متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الطريق إلى جمران
الكتاب : الطريق إلى جمران    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

الطريق إلى جمران

 

ومع أنه بات وشكياً أن يُصرّح لي بمقابلة قائد الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني.. الذي زجّ الكثيرون غماماً كثيفاً من الكراهية حول شخصيته التي تتألق بالكثير من المهابة ووافر الاحترام.. فقد حدّثتني خبرتي بأنه من الأوفق وأنا أقترب من مثل هذه الزيارة المهمة أن أبذل جهدي.. وأن أقبل النتيجة كيفما كانت.

لقد حاولت رؤية الإمام في مارس عام 1980م.. وتوجّهت مرات ثلاثة إلى البوابة التي تؤدّي إلى منزله بشمال طهران.. وكان المنزل تحت حراسة مشددة يجوب حرس الثورة سطحه في خطوات وئيدة.. أمّا الآن فقد تصاعدت شدّة الحراسة.. إذ إني أقدّر عدد الحراس القائمين بها بما يزيد على خمسمائة فصارت أشدّ ما تكون الحراسة.. وكنّا قد اُحطنا علماً عند وصولنا إلى طهران أنه إذا كان سيصرح لنا برؤية الإمام الخميني فإن ذلك لن يصير مؤكّداً حتى آخر لحظة.. وبدا ذلك متفقاً تماماً وتقاليد رجال الدين.. وأولئك الذين يرسمون جداول أعمالهم استجابة لخاطر وتوجيه إلهي.. أو لإحساس تلقائي بما ينبغي إنجازه لتَوّه بين ظروف الكون المتغيرة المتقلّبة.

وقد زرت سابقاً عدداً من المتصوفين والحكماء والعارفين.. فلمست فيهم ـ دون تفاوت بينهم ـ الإحساس بإمكانية التغير المفاجئ في آخر لحظة حتى فيما يتعلق بأرسخ التقاليد الثابتة.. وسواء كان ذلك صحيحاً أم غير صحيح فإن انطباع الفرد منّا وهو على مقربة من الأشخاص الربانيين يشير الى عدم اقتناعهم بأبعاد خبراتنا سواء الخطي منها أي ذي البعد الواحد، أو ما تحدّده أبعاد الفراغ والزمن.. إذ هم يفضّلون تعديل جدول أعمالهم بما تتطلبه مستلزمات الساعة وتطورات الحاجة الملحّة وحقيقة العالم البيّنة الداعية الى إنجاز كلّ شيء في وقت واحد.

وبناءً على ما جمعت من مصادري، فإن آية الله الخميني لا يختلف عن هؤلاء رغم أنه يحرص على المواظبة فيما يتعلق بمواقيت الصلاة وما إلى ذلك من المسائل الدينية.. فما أن بدأ أمراً حدَّد واجباته بما تمليه عليه استجابته في لحظة معيّنة.. ولا يعنى بإعداد جدول أعمال ومقابلات دقيق.. فقد يتعارض ذلك ومسؤولية التصرف بما تقتضيه سرعة الإنجاز في لحظة ما، أو التصرّف بما توحي إليه خبرته من معانيَ واهتمامات.. إنني أذكر فكرة "كارما" البوذية التي تقضي بأن ما يحدث لأي فرد إنما هو نتيجة حتمية لأعمال له مضت.. أي أنها مسألة نموذج كامل للمسببات والنتائج ذلك الذي يحدد مثلاً ما إذا كانت رغبة هذا الفرد في شيء ما قد تحقّقت.. وهذا أشبه بالمفهوم الإسلامي لإرادة الله.. فمن خلال أسفاري في إيران هذه المرّة والمرات السابقة كنت كلّما سألت عما إذا كان بمقدوري أن أزور شخصاً ما (على سبيل المثال.. الطلبة والمحتجزين الأمريكيين..) اعتدت أن أجاب بأن ذلك سيحدث "إن شاء الله"؛ أي إذ أراد الله ذلك.. لقد اكتشفت حقيقة رسوخ هذا القَدَر المطمئن في أفئدة مضيفي الإيرانيين حتى إنني توقفت هكذا ببساطة عن متابعة إنجاز أي أمر كلّما لاح لي أنّ الشخص المعنيّ سيحيل معظم المسؤولية إلى الله وليس الى جهده المستمر لإتمامه.. وفيما يتعلق بمقابلتي للإمام فقد قيل لي بوضوح إن هذا الأمر يرجع برمّته الى الله.. وعلى ذلك، ومع أنه كان واضحاً أنني قد اسعد كثيراً إذا شاء الله لي ببركة مقابلة الإمام.. كنت في الوقت ذاته قد تأقلمت تحت ثقل قوى التواكل الدينية بالمفهوم السائد أن هذه القوى في النهاية هي العامل لأمور كتلك التي تختص بمقابلة قائد ايران المحبوب.

