متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
في فضائله عليه السلام
الكتاب : إرشاد القلوب ج2    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

[ باب ]
[ في فضائله عليه السلام ]


بسم الله الرحمن الرحيم

عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: لأخي عليّ بن أبي طالب فضائل لا تحصى كثرة، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّاً بها، غفر الله له ما تقدّم من ذنوبه(1)وما تأخّر، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لذلك الكتاب رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفرت له ذنوبه التي اكتسبها بالسماع، ومن نظر إلى فضيلة من فضائله غفرت له ذنوبه التي اكتسبها بالنظر(2).

وقال صلّى الله عليه وآله: حبّ عليّ عبادة، والنظر إلى عليّ عبادة، ولا يقبل الله ايمان عبد إلاّ بولايته والبراءة من أعدائه(3).

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لو أنّ الغياض(4) أقلام، والبحر مداد،

____________

1- في "ج": ذنبه.

2- المناقب للخوارزمي: 32 ح2; عنه كشف الغمة 1: 109; وفي أمالي الصدوق: 119 ح9 مجلس 28; عنه البحار 38: 196 ح4; وأيضاً في مائة منقبة: 154 رقم 100; ونهج الحق: 231.

3- المناقب للخوارزمي: 32 ذيل حديث 2; عنه كشف الغمة 1: 109.

4- الغياض: جمع غيضة، وهي الشجر الملتفّ. (لسان العرب)


الصفحة 10
والجنّ حسّاب، والانس كتّاب، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام(1).

ولا شك أنّ فضائله وحاله في الشرف والكمال، لا يعرفه إلاّ الله سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وآله، كما قال صلّى الله عليه وآله: "ما عرفك يا علي حقّ معرفتك إلاّ الله وأنا" ولهذا السبب سمّي النبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بالخمسة الأشباح، لأنّ الناس لا يعرفون ماهيّتهم وصفاتهم لجلال شأنهم، وارتفاع منازلهم، كالشبح الذي لا تعرف حقيقته.

وقال بعض الفضلاء ـ وقد سئل عن علي عليه السلام ـ فقال: ما أقول في شخص أخفى فضائله أعداؤه حسداً له، وأخفى أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً على أنفسهم، وظهر فيما بين هذين فضائل طبقت الشرق والغرب، {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون}(2).

وقد اشتهرت فضائله عليه الصلاة والسلام حتّى رواها المخالف والمؤالف(3)، وقد أحببت أن اُورد هذه الفضائل من طريقهم مع أنّها مشهورة من طريقنا، لتأكيد الحجّة عليهم، وكما قال:


ومليحة شهدت بها ضرّاتها والحسن ما شهدت به الضرّات(4)

____________

1- المناقب للخوارزمي: 32 ح1; عنه كشف الغمة 1: 109; وفي كنز الفوائد: 128 و129; عنه البحار 40: 70 ح105; وابن شاذان في المائة منقبة: 153 رقم 99.

2- التوبة: 32.

3- ولنعم ما قيل:


ما زلتَ في درجات المجد مرتقياً تسمو وينمي بك الفرعان من مضرا
حتّى بهرت فلا تحفى على أحد إلاّ على أحد لا يبصر القمرا

وكما قيل:


أعد ذكر نعمان لنا انّ ذكره هو المسك ما كرّرته يتضوّع

4-
هو الفتى إن تصف أدنى خلائقه فيا لها قصة في شرحها طول


الصفحة 11

[ومناقب شهد العدو بفضلها والفضل ما شهدت به الأعداء](1)

وقد روي عن أخطب خوارزم ـ وهو من أعظم مشايخ أهل السنّة ـ عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لمّا خلق الله تعالى آدم ونفخ فيه من روحه عطس فقال: الحمد لله، فأوحى الله تعالى: حمدني عبدي، وعزّتي وجلالي لولا عبدان اُريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك.

