متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحكمة في تحديد الطواف وتقييده بالحجر الأسود بداية ونهاية
الكتاب : فلسفة الحج في الإسلام    |    القسم : مكتبة الفقه

الحكمة في تحديد الطواف وتقييده
بالحجر الأسود بداية ونهاية

لا أريد تناول الحديث حول هذا الموضوع من زاوية ذاتية تتعلق بحقيقة الحجر ونوعيته وهل هو درة نزلت من السماء أو من نوع آخر حصل من الأرض ؟
وذلك لأن معرفة هذه الخصوصية لا ترتبط بالهدف الأصيل العام المقصود من فرض ا‏لله سبحانه بدء الطواف بالحجر وختامه به ولذلك اقتصرت على ذكر ما يكون قابلاً للانسجام مع روح التعبد بفريضة الطواف وقيوده الخاصة وهو ما يستفاد من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام لبيان الحكمة في ذلك التعبد وهي أن ا‏لله سبحانه أراد جعل الحجر الأسود رمزاً لما تتحقق به المصافحة في مقام إعطاء العهد والميثاق لله سبحانه بالالتزام بخط العبودية والوفاء بميثاق الفطرة وعهد الاعتراف لله بالوحدانية وحق العبادة والإطاعة ولنبيه محمد بن عبدا‏لله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ـ عندما يُقبّل الطائف هذا الحجر أو يصافحه ويستلمه .
وحيث أن الذي جرت العادة بين أفراد المجتمع على المصافحة به هو يمين الإنسان الذي يُعطى العهد له ـ فقد عبر عن هذا الحجر بهذا الإعتبار بأنه يمين الله سبحانه تجوزاً وتسامحاً في التعبير كما في التعبير


( 131 )

بكلمة اليد وإرادة القدرة الإلهية الشاملة وإطلاق كلمة عرش الله وإرادة سلطانه الواسع .
وقد روي هذا التعبير في مقام الرمز والإشارة إلى اليمين المعنوية لله سبحانه ـ عن الإمام زين العابدين عليه السلام حيث روي عنه قوله ما مضمونه :
إن الحجر بمنزلة يمين الله سبحانه في أرضه فمن لمسه يكون كأنّه صافح الله سبحانه وروي عنه أيضاً ما حاصله :
أن ا‏لله سبحانه جعل في الحجر ميثاق الأنبياء وأخذ على العباد أن يؤدوا الأمانة لله سبحانه ( وهي أمانة التكليف والمسؤولية ) .
ولذلك ورد في الدعاء عندما يطوف المكلف حول البيت الشريف ويحاذي الحجر الأسود : إلهي أمانتي أديتُها وميثاقي تعهدتُه ليشهد لي بالموافاة عندك يوم القيامة .
وحيث أن هذه الكتابة محررة لغاية استيحاء الدروس التربوية من مناسك الحج وشعائره رأيت من المناسب لذلك أن أذكر بعض الأدعية التي كان الإمام زين العابدين عليه السلام يدعو بها ويناجي ربه إذا خلا له المطاف مع ذكر قصة هشام بن عبدالملك عندما أراد أن يطوف حول الكعبة ويستلم الحجر فلم يتمكن بسبب زيادة عدد الحجاج وشدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الازدحام وحوله أصحابه من وجوه أهل الشام بينما تمكن الإمام زين العابدين من ذلك بكل يُسر وسهولة كما سيأتي ذكر قصته بعد ذكر بعض أدعية الإمام المناسبة للمقام .
منها قوله عليه السلام : اللهم أنت وهبتنا أجلَّ الأشياء عندك وهو


( 132 )

الإيمان من غير سؤال فهل تحرمنا ما دونه من الغفران بعد المسألة والابتهال ؟ يا من وعد فوفى وتوعد فعفا صل على محمد وآله الطاهرين واغفر لمن ظلم وأسا .
ياسيدي لا أهلك وأنت الرجا . وكان يقول بعد دعائه المذكور :

