متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الرفيق الصالح ودوره الإيجابي في نجاح الرحلة
الكتاب : فلسفة الحج في الإسلام    |    القسم : مكتبة الفقه

الرفيق الصالح ودوره الإيجابي في نجاح الرحلة


بعد أن يحرز العازم على القيام برحلة الحج المباركة ، التوفيق والنجاح في الخطوتين الأوليين وهما الخطوة الأولى التي طواها في طريق تخليص النية من الشوائب والثانية هي التي طواها في سبيل تطهير ماله من الحقوق .
يحتاج بعد ذلك إلى خطوات أخرى متممة لهاتين الخطوتين وتأتي خطوة اختيار الرفيق الصالح الذي ينطلق في سبيل تأدية فريضة الحج المقدسة لتكون في الطليعة بين الخطوات الإيجابية التي يطويها في هذا السبيل المبارك .
ونقصد بالرفيق الصالح في محل الحديث ـ المعرّف الذي يضع المسافر في طريق الحج نفسه وماله وفريضة حجه أمانةً في يده من أجل أن يحفظها له ويحافظ على راحته وصحة حجه وبراءة ذمته منه . لذلك يُطلب منه بذل الجهد المستطاع في سبيل الظفر بهذا الرفيق الذي يُطلب توفر شروط اساسية فيه ليتمكن من النهوض بمسؤولية التعريف وهي كثيرة أبرزها ما يلي :
الأول : التفقه في الدين بالاطلاع على المسائل الشرعية التي تقع محل ابتلائه وابتلاء الآخرين الذين يخالطهم وخصوصاً الأحكام الشرعية


( 44 )

المتعلقة بفريضة الحج ويتأكد ذلك بالنسبة إلى الأشخاص الذين تحمل مسؤولية تعريفهم وتعليمهم أحكام هذه الفريضة لتصبح رحلة الحج بذلك مدرسة سيارة يتلقى المنطلقون فيها لتأدية الفريضة المذكورة ، دروساً متنوعة وأهمها الأحكام المتعلقة بفريضتهم التي سافروا من أجلها وبذلك يصبحون طلاباً للعلم والمعرفة الصحيحة التي تضيء لهم درب الإيمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل . كما تعرفهم أحكام حجهم ليأتوا به على الوجه المطلوب .
الثاني : شرط الوثاقة بمعنى كون المعرف ثقة معروفاً بالصدق والأمانة ليصح الأخذ بقوله عند ما يخبر بوقوع أي عمل من أعمال الحج صحيحاً واجداً لشروط الصحة المعتبرة وفاقداً لما يؤدي إلى البطلان .
ولذلك اشترط الفقهاء فيمن يُراد استنابته للعبادة النيابية عن الميت أو عن الحي حيث تشرع النيابة عنه كما في الحج وبعض واجباته ، كونَه ثقة ليصح الأخذ بقوله إذا أخبر بأصل وقوع العمل النيابي أو بوقوعه على الوجه الشرعي المبرىء لذمة المنوب عنه .
الثالث : أن يكون معروفاً برحابة الصدر وقوة الصبر ليتمكن من النهوض بمسؤولية التعريف والمحافظة على راحة الحجاج وسلامتهم من أخطار ومَضار عديدة يتعرضون لها بسبب شدة الازدحام وتغير الجو كما يتعرض بعضهم للضياع ، وقد حصل للكثيرين سابقاً . وهنا يأتي دور قوة صبر المعرف وشدة اهتمامه ومحافظته التي تسلم أفراد قافلته وتقيهم من التعرض للأخطار والأضرار وإذا تعرض أحدهم لشيء من ذلك بذل أقصى الجهد في سبيل إزالته عنه مهما كلفه ذلك من تضحيات .
فإن كان العارض الطارىء هو الضياع والابتعاد بسببه عن جماعته


( 45 )