قال: الهي فيكونان منّي؟ قال: نعم، يا آدم ارفع رأسك وانظر، فرفع رأسه فإذا مكتوب على العرش: "لا إله إلاّ الله، محمد نبيّ الرحمة، وعليّ مقيم الحجة، من عرف حق عليّ زكى وطاب، ومن أنكر حقّه لعن وخاب، أقسمت بعزّتي وجلالي أن اُدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني، وأقسمت بعزّتي وجلالي أن اُدخل النار من عصاه وإن أطاعني"(2).

وروي أيضاً عن أخطب خوارزم، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا عبد الله أتاني ملك فقال: يا محمد سل من أرسلنا قبلك من رسلنا على ما بعثوا، قال: قلت: على ما بعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب(3).

وروى أيضاً باسناده إلى ابن عباس قال: سئل النبي صلّى الله عليه وآله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال: سأله بحقّ محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت عليّ، فتاب عليه(4).

ومن كتاب المناقب لأهل السنّة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- المناقب للخوارزمي: 318 ح320; عنه كشف اليقين: 7; وفي البحار 27: 10 ح22.

3- المناقب للخوارزمي: 312 ح312; عنه كشف اليقين: 6; وفي البحار 26: 307 ح70.

4- عنه كشف اليقين: 14; ومناقب ابن المغازلي: 63 ح89; وفي البحار 24: 183 ح20; ينابيع المودّة: 283.


الصفحة 12
كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي الله عزوجل من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة، فلمّا خلق الله آدم سلك ذلك النور في صلبه، فلم يزل الله عزوجل ينقله من صلب إلى صلب حتّى أقرّه في صلب عبد المطلب.

ثمّ أخرجه من صلب عبد المطلب وقسّمه قسمين، قسم في صلب عبد الله وقسم في صلب أبي طالب، فعليّ منّي وأنا منه، لحمه لحمي، ودمه دمي، فمن أحبّه فيحبّني، ومن أبغضه فيبغضني وأبغضه(1).

وروى صاحب كتاب بشائر المصطفى صلّى الله عليه وآله، عن يزيد(2) بن قعنب، قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب، وفريق من بني عبد العزى بازاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد اُمّ أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت حاملا به تسعة أشهر، فأخذها الطلق، فقالت: يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم الخليل عليه السلام، وإنّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت، والمولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليّ ولادتي.

قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشقّ من ظهره، فدخلت وغابت عن أبصارنا، وعاد إلى حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا انّ ذلك من أمر الله تعالى.

ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ قالت: إنّي فضّلت على من تقدمني من النساء، لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله سرّاً في موضع لا يحب الله أن يُعبد فيه إلاّ اضطراراً، وانّ مريم بنت

____________

1- المناقب للخوارزمي: 145 ح170; عنه كشف اليقين: 11; ونحوه كفاية الطالب: 315; وفي البحار 35: 33 ح30.

2- هكذا في المصادر ونسخة "ج"، وفي "الف" و "ب": زيد.


الصفحة 13
عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطباً جنيّاً، وإنّي دخلت بيت الله الحرام، فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة سمّيه عليّاً، فهو عليّ والله العليّ الأعلى.

يقول: شققت اسمه من اسمي، وأدّبته بأدبي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، ويؤذّن فوق ظهر بيتي، ويقدّسني ويمجّدني، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه(1).

قال: فولدت عليّاً عليه السلام يوم الجمعة الثالث عشر من رجب، سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه، اكراماً له من الله عزّ اسمه، واجلالا لمحلّه في التعظيم.

وكان يومئذ لرسول الله صلّى الله عليه وآله من العمر ثلاثين سنة، فأحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله حبّاً شديداً، وقال لها: اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان صلّى الله عليه وآله يتولّى أكثر تربيته، وكان يطهّر عليّاً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره، ويقول: هذا أخي ووليّي وناصري وصفيّي وخليفتي وكهفي وظهري ووصيّي وزوج كريمتي، وأميني على وصيّتي، وكان يحمله على كتفه دائماً، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها.