واعلن في ليلة الثامن من شهر فبراير ان الإمام الخميني سيتحدث بمقر إقامته بشمال طهران إلى أولئك المدعوين للمؤتمر.. وما أن ترامى إلى مسمعي تأكيد ما كان مجرد احتمال قد يتحقق يوماً من أسابيع عديدة ظل المؤتمر خلالها منعقداً حتى أحسست في الحال أهمية هذا الحدث بالنسبة لي.. فقد تحين لي الفرصة أخيراً فأقيم قدر هذا الرجل بنفسي.. ستفحصه بدقة حساسيتي الروحية الناقدة.. والمناقشات المشوبة بالانحياز التي أجريتها مع الاستاذ اللبناني وإبراهيم يزدي قد تعطي عن قليل معنى يختلف كثيراً.. فمع أنه يصعب على الفراد أن يحكم على ما يخبئه ضمير شخص ما.. فهو بإمكانه ـ على الأقل ـ أن يقرر فيما إذا كانت بالأداء الشخصي علامات توحي بقبول مفهوم الوصول إلى حالة التحرر من حدود الذات الضيقة.. لقد كان هناك الكثير من الثأر والدم والكمال العقائدي، بحيث لا يمكنني في النهاية أن أقبل الفكرة القائلة "إن للخميني كياناً متحرراً روحياً.." فبالرغم من أن معظم القديسين وأولياء الله المشهورين ظهروا عادة من جهاز عبادي رفيع التركيب.. ومنظّم.. وتمتد جذوره الى الماضي البعيد.. بالاضاف الى ممارستهم الطاهرة والنقاوة.. فهم حين يصلون إلى قمة تقواهم وورعهم.. ينفصلون عن السياسة فلا يعد لهم صلة وثيقة بمظاهر الحياة السطحية ولا بأيديولوجية الحرب القاسية والآراء المتصارعة التي تسيطر على الفرد العادي.

وإن اعتناق الخميني دون تحفظ لعدالة الإسلام الفظّة.. كرجم الزاني على سبيل المثال أو قطع يد السارق.. واتهاماته العنيفة للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ونسبته جميع المشاكل الى مؤامرات الاستعمار.. كل هذا يبدو فيه الكثير من الرأي الفردي والاستبداد العقائدي اللذين لا نجدهما في إنسان يعيش في هدوء مطلق وما يستمد منه من نعيم.. فهما لا يعبران عن التحرر الدائم من قبضة حب الذات.. ثم كانت أوصاف الإمام بمجلة "التايم".. تلك الأوصاف العديدة.. وخاصة ما كان منها أثناء أزمة الرهائن.. وحتى بعد سقوط الشاه؛ كلها أشارت إلى خطورة وبيلة.. وحزم لا يعرف المزاح.. وموقف ظاهره يفتقد الدماثة والدعابة، ومن الأهمية بمكان القدرة على المواربة.. إن الخاصية الجلية في شخصية الإنسان التي قد حققت شيئاً من الوحدة بوعي محض كانت حقيقة الحب المشرقة.. ذلك الحب الذي هو في بساطة حقيقة ذلك الوفاق.. حقيقة الالتزام بتعاون مطلق مع قوانين الكون التي عملت من أجل سعادة كل مخلوق.. لقد كان هذا قدر جميع القديسين العظام مثل القديس "فرانسس" و"بورا" و"لاوتس" وحتى الصوفيين الذين قرأت عنهم.. أما الإمام الخميني فهو في نظر الغرب رمز لأعنف وأعند كبرياء يمكن أن يورث.. وكراهية لا تعرف الصفح.. وحتى بعض الغربيين الذين تحدثت معهم وممن قابلوا الخميني فقد علقوا على قدر ماله من شخصية جذابة.. ولكنهم في الوقت نفسه أشاروا الى غياب كامل لروح الدعابة والدفء في تصرفه.

