متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة
الكتاب : فلسفة الحج في الإسلام    |    القسم : مكتبة الفقه

فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين نبينا محمد بن عبدالله وعلى آله الطاهرين المنتجبين .
وبعد : قال الله في محكم كتابه المجيد :
( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(1) .
حيث أٌننا على أبواب التوجه إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج المقدسة ناسب ذلك أن أتحدث عن فلسفة هذه الفريضة وأبين ما يترتب عليها من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة التي أشار الله سبحانه إليها إجمالاً بقوله : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )(2) .
وهذا يقتضي بيان العبادة بمعناها العام ودورها التربوي في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً نظراً لمساهمة ذلك في معرفة الدور الذي تؤديه فريضة الحج في هذا المجال فأقول :
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 97 .
(2) سورة الحج ، الآية : 28 .

( 230 )

المراد من العبادة بمعناها العام الذي اعتبره الله سبحانه العلة الغائية الداعية لخلق الجن والإنس على ما صرح به سبحانه في كتابه الكريم بقوله عز وجل: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )(1) .
الخضوع الكلي والانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره سواء كان هذا العمل باطنياً كالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من أجل التوصل به إلى تحصيل الإيمان الراسخ بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله للأنبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غداً للحساب يوم الجزاء .
أم كان عملاً ظاهرياً وموقفاً خارجياً منطلقاً من ذلك الإيمان من أجل أن يتوصل الإنسان بهذه العبادة بكل شقيها الباطني والظاهري إلى ما أراد الله سبحانه له أن يصل إليه ويحصل عليه من السعادة في الدنيا والآخرة .
وذلك لأن العبادة الظاهرية تتمثل بفعل ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وترك ما نهى عنه من المحرمات والمكروهات وحيث أن الله حكيم رحيم لا يأمر إلا بما فيه المصلحة والمنفعة المادية والمعنوية ولا ينهى إلا عما فيه المضرة والمفسدة المادية والمعنوية فإذا حقق العبد ذلك واتقى الله حق تقاته وحصَّل المنافع والفوائد وسلم من المضار والمفاسد فهو يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق إلى جنة البقاء والخلود ـ قال سبحانه :
( وَلَو أَنَّ أَهْلَ القُرَى ءامَنُوا واتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(2) .
____________
(1) سورة الذاريات ، الآية : 56 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 96 .

( 231 )

وقال سبحانه :
( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )(1) . والعبادة بهذا المعنى العام المتمثل بالاستقامة في طريق التقوى وعدم الانحراف عنه مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات المؤدية بطبيعتها إلى التحلل من نظام العبودية حيث أنها محتاجة إلى قوة إيمانية وبطولة روحية تساعد المؤمن على الثبات في ساحة الجهاد الأكبر لذلك شرعت العبادات الخاصة المعهودة بكيفيتها المرسومة واشترط في صحتها وترتب الأثر عليها الإتيان بها بقصد التقرب بها لله سبحانه لأن ذلك يعمق الإيمان في النفس ويقويه في القلب ليبقى صاحبه على صلة بالله تعالى وانشداد إليه برابطة التقوى فيظل دائماً في إطار عبادته له بكل ما يصدر عنه من تصرفات اختيارية سواء كانت فعلاً لما أمر به أو تركاً لما نهى عنه ونتيجة ذلك هي بقاء هذا المؤمن العابد في نطاق مصلحته وسعادته كما أراد الله له على ضوء ما تقدم بيانه من فلسفة العبادة وما يترتب عليها من معطيات إيمانية كثيرة وبعد ذكر هذه المقدمة التمهيدية يأتي دور الحديث عن الحج وبيان ما يترتب على تأدية فريضته من الفوائد الجليلة والمنافع العديدة فأقول :
الفوائد المترتبة على هذه الفريضة المقدسة كثيرة وسأقتصر على ذكر أهمها وابرزها وهو الزهد في كل ما يبعد الإنسان عن رحمة الله سبحانه ويشغله عن الاهتمام بما ينفعه في دنياه وآخرته من الواجبات والمستحبات وعن التجمل بما يرفعه من الفضائل والكمالات ـ والوجه في ترتب فائدة الزهد على تأدية فريضة الحج هو أن الإنسان المؤمن إذا عزم على تأدية هذه الفريضة يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يحصل له ويصيبه
____________
(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و 3 .
( 232 )