واعلم انّ هذه الفضائل التي حصلت له قبل الولادة وحين الولادة، وأمّا الفضائل التي حصلت له بعد ولادته إلى حين وفاته فلا يمكن حصرها، ولا التعبير عنها لأنّها غير متناهية، فلابد أن نذكر منها شيئاً يسيراً، وتقرير ذلك أن نقول: قد ثبت عند العلماء انّ اُصول الفضائل أربعة: العلم، والعفّة، والشجاعة، والعدالة،

____________

1- بشارة المصطفى: 7و8; عنه كشف اليقين: 18; وكشف الغمة 1: 61; ونحوه في روضة الواعظين: 76; ومعاني الأخبار: 62 ح1; وأمالي الصدوق: 114 ح9 مجلس 27; عنه البحار 35: 8 ح11.


الصفحة 14
وأمير المؤمنين عليه السلام بلغ في هذه الاُصول الغاية، وتجاوز النهاية.

أمّا العلم: فوصل إليه حيث قال النبي صلّى الله عليه وآله: أنا مدينة العلم وعليّ بابها(1).

وقال صلّى الله عليه وآله: قسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي عليّ تسعةوالناس جزءاً واحداً(2).

وقال صلّى الله عليه وآله: أقضاكم عليّ(3)، والقضاء يستدعي العلم.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في حقّ نفسه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً(4).

وقال عليه السلام: اندمجت على مكنون علم لو بُحت به لاضطربتم اضطرابالأرشية في الطوى(5) البعيدة(6).

وقال عليه السلام: والله لو كسرت(7) لى الوسادة لحكمت بين أهل التوراةبتوراتهم، وبين أهل الانجيل بانجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم(8).

وهذا يدلّ على أنّه بلغ في كمال العلم إلى أقصى ما تبلغ إليه القوّة البشرية، واختصاصه بعلوم ليس في قوى غيره من الصحابة الوصول إليها، وقوله عليه السلام: انّ هاهنا لعلماً جمّاً لا أجد له حملة.

____________

1- اُنظر صحيح الترمذي 5: 637 ح3723; وكفاية الطالب: 220; وكنز العمال 11: 614 ح32978; وكشف الغمة 1: 111.

2- المناقب للخوارزمي: 82 ح67; عنه كشف الغمة 1: 111.

3- المناقب للخوارزمي: 81 ح66; عنه كشف الغمة 1: 110.

4- المناقب لابن شهر آشوب 2: 38; والبحار 40: 153 ح54.

5- الأرشية: جمع رشاء بمعنى الحبل، والطوى: جمع طويّة وهي البئر، والبئر البعيدة: العميقة.

6- نهج البلاغة: الخطبة رقم 5.

7- في "ج": ثنيت.

8- راجع البحار 35: 391 ح14.


الصفحة 15
وهذا يدلّ على وصوله في العلم إلى مرتبة لا يمكن لأحد من المخلوقات من الملائكة والبشر الوصول إليها سوى رسول الله صلّى الله عليه وآله، لكونه نفسه بآية المباهلة، فإنّ الله تعالى جعل فيها نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله نفس عليّ عليه السلام حيث قال: {وأنفسنا وأنفسكم}(1)، والمراد به نفس عليّ عليه السلام كما نقله جمهور المفسّرين.

وليس المراد الحقيقة، لأنّ الاتحاد محال فيحمل على أقرب المعاني وهو المواساة له في جميع الوجوه الممكنة، وثبت له عليه السلام حينئذ جميع ما ثبت للرسول صلّى الله عليه وآله من الفضائل العلمية والعملية ما خلا النبوّة، لقوله صلّى الله عليه وآله: "لا نبيّ بعدي"، وكفى بهذه الآية دليلا واضحاً، وبرهاناً لائحاً على فضائله عليه السلام.

وقد روى المخالف والمؤالف ما ظهر عنه عليه السلام من الفتاوى المشكلة، والقضايا الصعبة التي عجز عنها كلّ من عاصره، وراجعوه في أكثر الأحكام، وقضوا بقوله، وعملوا بفتواه.