يا من إذا وقف الوفودُ بــبابه * ألهى غــريبَهم عن الأوطـان
أنا عبدُ نعمـتك التي ملكت يدي * وربيب مغـنـاك الذي أغناني
جرت الملـوكُ ومن يُؤمل رفده * وبقيتُ حيث أرى الندى ويراني

ومن كلماته الحكيمة المتعلقة بموضوع الحديث (الطواف) قوله عليه السلام : إذا وقفتَ في المطاف فلينطق قلبك بذكر رب البيت قبل أن يطوف جسمك بالبيت .
فقد لفت الإمام عليه السلام بهذا البيان نظر المكلفين إلى حقيقة العبادة وجوهرها وهي التي يشترك فيها كل كيان الإنسان باطنه وظاهره جوانحه وجوارحه وبذلك تكون عبادة كاملة يرضى بها الإله الكامل وذلك لأنها إذا حصلت من الجوارح وحدها ولم تشترك معها الجوانح والباطن بأن صدرت حركةً من الجسم ولم تقترن بنية القلب وإخلاصه فهي تكون جسماً بلا روح لا قيمة لها ولا اعتبار بها .
وكذلك إذا آمن بقلبه بقيمة العبادة وكون الله سبحانه أهلاً لها ومستحقاً لقيام العبد بها ـ من دون أن يُخرج هذا الإيمانَ من حيز القلب إلى صعيد الخارج ويجسمه بعمل خارجي ، فإن هذا الإيمان يكون أبتر ناقصاً لا يجلب لصاحبه نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً .
وقد بيّن الله سبحانه حقيقة العبادة الكاملة التي تسلم الإنسان العابد من الخسران وتساعده على نيل نعيم الجنة والسلامة من عذاب النيران


( 133 )

بقوله سبحانه :
( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ )(1) .
وقد أشرتُ إلى مضمون هذه السورة بالأبيات التالية :

والعصر إن المرءَ في خسـران * وشــــقاوة ومذَلةٍ وهوانِ
إلا الألى عرفوا الإله وطــبقوا * نهـج الهدى وشريعة القرآن
وغداً يُوصي بعضهم بعضاً هنا * بالحق والصبر الجميل الباني

أما قصة الإمام عليه السلام مع هشام فحاصلها :
أن هشاماً بن عبدالملك بن مروان أراد أن يطوفَ حول الكعبة ويستلم الحجر فعجز عن ذلك بسبب شدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الإزدحام فيتم طوافه، وبينما كان جالساً وحوله جماعة من أصحابه الشاميين فإذا الإمام زين العابدين يُقبل بقصد الطواف فوسع الناس له ومهدوا السبيل لطوافه ولمسه الحجر بيسر وسهولة . وهذا ما لفت نظر أصحاب هشام فسأل أحدهم عن هذا الشخص الذي هابه الناس وقابلوه بإجلال واحترام ، فقال هشام للسائل : لا أعرفه ـ من باب التجاهل ـ حتى لا ينجذب جماعته الشاميون إلى الإمام عليه السلام ويؤمنوا بأولويته منه بمنصب الخلافة وكان الفرزدق حاضراً يسمع السؤال والجواب فتحركت فيه الغيرة الإيمانية والولاء الطاهر لأهل البيت الطاهر وقال لهشام : إذا كنت لا تعرفه فأنا أعرفه فقال له: ومن هو ؟
فأجابه هذا الشاعر البطل والموالي المخلص للحق والولاية بالقصيدة المشهورة التي تعتبر من كرامات الإمام زين العابدين المعبرة عن مدى
____________
(1) سورة العصر ، الآيات : 1 و2 و3 .
( 134 )

