متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الباب الثاني عشر: في التوبة وشروطها
الكتاب : إرشاد القلوب ج1    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

الباب الثاني عشر
في التوبة وشروطها


قال الله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً}(1)، يعني بالنصوح لا رجوع فيها إلى ذنب.

وقال سبحانه: {انّما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم}(2).

قوله "بجهالة" يعني بمواقع العقاب، وقيل: بعظمة الله، وأخذه للعبد بعصيانه حال المواقعة، ثم قال سبحانه: {و ليست التوبة للذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال انّي تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار}(3).

نفى سبحانه قبول التوبة عند مشاهدة أشراط الموت من العاصي والكافر، وانّما هي مقبولة ما لم يتيقن الموت، فانّه سبحانه وعد قبوله بقوله: {و هو الذي

____________

1- التحريم: 8.

2- النساء: 17.

3- النساء: 18.


الصفحة 105
يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات}(1). وبقوله سبحانه مخبراً عن نفسه: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب}(2).

فالتوبة واجبة في نفسها عن القبيح وعن الإخلال بالواجب، ثمّ إنْ كانت التوبة عن حقّ الله تعالى، مثل ترك الصلاة والصيام والحج والزكاة وسائر الحقوق اللاّزمة للنفس والبدن أو لأحدهما، فيجب على التائب الشروع فيها مع القدرة عليها في وقت القدرة، والندم على الإخلال بها في الماضي، والعزم على ترك العود.

وان كانت التوبة عن حق الناس يجب ردّه عليهم ان كانوا أحياء، وإلى ورثتهم بعد موتهم ان كان ذلك المال بعينه والاّ فمثله، وان لم يكن لهم وارث تصدّق به عنهم ان علم مقداره، والاّ فيما يغلب على ظنّه مساواته، والندم على غصبه، والعزم على ترك العود إلى مثله، ويستغفر الله على تعدي أمره وأمر رسوله وتعدّي أمر امام زمانه، فلكلّ منهم حق في ذلك يسقط بالإستغفار.

وان كانت توبته عن أخذ عرض، أو نميمة، أو بهتان عليهم بكذب، فيجب انقياده إليهم، وإقراره على نفسه بالكذب عليهم والبهتان، وليستبرئ لهم عن حقّهم ان نزلوا، أو يراضيهم بما يرضوا به عنه.

وان كانت عن قتل نفس عمداً أو جراح، أو شيء في أبدانهم، فينقاد إليهم للخروج عن [حقوقهم على](3) الوجه المأمور به من قصاص عن جراح، أو دية عن قتل نفس عمداً ان شاء أو رضوا بالدية، والاّ فالقتل بالقتل.

وان كانت التوبة عن معصية من زنا، أو شرب خمر وأمثاله، فالتوبة عنه الندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إليه، وليست التوبة قول الرجل "استغفر الله وأتوب إليه" وهو لا يؤدّي حقّه ولا حق رسوله ولا امامه ولا حق

____________

1- الشورى: 25.

2- الشورى: 25.

3- أثبتناه من "ب" و"ج".


الصفحة 106
الناس.

فقول الرجل هذا من دون ذلك استهزاء بنفسه، ويجرِ عليها ذنباً ثانياً بكذبه، كما روي انّ بعض الناس اجتاز على رجل وهو يقول: استغفر الله، ويشتم الناس ويكرّر الاستغفار ويشتم، فقال السامع له: استغفر الله من هذا الاستغفار والتكرار.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيّها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وأصلحوا بينكم وبين ربّكم تسعدوا، وأكثروا من الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر تنصروا.

أيّها النّاس انّ أكيسكم أكثركم للموت ذكراً، وانّ أحزمكم أحسنكم استعداداً له، وانّ من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوّد لسكنى القبور، والتأهّب ليوم النشور(1).

وكان صلى الله عليه وآله يقول في دعائه: "اللهم اغفر لي(2) وتب عليّ انّك أنت التواب الرحيم".

وقيل: انّ ابليس قال: وعزتك لا أزال أغوي [وأدعو](3) ابن آدم إلى المعصية ما دامت الروح في بدنه، فقال الله تعالى: "وعزّتي وجلالي لا أمنعه التوبة حتّى يغرغر بروحه(4).

وما يقبض الله عبداً الاّ بعد أن يعلم منه أنّه لا يتوب لو أبقاه، كما أخبر الله سبحانه عن جواب أهل النار من قولهم: {ربنا أخرجنا نعمل صالحاً}(5)، فقال

____________

1- راجع البحار 77: 176 ضمن حديث 10.

2- في "ج": اغفر لي كلّ ذنب عليّ.

3- أثبتناه من "ب".

4- راجع البحار 6: 16.

5- فاطر: 37.


الصفحة 107
تعالى: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وانّهم لكاذبون}(1).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يستغفر في كل يوم سبعين مرّة، يقول: "استغفر الله ربّي وأتوب إليه"، وكذلك أهل بيته عليهم السلام وصالحوا أصحابه، لقوله تعالى: {استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه}(2).