فمن ذلك انّ عمر اُتي بامرأة قد زنت وهي حامل فأمر برجمها، فقال له عليّ عليه السلام: إن كان لك عليها سلطان فليس لك سلطان على ما في بطنها، فأمر بتركها وقال: لولا عليّ لهلك عمر(2).

ومنها انّه اُتي بامرأة قد زنت وهي مجنونة فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتّى يفيق، والنائم حتّى يستيقظ، والغلام حتّى يحتلم، فقال: لولا عليّ لهلك عمر(3).

ومنها انّه أرسل إلى امرأة فخافت منه فأجهضت، فاستفتى الناس فكلّ قال

____________

1- آل عمران: 61.

2- كشف الغمة 1: 110 نحوه.

3- مناقب الخوارزمي: 80 ح64; عنه كشف الغمة 1: 110; والبحار 30: 681 نحوه.


الصفحة 16
له: ليس عليك بأس، فسأل علياً عليه السلام فقال: أرى أنّ الدية على عاقلتك، فقبل فعمل بقوله(1).

ومنها انّه اُتي بامرأة قد ولدت لستّة أشهر فأمر برجمها، فنهاه عليه السلام وتلا قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}(2) مع قوله تعالى: {وفصاله في عامين}(3) فأمر بتخليتها(4).

ومنها انّه لم يعرفوا حدّ المسكر حتّى قال هو عليه السلام: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وإذا افترى فاجلدوه حد المفتري، فجلدوه ثمانين جلدة. وتعديد قضاياه العجيبة، وفتاويه الصعبة الغريبة أكثر من أن تحصى، ولاشك أنّ أهل العلم كافة ينسبون إليه.

أمّا علم الكلام فأصله أبو هاشم بن محمد بن الحنفية الذي استفاده منه عليه السلام، وأمّا علم الأدب فهو الذي قسّم الكلام إلى ثلاثة أضرب، وأمر أبا الأسود بوضعه بعد أن نبّهه على أصله، وأمّا علم التفسير فأصله ابن عباس تلميذ عليّ عليه السلام، وأمّا علم الفصاحة، فهو عليه السلام علّم الناس الخطب والكلام الفصيح.

وأمّا الفقه، فانتساب الشيعة إليه ظاهر، وأبو حنيفة كان تلميذ الصادق عليه السلام، والشافعي قرأ على محمد بن الحسن الشباني تلميذ أبي حنيفة، وأحمد تلميذ الكاظم عليه السلام، ومالك قرأ على ربيعة الرأي، وربيعة الرأي قرأ على عكرمة، وعكرمة قرأ على ابن عباس تلميذ عليّ عليه السلام.

____________

1- البحار 40: 250 ح25 باختلاف.

2- الأحقاف: 15.

3- لقمان: 14.

4- المناقب لابن شهر آشوب 2: 365; عنه البحار 40: 232 ح12 نحوه، وتوضيح ذلك: انّ أقلّ الحمل أربعون يوماً وهو زمن انعقاد النطفة، وأقلّه لخروج الولد حيّاً ستّة أشهر، وذلك لأنّ النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، ثمّ تتصوّر في أربعين يوماً، وتلجها الروح في عشرين يوماً، فذلك ستة أشهر، فيكون الفطام في أربعة وشهراً، فيكون الحمل في ستة أشهر.


الصفحة 17
فقد روى المخالف والمؤالف والخاص والعام قول النبي صلّى الله عليه وآله: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي" فإنّه يدلّ على أنّه كلّما كان لرسول الله من الفضائل والكمالات فإنّها ثابتة لعليّ عليه السلام سوى درجة النبوّة، وهذا كلّه دليل على إمامته لقوله تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنّما يتذكّر اُولوا الألباب}(1).

وأمّا العفّة: فقد كان فيها الآية الكبرى، والمنزلة العظمى، ويكفيه في التنبيه على حاله مطالعة كلامه في نهج البلاغة، نحو كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله بالبصرة، وقد بلغه انّه دُعي إلى وليمة قوم فأجاب إليها، وقوله فيه:

"فانظر يا ابن حنيف إلى ما تقضمه(2) من هذا المطعم(3)، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل(4) منه، ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(5)، ومن مطعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد(6).