في الطريق وبعد وصوله إلى أماكن تأدية المناسك الواجبة من المتاعب والحوادث الخطيرة التي أدت فيما سبق إلى موت بعض الحجاج ـ وخوفه من ذلك يُظهر بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف يُقيم فترة محدودة ثم يرحل عنها إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وفيها يتقرر مصيره على ضوء أعماله التي كان يمارسها في هذه الدار العاجلة الزائلة فإن كانت خيراً منسجمة مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قِبَل الله تعالى كانت النتيجة خيراً وجنةً عرضها السموات والأرض وإن كانت شراً ومخالفة لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه :
( فَمَن يَعْمَلْ مِيثقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ )(1) .
وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات اللاشرعية وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول .
ومما تقدّم يظهر جلياً أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً ـ هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو المعلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تُركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يُعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي عليه السلام : ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء .
____________
(1) سورة الزلزلة ، الآيتان 7 و 8 .
( 233 )


وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي لمعنى الزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج ما تعلق بها من الحق المعلوم للسائل والمحروم فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله سبحانه وعند المؤمنين الواعين .
أما الفوائد الاُخرى التي يمكن تحصيلها من تأدية فريضة الحج فقد آثرت الإشارة إليها بالقصيدة التالية التي يستطيع المتدبر المثقف أن يستفيدها منها بذوقه السليم وفهمه المستقيم ، وعنوانها :

الحج للأجيال أفضل معهد
الحج للأجــيال أفـضل معهدٍ * تجني به عفوَ الإله السرمـدي
وتسير في درب التقى بتضامـن * وتعارف وتعاطـــف وتوددِ
إحرامه نزعٌ لثوب مطـــامع * وطـوافُه إجلال ربٍ أوحــد
وصَلاتُه صِلةُ القلوب بخالــق * باري الوجود ونبع عيشٍ أرغد
والسعيُ سعي للفـضيلة والعلى * وقضاءِ حاجات الفقير المُجهد
وكذلك التقــصير رمز تجرّد * من كل خُلْقٍ عن كمالـك مُبعدِ
أما الوقوفُ فوقفة لتعــارف * وتقارب رغم المكان الأبــعد
والإزدلاف لمشــعر نرنو به * لرضا السماء بتضــرع وتعبد
والرمي رمي للطغـاة بموقفٍ * حُرٍ ـ من الجمع الغفير ـ مُوحَّد
والـذبحُ ذبحٌ للهـــوى وتأثرٌ * بسخاء إبراهيم بالــغض الندي
والحلق زينة مؤمن متمــسك * بعُرى الـتقى رغم الزمان الأنكد
أما المبيت لدى مِنى فضـيافةٌ * محمـــودةٌ عند الإله الأجود


( 234 )

هي تلك فلسفة المناسك أشرقت * وعياً يبدد حيـرة المتــــردد
فالله لا يدعـو الأنامَ لغير مـا * يُجدي البرية في القريب وفي الغد
وكذاك إن ينهى فعن مُردٍ لنـا * جــسماً وروحـاً دون أي تردد
هو عالمٌ بمفاسدٍ ومصــالـحٍ * تعطي السعادة للتقـي المهــتدي
فمن اتّقى يجني المُنـى بتعبـدٍ * وسواه يغرق في الـشقا بتمـرد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام أولاً وآخراً على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين وجميع عباد الله الصالحين .

وقع الفراغ من تحرير صفحات هذا
الكتاب ليلة الثالث عشر من شهر رمضان المبارك
سنة 1418 هـ الموافق 12 كانون الثاني سنة 1998 م



 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net