اهتمام الله تعالى ببيان فضل أهل البيت وأحقيتهم من غيرهم .
وذلك لأن ارتجال مثل هذه القصيدة الرائعة على الفور مع تميزها بفصاحتها وبلاغتها وجزالة ألفاظها وقوة وسمو معانيها يدل دلالة واضحة على مدى اهتمام واحترام الله سبحانه لكل واحد من أهل البيت عليهم السلام ومن يتمسك بعروة ولائهم الوثقى . وفيما يلي مقطوعة رائعة من هذه القصيدة الغراء وهي كما يلي :

هذا الذي تعرف البـــطحاءُ وطأتَه * والـــبيت يعرفُه والـحل والحرمُ
هذا ابن خـــــير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهــــر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنـــتَ جاهله * بجده أنبــــياء الله قد خُتــموا
هذا عليٌ رســـــول الله والده * أضحت بنور هداه تهــتـدي الأمم
وليس قولــــك مَنْ هذا بضائره * الــعربُ تعرف مَنْ أنكرتَ والعجم
يكاد يُمسكه عرفانَ راحـــــته * ركنُ الحطيم إذا ما جاء يســــتلم
من معشر حبهم دينٌ وبغـــضُهُم * كفرٌ وقربهم مَنجىً ومُعــــتصمُ
إن عُد أهل التقى كانوا أئــمـتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

ويستفاد من قصة الإمام عليه السلام مع هشام عدة دروس تربوية :
1 ـ منها درس يفيدنا مدى تأثير قوة العلاقة بالله سبحانه والذوبان في ذاته المقدسة حباً وعبادة وقرباً حيث ينعكس ذلك إيجاباً على شخص المؤمن بالله تعالى المحب له والذائب في محبته وعبادته .
وقد تمثل الأثر الإيجابي لمحبة الإمام عليه السلام ربه وإخلاصه له في عبادته بزرع المحبة والمهابة له في قلوب تلك الجماهير المحتشدة حول بيت الله تعالى الأمر الذي دفعها لأن تفسح له في طريق الوصول إلى الكعبة المشرفة ليطوف حولها ويلمس حجرها بيسر وسهولة بدون وجود أي


( 135 )

ضغط خارجي يدفعها لذلك وهذا يُعتبر نتيجة طبيعية بالنسبة إلى الإمام زين العابدين عليه السلام وأمثاله من الأولياء المحبين لله تعالى المخلصين في محبته وعبادته لأن سبحانه وعد بالمجازاة بالإحسان على فعل الإحسان حيث قال تعالى :
( هَلْ جَزآءُ الإحْسَانُ إلاّ الإحسان ) (1) .
كما وعد بالخير معجلاً لفعل الخير بقوله سبحانه :
( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ )(2) .
ووعد أيضاً بالنصر والتأييد من نصره أي نصر دينه بتعلم أحكامه وتطبيق نظامه والدفاع عنه فكرياً وعسكرياً إذا تعرض للخطر من قِبَل الأعداء وذلك بصريح قوله تعالى :
( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِتْ أَقْدَامَكُمْ )(3) .
ومن المعلوم أن الله سبحانه أوفى الواعدين وأصدق القائلين . وحيث أن الإمام جاء زائراً بيت الله تعالى بكل حب وصدق وإخلاص فلا بد أن يمهد له سبيل الوصول إلى غرضه الأخروي السامي ليظهر الفرق بين المؤمن المخلص لله سبحانه وغيره ، وذلك بتأييد الأول وخذلان الثاني تطبيقاً لقوله تعالى :
( أَفَمَن كَانَ مُؤمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ )(4) .
وحيث أن ما حصل للإمام عليه السلام من الجماهير لم يكن عادياً بل
____________
(1) سورة الرحمن ، الآية : 60 .
(2) سورة الزلزلة ، الآية : 7 .
(3) سورة محمّد ، الآية : 7 .
(4) سورة السجدة ، الآية : 18 .