وقال رجل: يا رسول الله انّي أذنبت، فقال: استغفر الله، فقال: انّي أتوب ثم أعود، فقال: كلّما أذنبت استغفر الله، فقال: اذن تكثر ذنوبي، فقال له: عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور(3).

وقال: انّ الله تعالى أفرح بتوبة العبد منه لنفسه، وقد قال: {انّ الله يحب التوابين ويحب المتطهّرين}(4).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما من عبد أذنب ذنباً، فقام وتطهّر وصلّى ركعتين، واستغفر الله الاّ غفر الله له، وكان حقيقاً على الله أن يقبله، لأنّه سبحانه قال: {ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}(5).

وقال: انّ العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة، فقيل: وكيف ذلك يا رسول الله صلى الله عليك وآلك؟ قال: يكون نصب عينيه، لا يزال يستغفر منه ويندم عليه فيدخله الله به الجنّة، ولم أر أحسن من حسنة حدثت بعد ذنب قديم، انّ الحسنات يذهبن السيّئات ذلك ذكرى للذاكرين.

وقال: إذا أذنب العبد ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه، فان هو تاب وأقلع

____________

1- الأنعام: 28.

2- هود: 52.

3- مجموعة ورام 2: 223 نحوه.

4- البقرة: 222.

5- عنه الوسائل 11: 363 ح3; ومجموعة ورام 2: 223; والآية في سورة النساء: 110.


الصفحة 108
واستغفر صفا قلبه منها، وان هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب، وذلك قوله: {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، يعني غطّي(1).

والعاقل يحسب نفسه قد مات وسأل الله الرجعة ليتوب ويقلع ويصلح، فأجابه الله فيجد ويجتهد.

وجاء في قوله تعالى: {ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون}(2)، وقال: المصائب في المال والأهل والولد والنفس دون العذاب الأكبر، [والعذاب الأكبر](3) عذاب جهنّم، وقوله تعالى: {لعلّهم يرجعون} يعني عن المعصية، وهذا لا يكون الاّ في الدنيا.

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: احذر أن آخذك على غرّة فتلقاني بغير حجّة (يريد التوبة).

وروي انّ الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قوله تعالى: {ربّنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين}(4). وروي انّه وزوجته حوّاء رأيا على باب الجنّة "محمد، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين صفوتي من الخلق" فسألا الله بهم فتاب عليهما.

والتوبة على أربعة خصال: ندم بالقلب، وعزم على ترك العود، وخروج من الحقوق، وترك بالجوارح. وتوبة النصوح أن يتوب فلا يرجع فيما تاب عنه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمصر على الذنب مع الإستغفار يستهزئ بنفسه ويسخر منه الشيطان، وانّ الرجل إذا قال: "استغفرك يا ربّ وأتوب إليك" ثم عاد

____________

1- عنه مستدرك الوسائل 11: 333 ح13190; والآية في سورة المطففين: 14.

2- السجدة: 21.

3- أثبتناه من "ب" و"ج".

4- الأعراف: 23.


الصفحة 109
ثم قال، ثم عاد ثم قال، كتب(1) في الرابعة من الكذّابين.

وقال بعضهم: كن وصي نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك، وكيف تلومهم على تضييع وصيّتك وقد ضيّعتها أنت في حياتك؟!(2).

وسمع أمير المومنين عليه السلام رجلاًيقول: "استغفر الله"، فقال: ثكلتك اُمّك، أو تدري ما حدّ الإستغفار؟ الإستغفار درجة في العلّيين، وهو اسم واقع على ستة معان، أوّلها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً. والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس، والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت والمعاصي فتذيبه، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: "استغفر الله"(3).

ولقد أحسن بعضهم:


مضى أمسك الماضي شهيداً معدّلا وأصبحت في يوم عليك شهيد
فان كنت بالأمس اقترفت إساءة فثنّ بإحسان وأنت حميد
ولا تؤجل(4) فعل الصالحات إلى غد لعلّ غداً يأتي وأنت فقيد

وقال آخر:


تمتّع انّما الدنيا متاع وان دوامها لا يستطاع
وقدّم ما ملكت وأنت حيّ أمير فيه متبع مطاع
ولا يغررك مَن توصي إليه فقصر وصيّة المرء الضياع
وما لي أن اُملك ذاك غيري واُوصيه به لولا الخداع

____________

1- في "ج": كان.

2- مجموعة ورام 2: 223.

3- نهج البلاغة: قصار الحكم 417.

4- في "الف": ترج.


الصفحة 110
وقال آخر:


إذا ما كنت متخذاً وصيّاً فكن فيما ملكت وصيّ نفسك
ستحصد ما زرعت غداً وتجني إذا وضع الحساب ثمار غرسك


الصفحة 111


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net