والآن.. إنها فرصتي لأحكم بنفسي.. وما إن كنا في طريقنا بالأتوبيس إلى مقر إقامة الإمام بجمران (تتصل بهذا المنزل القاعة التي سيتحدث فيها الخميني) حتى أحسست باستثارة لها طنين يؤذن بأن شيئاً ما جباراً يوشك أن يحدث.. أعرف أنه يمكنني الوثوق بكفاية بديهتي فأحدد ما إذا كان الإمام الخميني في حقيقته صالحاً أم طالحاً.. أو كان مزيجاً من هذا وذاك.. وشعرب كذلك بشيء مثير يدنو مني وكأن الهواجس تنبئ بما سيكون له من تأثير جذري على تجاربي وقوى إدراكي.. إنني أميل الى الاعتقاد بأن شيئاً ما من خلال الكون يعلم ماذا يوشك أن يحدث.. أو بالأحرى.. على أساس إلمامنا باتجاهات موقف معين فإني أدرك أن أمراً من أمور الغيب المهمة بات وشيك الوقوع.. وبدأ في إرساء معالمه حتى قبل وقوعه.. وبعبارة أخرى، يحجب الزمن، ويقبض الحاضر على معاني المستقبل، وخاصة ما يلي الحاضر منه بما يؤثر تأثيراً بالغاً على خبرة الفرد منا في الحقيقة والواقع... إن حدث شيء يستدعي الاهتمام لفرد ما، فان تجربته ستتضمن حقيقة هذا الواقع ويؤدي ذلك الى الخبرة التي يكتسبها الفرد تبعاً لذلك.. لا علم لي بما سيحدث في القاعة التي سيتكلم فيها الخميني.. ولكني أتوقع شيئاً صاخباً عاصفاً.. وكيف يكون غير ذلك وهنا شخص واحد تتجسد فيه وتنبع منه أهداف الثورة وحقيقتها..؟ وإن التذبذب والغموض اللذين خبرتهما فيما يتعلق بشخص الخميني لعلى وشك أن ينجليا: سأقف على لب دوافعه.. وجوهر زعم مواطنيه عن عظمته الدينية.. ومن تتابع الخطوات التي بدأت بركوب الأتوبيس إلى شمال طهران مروراً بنقط التفتيش المتعددة والتي انتهت بدخولنا إلى القاعة، كان لابد أن نخلص إلى أن حديث الخميني سيتبع ذلك حقاً.. ولأنه أصبح مؤكداً أننا سنرى الإمام فقد ملأت حقيقة هذا اللقاء جنبات رحلتنا على الأتوبيس.. وبذلك تدفقت قدرة هذه الحقيقة في تجربتنا الحاضرة توجّهنا نحو غايتنا.. ولاح لي أن ظنوني وخواطري ومفاهيمي عن الثورة قد تنهار كلها وتذوب عند اللقاء وجهاً لوجه مع قائد هذه الثورة.. ولكن ما ساءتني تلك الخواطر والظنون.