ومحل إقامته ـ بذل المعرفُ المسؤول مع من يتعاون معه على البر والتقوى ـ أقصى الجهد في سبيل الوصول إليه وإنقاذه من خطر ضياعه ، وإذا كان الطارىء هو المرض سعى جهده في سبيل علاجه ولم يقصر في حقه وإذا فقد ما هو مضطر له من المال ونحوه ، سعى في سبيل الظفر بما فقده أو التعويض عنه بكل وسيلة ممكنة ولو بالاستعانة بمن يثق بإيمانه واهتمامه ورغبته في قضاء حاجة إخوانه المؤمنين والتفريج عنهم وهكذا .
ومما تقدم بيانه حول أهمية اختيار الرفيق الصالح والمعرّف الناجح ـ نعرف وجه الرجحان والأهمية فيما جرت عليه العادة المباركة مؤخراً ـ من مرافقة عالم ديني فاضل للحملة المنطلقة في طريق تأدية فريضة الحج لأنه يتكامل مع المعرف الرسمي ويتعاونان على إفادة الحجاج ومساعدتهم على إدراك غايتهم المنشودة من رحلتهم المباركة وهي تأدية فريضة الحج على الوجه الصحيح مضافاً إلى ما يقوم به العالم الديني من إرشادات دينية وتوجيهات تربوية تفيدهم في قضاياهم الشرعية والاجتماعية وسائر الشؤون والأوضاع الحياتية مع قيامه بدور إمامة الجماعة التي يترتب عليها الثواب العظيم والأجر الجسيم على ضوء بعض الروايات الدالة على ذلك منها الرواية القائلة :
إذا زاد عدد المأمومين على العشرة فلا يحصي ثوبها الا الله سبحانه(1) .
هذا كله بالنسبة إلى الرفيق العادي الذي يحتاج إليه البعض من المسافرين من بلد إلى آخر ليعينه على إدراك غايته التي سافر من أجلها سواء كانت دينية أو دنيوية .
____________
(1) هذا الرواية منقولة بالمعنى والمضمون من حديث طويل ذكره مع روايات عديدة في كتاب (الحديقة الناشرية صفحة 237) مطبعة الغري في النجف الأشرف .
( 46 )

وهناك رفيق لا يستغني عنه أحدٌ وهو الإله الواحد الأحد الذي يحتاج إليه كل إنسان في كل مطلب من مطالبه وإن كان ذلك المطلب سهلاً وميسوراً في نفسه بحيث لا يحتاج إلى معين ومساعد من قبل أحد من البشر ، وذلك لأن أي هدف من الأهداف وإن كان سهل الحصول والتحقيق لابد من قدرة تمكن صاحبه من تحقيقه ولو كانت قدرة متواضعة مناسبة للمطلوب ومساعدة على تحصيله .
ومن المعلوم أن الإنسان خلق ضعيفاً ويبقى ضعيفاً في ذاته وطاقاته ولذلك يظل بحاجة إلى من يزوده بالقدرة ويبقيها له ويتمكن بعد ذلك من استثمارها واستعمالها في سبيل تحصيل الهدف المقصود .
وقد عبر الله سبحانه عن هذا الضعف بالفقر الذاتي الذي يُولد مع الإنسان ويبقى ملازماً له حتى نهاية حياته وذلك بقوله تعالى :
( يا أيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إلَى اللّهِ واللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ )(1) .
وبذلك يظهر جلياً أمام المنطق الديني المنطلق من الواقع التكويني أن كل خطوة يخطوها الإنسان في سبيل أي هدف من الأهداف ـ لا تنجح إلا إذا لاحظتها العناية الإلهية والتوفيق السماوي وقد اعترف بذلك النبي شعيب عليه السلام وعبر عنه بقوله :
( وَمَا تَوْفِيقي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ )(2) .
وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية يتعين في حق كل إنسان عاقل ـ أن يسير على نور عقله وينسجم مع فطرته التي فطره الله عليها وأودعها فيه
____________
(1) سورة فاطر ، الآية : 15 .
(2) سورة هود ، الآية : 88 .

