متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الباب السادس والعشرون: في مدح الخمول والاعتزال
الكتاب : إرشاد القلوب ج1    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

الباب السادس والعشرون
في مدح الخمول والاعتزال


اعلم انّ جماع الخير كله واحرازه في الوحشة من الناس والعزلة عنهم، فإنّ بالعزلة يتحصل(1) الاخلاص، وينسد عنه باب الغيبة والنميمة ولغو القول، وسلامة النظر والسمع لمن لا يجوز، والوحشة من الناس علامة الاُنس بالله، والعزلة من امارات الوصلة.

وروى سفيان الثوري قال: قصدت جعفر بن محمد عليهما السلام فأذن لي بالدخول، فوجدته في سرداب ينزل اثنى عشر مرقاة، فقلت: يا ابن رسول الله أنت في هذا المكان مع حاجة الناس إليك، فقال: يا سفيان فسد الزمان، وتنكر الاخوان، وتقلبت الأعيان، فاتخذنا الوحدة سكناً، أمعك شيء تكتب؟ قلت: نعم، فقال: اكتب:


لا تجزعنّ لوحدة وتفرّد ومن التفرّد في زمانك فازدد
فسد الإخاء فليس ثَمّ اخوّة الا التملّق باللسان وباليد

____________

1- في "ب" و"ج": يحصل.


الصفحة 197

وإذا نظرت جميع ما بقلوبهم أبصرت ثَمّ نقيع سم الأسود
[فإذا فتشت ضميره عن قلبه وافيت عنه مرارة لا تنفد(1)](2)

والعزلة في الحقيقة اعتزال الاُمور الذميمة، والذي حصل علوم معارفه وعمله ثم اعتزل بني أمره على أساس ثابت، وينبغي لصاحب العزلة الاشتغال بذكر ربه، والفكر في صنائعه، وإلاّ أوقعته خلوته في بليّة وفتنة، ويكون أيضاً عنده قوّة في العلم تدفع عنه هواجس الشيطان ووساوسه، ولا شك انّ خير الدنيا والآخرة في العزلة والتقليل عن علق الدنيا، وشرّها في الكثرة والاختلاط بالناس، والخمول رأس كل خير.

وقال بعضهم: رأيت بعض الأئمة عليهم السلام في النوم يقول: الخمول نعمةوكل يأباه، والترفّع نقمة وكل يترجّاه، والغنى فتنة وكل يتمنّاه، والفقر عصمة وكل يتجافاه، والمرض حطّة للذنوب وكل يتوقّاه، والمرء لنفسه ما لم يُعرف فإذا عُرف صار لغيره.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد: تبدل ولا تشهر، ووار شخصك ولا تذكر، وتعلّم واعمل، واسكت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار، ولا عليك إذا علمت معالم دينك أن لا تعرف الناس ولا يعرفوك(3).

ومن ألزم قلبه الفكر، ولسانه الذكر، ملأ الله قلبه ايماناً ورحمة ونوراً وحكمة، انّ الفكر والاعتبار يخرجان من قلب المؤمن عجائب المنطق في الحكمة، وتسمع له أقوال يرضاها العلماء، وتخشع لها العقلاء، وتعجب منها الحكماء.

وروي انّ رجلاً سأل ام اُويس: من أين لابنك هذه الحال العظيمة التي قد

____________

1- أثبتناه من "ب" و"ج"، وجاء المصرع الثاني في "ب": وافيت منه نقيع سم الأسود.

2- عنه مستدرك الوسائل 11: 390 ح 13344.

3- عنه مستدرك الوسائل 11: 391 ح 13345; ونحوه في البحار 2: 37 ح51.


الصفحة 198
مدحه النبي صلى الله عليه وآله بها مدحاً لم يمدح به أحداً من أصحابه هذا فلم يره(1)؟ فقالت: انّه من حيث بلغ اعتزلنا وكان يأخذ في الفكر والاعتبار.

وروي انّ الله أوحى إلى موسى عليه السلام: من أحب حبيباً آنس به، ومن آنس بحبيب صدّق قوله ورضي فعله، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه، يا موسى ذكري للذاكرين، وزيارتي للمشتاقين، وجنّتي للمطيعين، وأنا خاصّة المحبين(2)(3).

وروى كعب الأحبار قال: أوحى الله إلى بعض الأنبياء: إن أردت لقائي غداً في حظيرة القدس فكن في الدنيا غريباً محزوناً مستوحشاً كالطير الوحداني الذي يطير في الأرض المقفرة، ويأكل من الأشجار المثمرة، فإذا كان الليل آوى إلى وكره، ولم يكن مع الطير استيحاشاً من الناس واستيناساً بربه(4).

ومن اعتصم بالخلوة وآنس بها فقد اعتصم بالله، ومكابدة العزلة والصبر عليهاأيسر من سوء عاقبة مخالطة الناس، والوحدة طريقة الصدّيقين، وعلامة الافلاس القرب من الناس، ومخالطة الناس فتنة في الدين عظيمة، لأنّ من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راياهم وداهنهم وراقبهم.

ولا يصح مولاة الله ومراقبة الناس ومراياهم، ومن أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه فليعتزل الناس، فإنّ هذا زمان وحشة، والعاقل الناصح لنفسه من اختار الوحدة وآنس بها، ولست أرى عارفاً يستوحش مع الله، وألزموا الوحدة، واستتروا بالجدّ(5)، وامحوا أسماءكم من قلوب الناس تسلمون من

____________

1- في "ج": ولم يره النبي صلى الله عليه وآله.

2- في "ج": للمحبين.

3- عنه البحار 14: 40 ح 23، وفيه: أوحى الله إلى داود عليه السلام.

4- راجع البحار 70: 108 ح 1; عن أمالي الصدوق نحوه; وأورده في أعلام الدين: 279.

5- في "ب" و"ج": بالجدار.


الصفحة 199
غوائلهم.

ولمّا ذكر أمير المؤمنين عليه السلام هذا الزمان وفتنته قال: ذلك زمان لا يسلم فيه إلاّ كل مؤمن نؤمة، إذا شهد لم يُعرف، وإذا غاب لم يُفتقد، اولئك مصابيح الهدى، وأعلام السرى، ليسوا بالمساييح ولا المذاييع البذر، اولئك يفتح الله عليهم أبواب رحمته، ويسدّ عنهم أبواب نقمته(1).

تفسير(2): المساييح يعني يسيحون في الأرض بالفساد، والمذاييع: النميمة والكذب، والبذر: يبذرون الكذب والنميمة كبذر الزرع من كثرته.

وإذا أراد الله أن ينقل العبد من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة، ومن فتنة الناس إلى السلامة منهم، آنسه بالوحدة، وحبب إليه الخلوة، وأغناه بالقناعة، وبصّره عيوب نفسه، وحجبه عن عيوب الناس، ومن اعطي ذلك فقد اعطي خير الدنيا والآخرة.

____________

1- نهج البلاغة: الخطبة 103; عنه البحار 69: 273 ح 5.

2- في "ج": وقال.


الصفحة 200


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net