم "، بل وأخبر الإمام الرضا عن الحرب التي تدور رحاها بين إبراهيم و " الحسن بن سهيل "، وأن الناس تكره مقام الفضل وأخيه من المأمون (2).

ولنقدم الآن صورة مختصرة من كتاب العهد الذي كتبه المأمون بخطه للإمام علي الرضا - كما جاء في كتاب الفصول المهمة:

" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، لعلي بن موسى بن جعفر، ولي عهده، أما بعد، فإن الله عز وجل، اصطفى الإسلام دينا، واختار له من عباده رسلا، دالين عليه، هادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله تعالى إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)،

____________

(1) أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص 368 - 370.

(2) محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 75 - 76.

الصفحة 126
على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهدا عليهم، ومهيمنا، وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، الرسالة، جعل قوام الدين، ونظام المسلمين في الخلاقة ونظامها، والقيام بشرائعها وأحكامها ".

" ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، وحمل مشاقها، وخبر مرارة طعمها، وذاقها مسهرا لعينيه، منصبا لبدنه، مطيلا لفكره، فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، وجمع الكلمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، منعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، محبة أن يلقى الله سبحانه وتعالى، مناصحا له في دينه، وعباده، ومختارا لولاية عهده، ورعاية الأمة من بعده، أفضل من يقدر عليه، في دينه وورعه وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا لله تعالى، بالاستخارة في ذلك، ومسألته الهامة، ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره، معملا فكره ونظره في طلبه والتماسه، في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة ممن خفي عليه أمره، جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة ".

وكانت خبرته - بعد استخارة الله تعالى - وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في الفئتين جميعا: علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الذائع، وورعه الظاهر والشائع، وزهده الخالص النافع، وتخليه عن الدنيا، وتفرده عن الناس، وقد استبان له منذ لم تزل الأخبار عليه منطبقة، والألسنة عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، والأخبار واسعة، ولما لم يزل يعرف به من الفضل، يافعا وناشئا، وحدثا وكهلا، فلذلك عقد له بالعهد والخلافة من

الصفحة 127
بعده، واثقا بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله أنه فعله إيثارا للدين، ونظرا للإسلام والمسلمين، وطلبا للسلامة، وثبات الحجة، والنجاة في اليوم الذي تقوم فيه الناس لرب العالمين ".

" ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه، فبايعه الكل مطيعين مسارعين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيره ممن هو أشبك رحما، وأقرب قرابة، وسماه " الرضا "، إذ كان مرضيا عند الله تعالى، وعند الناس، وقد آثر طاعة الله تعالى، والنظر لنفسه وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين ".

" كتبه بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان المعظم، سنة إحدى ومائتين " (1).

ولنقدم الآن صورة ما على ظهر العهد، بخط الإمام علي بن موسى الرضا:

" بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، أقول، وأنا علي بن موسى بن جعفر، أن أمير المؤمنين، عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت، وأمن نفوسا فزعت، بل أحياها، بعد أن كانت من الحياة أيست، فأغناها بعد فقرها، وعرفها بعد نكرها، متبعا بذلك رضا رب العالمين، لا يريد جزءا من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين ".

" وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى، إن بقيت بعده، فمن حل عقدة

____________

(1) نور الأبصار ص 156 - 157.

الصفحة 128
أمر الله بشدها، أو فصم عروة أحب الله اتساقها، فقد أباح حريمه، وأحل محرمه، إذ كان بذلك زاريا على الإمام، منتهكا حرمة الإسلام ".

" وخوفا من شتات الدين، واضطراب أمر المسلمين، وحذر فرصة تنتهز، وعلقة تبتدر، جعلت لله تعالى على نفسي عهدا، أن استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافة العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، أن أعمل فيهم بطاعة الله، وطاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا أسفك دما، ولا أبيح فرجا، ولا مالا، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتحرى الكفاءة جهدي وطاقتي ".

" وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا، وإن أحدثت أو غيرت أو بدلت، كنت للعزل مستحقا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته في عافية، وللمسلمين، والجامعة والجفر، يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم، إن الحكم إلا لله يقص الحق، وهو خير الفاصلين، لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله تعالى على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيدا ".

" وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والحاضرين من أولياء نعمته، وخواص دولته، هم: الفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، والقاضي يحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن الأشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، وذلك في شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين " (1).

ثم بعد ذلك صورة لشهادة الشهود: القاضي يحيى بن أكثم وعبد الله بن طاهر وحماد بن النعمان وبشر بن المعتمر والفضل بن سهل.

____________

(1) نور الأبصار ص 175.

الصفحة 129
ثم أمر أمير المؤمنين بقراءة هذه الصحيفة - التي هي صحيفة العهد والميثاق - ظهرا وبطنا، بحرم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بين الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وسائر الأولياء، والأجناد، بعد أخذ البيعة عليهم، واستيفاء شروطها، بما أوجبه أمير المؤمنين من العهد لعلي بن موسى الرضا، لتقوم به الحجة على جميع المسلمين، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت لآراء الجاهلين، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه (1).

هذا وقد كتب الخليفة المأمون إلى " عبد الجبار بن سعد المساحقي " - عامله على المدينة - أن أخطب الناس، وأدعهم إلى بيعة " الرضا علي بن موسى " فقام خطيبا فقال:

" يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا " علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب "، ستة آباء، هم ما هم، من خير، من يشرب صوب الغمام " (2).

 

>>>>>>


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net