( 47 )

لتجذبه تكوينياً وفطرياً إلى مصدر وجوده بسلك الإيمان بواحدانيته وعدله واتصافه بجميع الصفات الكمالية ومنها إرساله الأنبياء ليرشدوا الناس إلى غاية خلقهم وسبيل تحقيق هذه الغاية مع تعيينه الأوصياء لأنبيائه لينوبوا عنهم ويمثلوا دورهم بعد انتقالهم إلى جوار الله سبحانه مع الإيمان بضرورة البعث وإعادة الخلق إلى الحياة من جديد من أجل مجازاة المحسن على إحسانه بالنعيم كما وعد والمسيء على إساءته بالعذاب الأليم كما أوعد وذلك من لوازم عدله وكماله المطلق كما ذُكر مفصلاً في محله من كتب العقيدة الإسلامية .
ومرافقة الله سبحانه للإنسان نوعان :
الأول : المرافقة الذاتية ومعناها كون الله سبحانه مع الإنسان وجميع مخلوقاته بعلمه وقدرته وتدبيره وهذه حاصلة تكوينياً وقسراً بلا حاجة إلى أي سبب خارجي يوجده الإنسان بإرادته واختياره كما هو واضح في نظر المؤمن العالم بعلم الله الشامل وقدرته المطلقة وتدبيره المستوعب لكل ما في هذا الكون من مخلوقات .
الثاني : المرافقة والمعوية بالعناية الإلهية والرعاية السماوية التي تتمثل بالتوفيق والتأييد لمن تحصل له هذه المرافقة عندما يريد هدفاً مشروعاً ويوجد له مقدماته الطبيعية المشروعة أيضاً ويتوكل على الله سبحانه في نجاح سعيه وإدراك هدفه .
فإذا تحقق مطلوبه اعترف بأن ذلك حصل بعون الله سبحانه وتوفيقه وشكره قولاً وعملاً وظفر بثواب الشكر وإذا لم يحصل له مراده رضي بما قدره الله له وصبر على حرمانه من نيل مرامه مردداً بلسان المقال أو الحال قول الإمام المهدي عليه السلام في دعاء الافتتاح :


( 48 )

( ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الاُمور ) .
والمؤمن الواعي يكون موفقاً لمرافقة الله له واعتنائه به في كلتا الحالتين إذا قابل توفيق الله له بالشكر حيث ينال ثوابه كما ينال أجر الصبر والرضا بما قدره الله له من عدم تحقق غايته المنشودة .
وبذلك يكون الله معه بمرافقة العناية والرعاية ما دام بالحرمان وصبره عليه مثمراً له ما هو أنفع مما فاته في هذه الحياة الزائلة .
قال سبحانه : ( وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )(1).
وقال تعالى : ( وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى )(2) .
وإنما تعرضت لهذا الحديث في المقام بمناسبة الكلام حول المرافقة الإلهية بمعناها الثاني من أجل دفع الشبهة التي تعرض لبعض المؤمنين عندما يقع في محنة ويصاب بصدمة لحدوث مفاجأة سلبية مثيرة كسقوطه في الامتحان رغم بذله الجهد المستطاع في سبيل تحصيل المعدل المناسب أو الخسارة في التجارة رغم التحفظ والاحتياط لعدم الإصابة بها أو الهزيمة في المعركة رغم الأخذ بأسباب النصر وإعداد ما استطاع له المؤمنون من قوة مادية ومعنوية وهكذا .
وعلى ضوء البيان الأخير لمعنى المرافقة الإلهية والرعاية السماوية للإنسان المؤمن بالله المتوكل عليه الواثق بعدله وحكمته .
تندفع الشبهة بعد ملاحظة أن المرافقة الإلهية للإنسان بمعناها الثاني الذي يحمل في طيه معنى الرفق واللطف ـ لا تنحصر بالإعانة على تحصيل
____________
(1) سورة الأعلى ، الآية : 17 .
(2) سورة الضحى ، الآية : 4 .