وقوله عليه السلام: ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ(7)، ولكن هيهات هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في

____________

1- الزمر: 9.

2- قَضِمَ ـ كسمع ـ: أكل بطرف أسنانه، والمراد الأكل مطلقاً.

3- في المصدر: المقضم، وهو المأكل.

4- في "ب": فكل.

5- الطِمر ـ بالكسر ـ: الثوب الخلق البالي.

6- نهج البلاغة: الكتاب 45; عنه البحار 40: 340 ح27.

7- القزّ: الحرير.


الصفحة 18
القرص، ولا عهد له بالشبع، أأقنع [من نفسي](1) بأن يقال: أمير المؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، وجشوبة(2) العيش(3).

وقوله عليه السلام فيه: وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيّة الله لاُروضنّ نفسيرياضة تهش معها إلى القرص مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً(4).

إلى غير ذلك من كلامه عليه السلام، ولا شك أنّه عليه السلام كان أزهد الناس، لم يشبع من طعام قط، وكان يلبس الخشن، ويأكل جريش الشعير، وإذا ائتدم فبالملح، فإن ترقّى فبنبات الأرض، فإن ترقّى فباللبن.

روي عن سويد بن غفلة، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فوجدته جالساً وبين يديه إناء فيه لبن أجد ريح حموضته، وفي يديه رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسره بيده ويطرحه فيه، فقال: اُدن فأصب من طعامنا، فقلت: إنّي صائم.

فقال عليه السلام: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: من منعه الصيام من طعام يشتهيه كان حقّاً على الله تعالى أن يطعمه من طعام الجنّة، ويسقيه من شرابها، قال: فقلت لفضّة وهي قريب منه قائمة: ويحك يا فضة ألا تتّقين الله في هذا الشيخ بنخل(5) هذا الطعام من نخاله التي فيه.

قالت: قد تقدّم إلينا أن لا ننخل له طعام، قال: ما قلت لها؟ فأخبرته، فقال: بأبي واُمّي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتّى قبضه الله

____________

1- أثبتناه من المصدر.

2- في المصدر: أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش، والجشوبة: الخشونة.

3- نهج البلاغة: كتاب 45; عنه البحار 40: 340 ح27.

4- المصدر نفسه.

5- في "ج": ألا تنخلين.


الصفحة 19
تعالى(1).

وروي عن عدي بن ثابت قال: اُوتي أمير المؤمنين عليه السلام بفالوذج، فأبى أن يأكل منه وقال: شيء لم يأكل منه رسول الله صلّى الله عليه وآله لا اُحبّ أن آكل منه(2).

وكان عليه السلام يجعل جريش الشعير فيوعاء ويختم عليه، فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئاً من زيت أو سمن(3).

فانظر أيّها المنصف إلى شدّة زهده وقناعته، فإنّ ايراده الحديث وقوله: "من منع نفسه من طعام يشتهيه" دليل على رضاه بمطعمه، وكونه عنده طعاماً مشتهى يرغب فيه من يراه، وقد طلّق الدنيا ثلاثاً وقال لها: غرّي غيري لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك(4).

فدلّ ذلك على أنّه أزهد الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإذا كان أزهد الناس كان أفضلهم، فدلّ ذلك أيضاً على أنّه هو الإمام، لقبح تقديم المفضول على الفاضل.

وأمّا الشجاعة: فإنّه لا خلاف بين المسلمين وغيرهم أنّ علياً عليه السلام كان أشجع الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأعظمهم بلاء في الحروب، تعجبت من حملاته ملائكة السماء، وبسبب جهاده ثبتت قواعد الإسلام، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله ضربته لعمرو بن عبدود العامري يوم الخندق أفضل من أعمال اُمّته إلى يوم القيامة(5).

____________

1- المناقب للخوارزمي: 117 ح129; عنه كشف الغمة 1: 162; وفي البحار 40: 330 ح13.