( 136 )

هو فوق العادة ـ يصح أن نعتبره كرامة سماوية كرَّم الله بها الإمام عليه السلام بهذا النحو من العناية والتكريم ـ ويأتي ارتجال الفرزدق قصيدته العصماء التي هي من عيون الشعر العربي ـ ليكون كرامةً أخرى كرّم الله بها الإمام عليه السلام وأبرز فضله وفضل آبائه وأجداده وأبنائه حيث قال في حقه وحقهم ما هو الثابت لهم واقعاً يتحدى ونصاً يتحدث عن كون مودتهم فرضاً وبغضهم كفراً وذلك بقوله :

من معشر حبهم فرض وبـغضهم * كفر وقربهم مَنجىً ومُعتـَـــصَمُ
إن عد أهل التقى كانـوا أئـمتهم * أو قيل مَن خير أهل الأرض قيل هم

2 ـ ومنها درس في التضحية والجهاد المقدس بالكلمة الجريئة والموقف الأبي الذي وقفه ذلك الشاعر البطل في سبيل نصر المبدأ ودعم الفضيلة وإظهار الحقيقة ليكون محققاً بذلك أفضل الجهاد الذي عناه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم بقوله :
أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر .
والذي رفع هذا الجهاد بمقياس القيم هو تجرده من العوامل المادية والدوافع الدنيوية . وتجلى ذلك بوضوح عندما اعتذر وأبى قبول الهدية التي قدمها له الإمام عليه السلام مكافأة له على موقفه المشرف . ويأبى الكرمُ الإيماني الهاشمي إلا أن يقابل إرجاع الهدية بالرفض معللاً ذلك بقوله عليه السلام ما مضمونه :
إنا أهلَ البيت لا نرضى بإرجاع ما قدمناه هدية ثم أعادها إليه ـ أي إلى الفرزدق .
3 ـ ومنها درس في التوعية والتنبيه على واقعية العزة الإيمانية التي نبه الله عليها في أكثر من مورد وبأكثر من آية .


( 137 )

منها قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلَرسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ )(1) .
وقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقاكُم) (2) .
وقول الرسول الأعظم المشهور : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، متحدٌ مع الآية المذكورة .
وورد في وصية الإمام الحسن عليه السلام إلى جنادة ما يشير إلى ذلك وهي قوله عليه السلام : وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته.
والحقيقة الموضوعية التي كشفت عنها هذه النصوص الكريمة بعدما أثبتها الواقع وشهد بواقعيتها الوجدان السليم والذوق المستقيم هي أن الميزان في رفعة الشأن وسمو المنزلة هو التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل ـ لا السلطة المادية الدنيوية القائمة على أساس الظلم والجور ولا كثرة الأعوان والجنود المتعاونين مع صاحب هذه السلطة ـ على الإثم والعدوان ـ ولا كثرة الأموال وإقبال الدنيا بزينتها الفانية وفتنتها الساحرة فإن ذلك كله وهم وخيال لا قيمة له ولا اعتبار به بمقياس الحقيقة لأنها كلها تفنى وتزول كما يزول صاحبها معها أو قبلها ولا يبقى له منها إلا تبعتها ومسؤوليتها الخطيرة غداً :
( يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ )(3) .
وبذلك ندرك أن تلك المظاهر الجوفاء مصداق للزبد الذي تحدث الله عنه بصريح قوله تعالى :
____________
(1) سورة المنافقون ، الآية : 8 .
(2) سورة الحجرات ، الآية : 13 .
(3) سورة الشعراء ، الآية : 88 و 89 .