( 49 )

المطلوب المعجل في هذه الحياة بل تشمل فرض تأخير الإعانة على إدراكه في حاضر الدنيا المعجل من أجل أن يجازيه على صبره ورضاه بقدر الله وقضائه بما هو أفضل وأنفع له في دار الجزاء الأوفى .
وعلى هذا الوجه يُحمل تأجيل استجابة الله سبحانه دعاء عبده المؤمن ولجوئه إليه من أجل أن يدفع عنه مكروهاً أو يجلب له محبوباً .
وبملاحظة مجموع ما تقدم ندرك أن مرافقة الله سبحانه للإنسان المؤمن بالرعاية والتوفيق تترتب غالباً إن لم يكن دائماً على مرافقة هذا الإنسان له واتصاله به بالتقوى والتوكل بمعناه الواعي الايجابي .
وإلى هذا المعنى من المرافقة والمعية المشتركة بين العبد وربه يشار بالكلام المشهور ( من كان مع الله كان الله معه ) .
ويدل على ذلك ببيان أوضح وأصرح قوله تعالى :
( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتَ أَقدَامَكُمْ )(1) .
وقوله تعالى :
( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )(2) .
والمرافقة بمعناها الأول وإن كانت مشتركة بين المؤمن وغيره من سائر الكائنات كما هو واضح إلا أن الذي يُحس بها ويرتب الأثر عليها هو المؤمن بالله سبحانه بالإيمان الواعي المنفتح على الحقيقة الموضوعية المستلهمة بوضوح من قوله تعالى :
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا فِي الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوىَ ثَلاثَةٍ
____________
(1) سورة محمّد ، الآية : 7 .
(2) سورة الحج ، الآية : 40 .

( 50 )

( إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمُ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيمٌ ) (1) .
والأثر البارز المترتب على إحسان المؤمن بهذه المرافقة هو انفعاله بها وتجاوبه معها بالاستقامة في خط التقوى المستقيم وذلك يثمر له حصول المرافقة الإلهية بالمعنى الثاني على ضوء البيان التفصيلي المتقدم ـ وعلى العكس من ذلك الإنسان المجرد من رابطة الإيمان أو كانت ضعيفة وهابطة إلى درجة تُلحق وجودها بالعدم . الأمر الذي يفقده الإحساس بالمرافقة التكوينية الإلهية الشاملة لكل الكائنات بلا استثناء وهذا هو السبب في انحراف هذا النوع من البشر عن منهج الفضيلة وانجرافه بتيار الرذيلة ليكون مصداقاً لقوله تعالى :
( وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ لَهُم قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِروُنَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئكَ كَالأَنعامِ بَل هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ )(2) .
وبالمناسبة أحب أن أذكر بعض القصص في ختام الحديث عن موضوع المرافقة لتكون الشاهد الصادق المؤكد لحقيقة التفاعل بين المرافقة بالمعنى الثاني عند المؤمن والمرافقة بمعناها التكويني العام .
والذي خطر في ذهني من هذه القصص ثلاث وهي متشابهة بالمضمون وحاصل الأولى منها : أن عبداً مملوكاً لشخصٍ كان مكلفاً من قبل سيده برعي قطيع غنم له ، واتفق أن التقى به شخص في المرعى وطلب منه أن يبيعه رأساً من الغنم فأبى هذا العبد ذلك واعتذر له بأن سيده
____________
(1) سورة المجادلة ، الآية : 7 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 179 .


مالك الغنم لم يأذن له بذلك وحينئذٍ أراد ذلك الشخص أن يدبر له عذراً كاذباً ليعتذر به لسيده إذا لبى طلبه وباعه ما أراد شراءه منه وهو أن يخبره بأن الذئب سطا على القطيع وأخذ رأسا منه وأراد إغراءه بالمادة ليوافقه على إجابة طلبه وذلك بإعطائه الثمن ليصرفه في سبيل مصلحته الخاصة ، وهنا يأتي دور الإيمان الصادق ليرفض العذر الكاذب وأن يبيعه دينه وجنة عرضها السموات والأرض بدنيا زائلة ومنفعةٍ مؤقتة ذاهبة ودفعه ذلك لأن يعتذر منه بقوله :
إذا كان صاحب الغنم لا يعلم بكذب العذر وخيانة الأمانة فأين علم الله وحضوره المراقب والمعاقب .
وأدى هذا الاعتذار بهذا الأسلوب الواعي ـ إلى أن يعدل ذلك الشخص عما كان عازماً عليه خوفاً من الله سبحانه ، وهزّ هذا الموقف الإيماني الثابت من هذا العبد المملوك جسماً والمتحرر عقلاً وإرادة ـ كلَّ كيانه واُعجب بقوة إيمانه وأراد أن يقدم له جائزة تكريميةً على نجاحه في هذا الامتحان الصعب وذلك بشرائه من سيده ليحرره مع شرائه قطيع الغنم من مالك العبد ليقدمه لهذا المؤمن الواعي الذي كان حرّ الضمير وراسخ الإيمان وأدى به ذلك لأن ينال التحرر المادي من أسر المملوكية للبشر ويصبح متحرراً من كل القيود المادية وعبداً لخالقه ومالكه الحقيقي سبحانه وتعالى .
وهكذا تحقق ذلك ليكون مصداقاً لقوله تعالى :
( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ )(1) .
ودلالة هذه القصة على مدى تأثير الإيمان الراسخ في إحساس
____________
(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و3 .
( 52 )