2- المناقب للخوارزمي: 119 ح131; عنه كشف الغمة 1: 163.

3- عنه البحار 66: 322 ضمن حديث 1.


لها أحاديث من ذكراك يشغلها عن الشراب ويلهيها عن الزاد

4- نهج البلاغة: قصار الحكم 77; عنه البحار 40: 345 ح28.

5- قال ابن شهر آشوب في المناقب 2: 298، تحت عنوان "معجزاته في نفسه": ويروى وثبته أربعون ذراعاً إلى عمرو، ورجوعه إلى خلف عشرون ذراعاً، وذلك خارج عن العادة.


الصفحة 20
ونزل جبرئيل عليه السلام يوم بدر وسمعه المسلمون كافة وهو يقول: "لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتى إلاّ علي"، ووقائعه مشهورة عند الخاص والعام في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وبعده في حرب الجمل وصفين والنهروان.

روى الخوارزمي قال: كان أبطال المشركين إذا نظروا إلى عليّ عليه السلام في الحرب عهد بعضهم إلى بعض(1).

وبالجملة فشجاعته مشهورة عند جميع الناس حتّى صارت تضرب بها الأمثال، وإذا كان أشجع الناس كان أفضلهم لقوله تعالى: {وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً}(2) فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل.

وأمّا العدالة: فقد بلغ فيها الغاية القصوى، ويكفيك في التنبيه عليها كلامه في نهج البلاغة أيضاً لأخيه عقيل الذي لم يكن عنده أحد أحبّ إليه منه، وهو قوله عليه السلام: والله لئن أبيت على حَسَك السعدان مسهّداً(3)، واُجَرُّ في الأغلال مصفّداً(4)، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله ظالماً لبعض العباد، أو غاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس تسرع إلى البلاء قفولها، ويطول في الثرى حلولها.

والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق(5) حتّى استماحني من برّكم صاعاً، ورأيت

____________

1- عنه كشف اليقين: 84; وفي المناقب لابن المغازلي: 72 ح106; وقال الراغب في محاضرات الاُدباء (3: 138): قيل: كانت قريش إذا رأت أمير المؤمنين في كتيبة تواصت خوفاً منه.

2- النساء: 95.

3- كأنّه عليه السلام يريد من الحسك الشوك، والسعدان: نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدي، والمسهّد ـ من سهّده ـ: إذا أسهره.

4- المصفّد: المقيّد.

5- أملق: افتقر أشدّ الفقر.


الصفحة 21
صبيانه شعث الألوان من فقرهم كأنّما سوّدت وجوههم بالعِظلم(1)، وعاودني مؤكّداً، وكرّر عليّ مردداً، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ انّي أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقتي.

فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئنّ من حديدة أحماها انسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه، أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى.

وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها(2)، ومعجونة قد شنئتُها(3) كأنّها عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة، فذلك محرّم علينا أهل البيت، قال: لا ذا ولا ذا، ولكنّها هدية.

فقلت: هبلتك الهوابل(4)، أعن دين الله أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت، أم ذي جنّة، أم تهجر، والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وانّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ونعيم يفنى، ولذّة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل، وبه نستعين(5).

فهذه اُصول الفضائل وأمّا فروع الفضائل التي له عليه السلام فغير متناهية، روي عن النبي صلّى الله عليه وآله انّه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى ابراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته

____________

1- العظلم: سواد يُصبغ به.

2- الملفوفة: نوع من الحلواء، أهداها الأشعث بن قيس إلى علي عليه السلام.

3- شنئتها: كرهتها.

4- في المصدر و "ج": الهبول.

5- نهج البلاغة: الخطبة 224; عنه البحار 41: 162 ح57.


الصفحة 22
فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب(1).

فأثبت له ما تفرّق فيهم من الفضل والكمال الذي هو المراد من كلّ واحد منهم، وروى ذلك البيهقي أيضاً في كتابه باسناده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فجلّ من أنعم عليه بالعلم والخلق والعُلى، وجميع ما تشتت في الورى.


ليس من الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net