( 138 )

( فَأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ) (1) .
وتأتي الحوادث التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة وتزيدها وضوحاً وجلاء فيعتبر بها المعتبرون ويستفيد منها المتفكرون .
فهارون العباسي أقبلت عليه الدنيا وخدعته بزينتها الخادعة وفتنتها الساحرة حتى كان يخاطب السحابة قائلاً :
( أينما أمطرتِ فإن خراجك سيأتي إلى ) معبراً بذلك عن سعة سلطانه وقوة نفوذه .
وفي المقابل كان الإمام موسى الكاظم عليه السلام غارقاً في ظلمات السجون بحيث لا يستطيع تمييز الليل عن النهار ولم يصدر منه ما يقتضي ذلك سوى رفضه لأن يسير في ركاب الحاكم الظالم ساكتاً عن ظلمه وداعماً لسلطانه .
وقد بعث هذا الإمام العظيم لذلك الحاكم الجائر رسالة يقول له فيها :
إنه لن ينقضيَ عني يوم من البلاء إلا انقضى معه عنك يوم من الرخاء حتى نمضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء هناك يخسر المبطلون . وفي المقابل :
( قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِم خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون )(2) .
____________
(1) سورة الرعد ، الآية : 17 .
(2) سورة المؤمنون ، الآيات : 1 و2 و3 و4 .

( 139 )

وقال سبحانه مشيراً إلى العاقبة الحسنة التي ينتهي إليها المتقون بتقواهم :
( تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَسَاداً والعَاقِبةُ لِلّمُتَّقِينَ )(1).
وأشار إلى مصير المؤمنين العاملين بإيمانهم الصادق بالتقوى والعمل الصالح بقوله سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَريَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِديِنَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ )(2) .
كما أشار إلى مصير الكافرين بقوله تعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدينَ فِيهَا أُوْلئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ ) (3) .
وقد أشار إلى هاتين العاقبتين المتقابلتين أحد الشعراء المبدعين بقوله :

هيا بنا لرُبى الزوراء نســألها * عن ثلتـين هما موتى وأحياء
فقد مشت وبنو العبـاس سامرةٌ * بألف ليلةَ حيث العـيش سراء
دار الرقيق وقصر الخلد طافحة * بما يلذ فأنـغام وصـــهباء
تجــبك أن ديار الظلم خاوية * وأن للــمتقين الخلدَ ما شاؤا
____________
(1) سورة القصص ، الآية : 83 .
(2) سورة البينة ، الآيتان : 7 و8 .
(3) سورة البينة ، الآية : 6 .

( 140 )

ومِل إلى الكرخ وارمُق قُبة سمَقَت * تجـاذبتها الثريا فهي شــماء
وحــــي فيها إماماً من أنامله * سحابـة الفضل والإنعام وطفاء

وهذه المقطوعة الشعرية الرائعة وإن جعلت المقابلة بين الإمام موسى الكاظم عليه السلام وحاكم عصره والمتعاونين معه على الإثم والعدوان إلا أن مضمونها ومحتواها ينسحب بشكل عام ليشمل كل فرد أو جماعة سائرة في خط السماء بالإيمان الصادق والتقوى والعمل الصالح كما يشمل الطرف المقابل لهذه الفئة الهادية المهتدية إلى درب العبادة والكمال ( وبضدها تتميز الأشياء ) .
ولذلك ينطلق المضمون المذكور في رحاب التاريخ ليصل إلى عصر الإمام الهادي عليه السلام ومعاصره المتوكل العباسي والقصة التالية تُظهر لنا تحقق المقابلة بين خط الهدى والاستقامة في العقيدة والسلوك والخط المقابل المنحرف عن هذا الخط القويم والصراط المستقيم وحاصل القصة المشار إليها :
أن المتوكل أحضر الإمام الهادي عليه السلام إلى قصر حكمه وهو جالس على مائدة الخمر وطلب من الإمام أن يشاركه في شربه فقال له الإمام عليه السلام أعفني يا أمير فوالله ما خالط لحمي ودمي قط فاعفني منه فقال المتوكل إذن أنشدني الشعر فقال له إني لقليل الرواية فألحّ عليه المتوكل وقال له لابد من أن تنشدني شعراً فأنشده الأبيات التالية لينبهه من غفلته وهي كما يلي :