صاحبه بالمرافقة الإلهية المطلقة والاطلاع السماوي الدقيق وإنتاج هذا الإحساس المرافقة الثانية بمعناها المتقدم وهي التي حولت هذا الإنسان المؤمن من عبد إلى حر ومن فقير مملوك إلى غني مالك . وفي ذلك عبرة لأولي الألباب .
أجل : إن دلالة هذه القصة على مدى تأثير الإيمان الثابت الواعي في إحساس صاحبه بالمرافقة الإلهية المطلقة ـ واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان وهذا الإحساس هو الذي أدى إلى ترك مخالفة الله سبحانه والسير في خط التقوى المؤدي إلى النتيجة الإيجابية الرائعة والجائزة التكريمية المعجلة مضافاً إلى ما سيناله هذا المؤمن المتقي من النعيم الخالد والسعادة الدائمة في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . وفي ذلك عبرة للمعتبرين .
القصة الثانية : وهي شبيهة بالأولى وقد ذكرها المرحوم المقدس السيد محسن الأمين في الجزء الأول من المجالس السنية صفحة 26 وفيما يلي حاصلها :
مما جاء في كرم الإمام الحسين عليه السلام ، عن الحسن البصري أن الحسين عليه السلام ذهب ذات يوم مع جماعة من أصحابه إلى بستان وكان في ذلك البستان غلام للحسين اسمه صافي فلما قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل الخبز فجلس الحسين عليه السلام عند بعض النخل بحيث لا يراه الغلام فنظر إليه الحسين عليه السلام وهو يرفع الرغيف فيرمي نصفه إلى الكلب ويأكل نصفه فتعجب من فعل الغلام فلما فرغ من الأكل قال : الحمد لله رب العالمين اللهم اغفر لي واغفر لسيدي كما باركت لأبويه برحمتك يا أرحم الراحمين ، فقام الحسين عليه السلام وقال : يا صافي فقام الغلام فزعاً وقال ياسيدي وسيد المؤمنين إلى يوم القيامة إني ما رأيتك


( 53 )

فاعف عني فقال الحسين عليه السلام اجعلني في حل يا صافي لأني دخلت بستانك بغير إذنك فقال صافي : بفضلك يا سيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا فقال الحسين عليه السلام : إني رأيتك ترمي نصف الرغيف إلى الكلب وتأكل نصفه فما معنى ذلك ؟
فقال الغلام : إن هذا الكلب نظر اليّ وأنا آكل فاستحييت منه وهو كلبك يحرس بستانك وأنا عبدك نأكل رزقك معاً فبكى الحسين عليه السلام وقال : إن كان كذلك فأنت عتيق لله تعالى ووهبت لك ألفي دينار فقال الغلام : إن أعتقتني فأنا أريد القيام في بستانك فقال الحسين عليه السلام :
إن الكريم ينبغي أن يصدق قوله بالفعل أوَما قلت لك : اجعلني في حل فقد دخلت بستانك بغير إذنك فصدقتُ قولي ووهبتك البستان وما فيه لك فاجعل أصحابي الذين جاؤوا معي أضيافاً وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة وبارك الله لك في حسن خلقك وأدبك فقال الغلام : إن وهبتني بستانك فإني قد سبلته لأصحابك وشيعتك .
ووجه الشبه بين هذه القصة والسابقة عليها هو إحساس الغلام الأول بمرافقة الله له وحضوره عنده فنتج من ذلك خوفه منه وعدم إقدامه على ما يسخطه ويسبب غضبه وأراد الله مكافأته على ذلك معجلاً بأن بعث الإعجاب في نفس ذلك الشخص الذي طلب إعطاءه رأساً من الغنم بطريق غير شرعي وأدى إعجابه بتقواه إلى أن يشتريه ويعتقه ويشتري القطيع ويقدمه هدية له ـ ونفس هذا التحول الذي حصل لهذا الشخص من الإقدام على الحرام إلى القيام بأفضل الأعمال المقرّبة من ا‏لله تعالى يعتبر توفيقاً لهذا الغلام وفضلاً آخر منَّ ا‏لله به عليه حيث كان السبب لتحوله من التصرف المبعد له عن الله سبحانه ورضوانه إلى تصرف آخر مضاد له يثمر له التوفيق وحسن العاقبة والسعادة في الدنيا والآخرة .