وكانت هناك خمس أو ست نقاط على الأقل، حيث صار تفتيشنا للتأكد من عدم وجود أي سلاح أو شيء قد يستعمل في تهديد حياة قائد إيران والثورة الإسلامية المحبوب و(المكروه).. لا شيء.. لا أقلام.. لا آلات تصوير.. لا مواد من أي نوع أمكن التصريح بالمرور بها خلال نقطة التفتيش الأولى.. وبينما كنا نسرع الخطى فيما بدا لي أن يكون متاهة من ممرات.. وبينما كنا نسرع الخطى فيما بدى لي أن يكون متاهة من ممرات.. كانت اللهفة تعتري كل فرد من المدعوين للفوز بمكان مناسب يرى منه الإمام.. وفي عبارة أخرى.. أدركت أن الكثيرين منا كانوا يهرولون بغية الفوز بأفضل المقاعد.. وبينما نحن كذلك كنت في شغل شاغل عن الوقوف على حقيقة ذلك الإشراق والتأهب والحكمة التي يمتلئ بها الهواء هناك؛ لقد كان ذلك المكان يتميز عن بقية أجزاء طهران؛ لقد كان يعج بالطاقة والنشاط من نوع خاص من الوعي والإدراك.. أيؤول ذلك فعلاً إلى حقيقة هذا الشخص المسمى بآية الله الخميني..؟ أم آل ذلك إلى ما تميزت به الجماهير في تقديرها للخميني...؟ لقد أحسست حينئذ أنه ربما كان الاثنان معاً.. ذلك لأني.. ومرة أخرى.. أيقنت بحق أن للمكان الذي ندخله شيئاً موضوعياً خاصاً.. لقد كان هذا مركز النقيض للفتور واللامبالاة اللتين ألفتهما على شوارع طهران؛ هنا.. في الممرات المؤدية الى قاعة المحاضرة.. وفي الصباح الباكر.. كانت الساعة الثامنة تقريباً.. والمئات من حراس الثورة.. ومن عامة المواطنين.. ورجال الدين.. كانوا جيمعاً جزءاً من ممر تكون من حراس وموظفين يدورون جميعاً حول شمس الخميني.. رأيتهم يستمتعون بعملهم  الذي يؤدونه.. في مكان أظهرت فيه الثورة قوتها النابضة بالحياة (كما تكشّف عن ذلك في غمار المعركة).. وبدا بحق أننا نقترب من منبع الثورة ذاته، وبدت المشاعر في تناسق ووفاق مع مبادئ الثورة وحقيقة معتقداتها!. 

والآن، ينبغي أن يدرك القارئ في هذه النقطة من قصتي أنني كنت على دراية جيدة بجميع تلك الأمور التي سببها هذا الحكم.. وخاصة سلطة الإمام؛ التعذيب الوحشي.. تنفيذ أحكام الإعداء في الآلاف.. هتك أعراض السجينات.. إحياء "ساڤاك".. إلغاء الموسيقي والرقص وأي نشاطات ترفيهية أو فنون جارحة نابية مما يقبلها العالم الحديث ويعتبرها أموراً عادية.. وقتل الأطفال الصغار.. وإطلاق الرصاص على طالبات المدارس.. وفرض الرقابة على الصحافة.. والحملات القاسية لانتهاك مقدسات جالية البهائيين وقتلهم، ورفض السماح "للهيئة الدولية للعفو عن السياسيين والمجرمين" بدخول إيران.. وباختصار.. الإطاحة المنظمة العنيفة بجميع مظاهر الديمقراطية وإقامة نظام حكم لا يعتبر أفضل إذا ما قورن بنظام الشاه حتى في أسوأ حالاته.. لقد سمعت كل هذا.. بل قد سمعت هذا كله من أناس لا يتطرق شكي إلى صدقهم ونزاهتهم!! لقد كانت إيران في حالة جنون شرس.. وما كان مصدر ذلك القمع المؤذي غير الشخص الذي سأراه حين يلقي حديثه والذي سأقابله بعد ذلك.. وقبل أن يدير الدفة بحملته الجماعية ضد جميع معارضي نظامه (مع ما نتج عن ذلك من عداوة متزايدة ضده)، كان آية الله الخميني هدفا ًلكراهية قصوى من الولايات المتحدة، وذلك لصلته ورضاه بالقبض على الدبلوماسيين الأمريكيين الأبرياء.. ثم كانت هناك في إيران قوى عديدة مازالت تؤيد الخميني، أما الآن فإن الصحوة على إعدام معارضي نظام الحكم وتعذيبهم أدت إلى رسوخ الكراهية ضد الخميني حتى في قلوب الكثيرين ممن حاربوا الشاه.. وحتى بعض الإيرانيين الذين عملوا في الحكومة الانتقالية وكانوا في واقع الأمر من المخلصين للخميني منذ البداية وحتى قبل الستة أشهر الماضية!

الآن.. سأرى هذه الشخصية المهمة مجسمة.. تلك التي سيطرت على إيران إرادتها.. وأدت سياستها ـ رغم نسبتها إلى الله ـ إلى الكثير من التمزق في إيران.. وقوبلت بالكثير من السلبية من جانب الغرب.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net