باتوا على قُلل الأجبال تحرسُهم * غلبُ الرجالِ فلم تنفـعهم القُلَلُ
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم * وأسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعدما قُبروا * أين الأسرةُ والــتيجانُ والحُلَلُ


( 141 )

أين الوجوهُ التي كانت منعــمةً * من دونها تُضربُ الأستارُ والكُلَلُ
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوهُ عليها الدود ينــتقل
وطالما أكلوا دهراً وما شربـوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
وطلما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفـوها على الأعداء وارتحلوا
وطالما عمروا دُوراً لتحصنهـم * ففارقوا الدور والأهلين وانـتقلوا
أضـحت منازلهم قفراً معطلـة * وساكنوها إلى الأجداث قد رَحلوا

ذكر المؤرخون أن المتوكل بكى عندما سمع هذه الأبيات من الإمام عليه السلام وأمر برده الى منزله لساعته .
وانطلاقا من جو العبرة والاعتبار بحياة العظماء الذين باعوا كل كيانهم لله سبحانه وتلك الشخصيات التي مشت في خط معاكس لنهج الحق والعدالة فجرفهم تيار الواقع وأغرقهم في بحر الفناء معنوياً ومادياً كما أغرق فرعون من قبل وأنجاه ببدنه ليكون عبرة للمعتبرين .
أجل : أنسجاماً مع هذا الجو التاريخي الذي تصارعت فيه المبادىء وكان الانتصار في النهاية لمبادىء الحق والعدالة على مبادىء الباطل والضلالة ـ آثرت ذكر بعضٍ من قصيدة الشاعر السوري المبدع المنصف الأْستاذ محمد مجذوب التي قارن فيها بين مصير الإمام علي عليه السلام رمز الحق والعدالة ونهاية خصمه المبدئي معاوية بن أبي سفيان وذلك من أجل أن نقتدي بتلك الشخصية الإسلامية الفذة التي كانت مع الحق وكان الحق معها بشهادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حقه . ونستفيد عبرة وعظةً من سيرة الذين حاربوا الحق ومن سار على نهجه فانتصر عليهم وبقي صامداً في وجه التحديات لا تزيده إلا صلابة وثباتاً وتألقاً وخلوداً .
ومن أجل تحصيل المزيد من الفائدة ونيل العديد من أنواع العبرة


( 142 )

آثرت نقل نص الرسالة التي بعثها الشاعر مع القصيدة إلى لجنة الاحتفال الذي أقيم في النجف الأشرف بمناسبة جليلة تتعلق بشخصية الإمام علي عليه السلام وهي كما يلي :
حضرة الاخوان لجنة الشباب النجفي المحترمين
وبعد : لقد كنت أود لو يُتاح لي الحضور شخصياً للمساهمة في الذكرى الخالدة لولا ما يحول دون ذلك من عقبات لا قِبَل لي باجتيازها وفكرت ملياً في الكلمة التي تصلح لمثل ذلك المقام العظيم فلم أجد أفضل من قصيدة كنت قد نظمتها عقيب زيارتي لضريح معاوية بدمش إذ تفتحت في خيالي أبواب التاريخ فأشرفت من خلالها على تلك المآسي الفاجعة التي مُني بها الإسلام منذ خروج أبي يزيد على أمير المؤمنين إلى كارثة كربلاء وإلى ما لا نهاية له من النوازل التي استغرقت أمة محمد ولا تزال تستغرقها حتى يشاء الله تداركها برحمته .
وها هي ذي القصيدة وفيها كل ما اختلجت به مشاعري واقتنع به عقلي من الشؤون التي تتصل بهذه الذكرى ويسرني جداً أن تنال رضاكم فتكون أحدَ موضوعات الحفلة ولا شك أن ذلك سيتيح لي سعادة الاتصال بنفوس زكية ربطني بها رحم الولاء الخالص لذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً .
هذا وختاماً أرفع إليكم أحر التمنيات وأصدق التحيات .
وفيما يلي بعض من قصيدته الجليلة الطويلة :