( 54 )

والسبب الذي منع الغلام المذكور في القصة الأولى ـ من الإقدام على الحرام ـ وأنتج له قربه من الله سبحانه وتفضله عليه بما حصل له من التحرر بعد الرق والغنى بعد الفقر .
أجل : نفس هذا السبب وهو إحساس الغلام الأول بمرافقة الله له وحضوره عنده بعلمه واطلاعه الشامل هو الذي دعا الغلام الثاني لأن يعامل ذلك الحيوان بمعاملة العطف والإحسان نتيجة إحساسه بمراقبة الله له واطلاعه على جميع تصرفاته وأنه يحب المحسنين حتى للحيوان ويُكافيء على الحسنة بعشر أمثالها كما وعد في كتابه الكريم ـ وقد تحققت له هذه المكافأة معجلاً في حاضر الدنيا كما رأيت مضافاً إلى ما سيناله هناك يوم الجزاء العادل ـ من جنة عرضها السموات والأرض ورضوان من الله أكبر .
وصدق الله سبحانه حيث قال :
( هَلْ جَزَآءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ )(1).
القصة الثالثة : نقلتها عن كتاب جزاء الأعمال صفحة 18 وسبق ذكر اسم مؤلفه وهي كما يلي :
نقلوا أن ملكاً ظالماً أراد أن يبني له قصراً فاستدعى المهندسين لكي يخططوا له خارطة ذلك القصر على الأرض بحسب ما خطر في ذهنه وكان بجانب هذه الخارطة بيت صغير لامرأة عجوز وكانت خارطة قصر الملك مصمّمة على أن يكون بيت العجوز ضمن مخطط القصر لكي يظهر بشكل مربع فطلب من العجوز أن تبيعه بيتها فرفضت طلبه بسبب كون البيت ملجأً لأطفالها يأوون إليه . ويومأً كانت هذه المرأة في سفر فلما عادت وجدت
____________
(1) سورة الرحمن ، الآية : 60 .
( 55 )

بيتها قد هدم فتأثرت تأثراً شديداً من العمل ونظرت إلى السماء وقالت :
إلهي إن كنتُ غائبة فقد كنت حاضراً ، وبعد إتمامها لهذه المناجاة حدث زلزالٌ شديد تهدم على أثره قصر الملك وكان حينها يجلس في أعاليه فدمّر الملك تحت أنقاض القصر وأصبح من الهالكين .
وقال المؤلف معلقاً على هذه القصة :
وهذه عبرة للعقلاء كي يعلموا أن الظلم لا يدوم ، إن الذي فعلته العجوز في مناجاتها لا تستطيع فعله آلاف القذائف والمعاول ، ومحل الشاهد في هذه القصة هو أن هذه العجوز حيث كانت مؤمنة بالمرافقة الإلهية والحضور المطلق في كل مكان وزمان ومع كل إنسان وأنه لا يرضى بحصول الظلم ولا يهمل معاقبة من يتجاوز حدوده ويتمرد عليه ويتجرأ بظلم خلقه ـ لذلك لجأت إليه واعتمدت في معاقبة ظالمها عليه وكان سبحانه حسبها ونعم النصير حيث انتقم لها منه وعجل عقوبته .
وبعد التأمل في سبب إقدامه على هذا الظلم الفاحش ـ ندرك أن غياب الله سبحانه عن شعوره وإحساسه بحضوره ومرافقته لكل كائن ومطلع على كل ما يصدر منه سراً وجهراً الأمر الذي أدى اإلى عدم تحقق المرافقة بالمعنى الثاني عند هذا الظالم وهو مرافقة الدعم والتوفيق لأنه مرتبط بحصول سببه المؤدي له وهو التقوى والتوكل الواعي الواثق وفي مورد القصة حيث حصل عكس ذلك فقد جاءت النتيجة مناسبة لمقدمتها لقوله تعالى :
( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلها )(1) .
____________
(1) سورة ، الآية : 40 .
( 56 )

وقوله سبحانه : ( وَجَزاؤا سَيّئَةٌ سِيّئَةُُ مِّثْلُها )(1) .
وبعد نقل القصص الثلاث المذكورة والتعليق عليها بما يناسب موضوع الحديث تذكرت قصة رابعةً مختصرة سمعتها من بعض الخطباء الأجلاء وأحببت ذكرها في المقام لمناسبتها له والتقائها بالمضمون مع تلك القصص المذكورة وحاصلها أنه حصل في مجلس ضم عدداً كثيراً من المنتمين إلى الإسلام على ضوء خط أهل البيت عليهم السلام صراع كلامي ونقاش حاد حول بعض الموضوعات وكان بين الحاضرين في هذا المجلس ـ شيخ جليل القدر متقدم في العمر ومعروف بالتقوى والورع وذكر الله سبحانه فأثاره هذا النقاش وكان بيده عصا يتوكأ عليها فضرب الأرض بها وصاح بصوت جهوري : ما لي لا أرى الله موجوداً بينكم ؟
وحيث أن صوته هذا انطلق من أعماق قلبه المليء بالخوف من الله سبحانه فقد هزّ كيان الحاضرين ليسيطر عليهم الهدوء والخشية من الله سبحانه .
ومما تقدم بيانه مفصلاً حول تأثير الإحساس والشعور بحضور الله سبحانه ومرافقته لكل الكائنات بالعلم والإشراف والقدرة والتدبير وللمكلفين على وجه الخصوص بالمرافقة وتسجيل ما يصدر منهم من حسنات وسيئات تمهيداً للحساب والجزاء العادل في وقته المناسب .
أجل : بعد معرفة تأثير الإحساس بالحضور الإلهي ومرافقته سبحانه بالمعنى الأول ـ في سلوك الإنسان واستقامته في خط التقوى ـ ندرك بوضوح سبب تحول الحاضرين في ذلك المجلس من حالة ووضع مبعد عن الله سبحانه إلى وضع آخر مقرب منه .
____________
(1) سورة الشورى ، الآية : 40 .
( 57 )

ويفهم ذلك من قول ذلك الشيخ الجليل لهم : ما لي لا أرى الله موجوداً بينكم ؟
لأنه يقصد بوجوده تعالى بينهم ـ الحضور الذهني والوجود المعنوي القلبي في عالم الشعور والالتفات التفصيلي لحضوره الدائم في مقابل حاله الغفلة والذهول عن هذا الحضور ـ الأمر الذي أدى إلى وضعهم الأول البعيد عن جو الإيمان الخاشع والمبعد عن ذكر الله النافع .
وإلى هذا المعنى أشار الله سبحانه بقوله :
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ )(1) .
ومن المناسب للحديث حول موضوع المرافقة والرفق الإلهي بخلقه سبحانه ختامُه بالأبيات التالية التي جالت في ذهني بعد الفراغ منه وهي كما يلي :
الله دومــاً راحــمٌ ورفــيـقُ * ولنا بدرب الـصالحات رفيــقُ

خَلَقَ الورى لفــضيـلةٍ وسعـادةٍ * وهُداه للهدفِ الكــبيرِ طريــقُ

فمن اسـتقامَ عليه يجنـي خيـره * وعلى الملائك بالـصلاح يَفــوق

ومن ارعوى يجني الشقاوة عاجلاً * وجزاؤه يوم الحــساب حريــقُ

____________
(1) سورة فاطر ، الآية : 28 .
( 58 )


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net