أين الـقصورُ أبا يزيدَ ولهوُها * والصـافنات وزهوُها والسؤددُ
أين الـدهاءُ نحرتَ عِزتَه على * أعتاب دنياً سحــرها لا ينفدُ
آثرتَ فـانيها على الحق الذي * هو لو علمتَ على الزمان مخلد


( 143 )

تلك البهـارجُ قد مضت لسبـيلها * وبـــقيتَ وحدك عِبرةَ تتردد
هذا ضـريحك لو بصُرتَ ببؤسه * لأسال مدمعَك المـصيرُ الأسودُ
كتَلٌ من الترب الـمـهين بخِرْبةٍ * ســكر الذبابُ بها فراح يُعربد
خفـيت معــالمها على زوارها * فكأنها في مجــهل لا يُـقصد
ومـشى بها ركبُ البلى فجدارها * عار يكاد من الضراعة يسـجد
والـقُبة الشماء نكس طرفــها * فبـكل جزء للفناء بها يـــد
تهمي السحائبُ من خلال شقوقها * والـريح من جنابتها تــتردد
حتى المصـلى مظلمٌ فكـــأنه * مذ كان لـم يجـتز به مــتعبد
* * *
أأبا يزيدَ لتلك حــــكمةُ خالقٍ * تُجلى على قلب الحـكيم فيُرشَدُ
أرأيتَ عاقبة الجمـــوح ونزوه * أودى بلبك غيها المتـــرصد
أغرتك بالدنيا فرُحت تشنـــها * حرباً على الحق الصراح وتُوقد
تعدو بها ظلماً على من حـــبه * دين وبغضته الشقــاء السرمد
علَمُ الهدى وإمام كل مطهّـــَر * ومثابةُ العلم الذي لا يُجـــحد
ورثت شمائله بَراءةَ أحمـــدٍ * فيكاد من بُرديه يشرق أحــمد
وغلوتَ حتى قد جعلت زمامـها * إرثاً لكل مُذمَّمٍ لا يُحــــمد
هتك المحـارمَ واستباح خدورها * ومضى بغير هواه لا يتقــيد
فأعادهـا بعد الهدى ـ عصبيةً * جهلاءَ تلتهم النفوس وتــُفسد
فكأنما الإسلام سلعةُ تاجـــر * وكأن أمـــــته لأَلكَ أعْبُدُ
***
أأبا يزيد وساءَ ذلك عِتــــرةً * ماذا أقول وبابُ سمعك مُوصد
قم وارمق النجف الشريف بنظرةٍ * يرتدَّ طرفُك وهو باكٍ أرمــد


( 144 )

تلك العظام أعز ربك شأنــــها * فتــكادُ لولا خوفُ ربك تُعبد
أبداً تباكرها الوفودُ يحثـــــها * من كل صوب شوقها المتـوقد
نازعتَها الدنيا فـــفزت بوردها * ثـم انطوى كالحُلم ذاك الموردُ
وسعت إلى الأخرى فأصبح ذكرها * في الخالدين وعطف ربك أخلد

وفي ختام الحديث عن الطواف وحكمته يترجح ذكر حوار جرى بين عبدالله بن مبارك والإمام زين العابدين عليه السلام عندما التقى به وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج المباركة . قال عبدالله هذا للإمام عندما رآه منفصلاً عن الحجاج : يا بُني مع من قطعت هذا البر وليس معك زاد ولا راحلة ؟ فأجابه الإمام عليه السلام قائلاً :
يا شيخ قطعتُ هذا البرَّ مع البار ، ثم سأله ثانياً : وأين زادك وراحلتك ؟ فأجابه الإمام عليه السلام قائلاً :
راحلتي رجلاي وزادي تقواي وقصدي مولاي .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net