متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
مشاهدة الإمام
الكتاب : الطريق إلى جمران    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

مشاهدة الإمام

 

حصلت على مقعد في مقدمة القاعة.. وبدا مقعد الخميني تكسوه ملاءة بيضاء على منصة ترتفع خمسة أمتار على الأقل عن مستوى أرض القاعة.. وما أن دخلنا القاعة حتى ألقى علينا أحد رجال الدين من ذوي اللحى البيضاء نظرة عامة.. وضبط الميكروفون.. وكان ينتظر في شغف صدور الإشارة التي تعني أن الإمام في طريقه إلى الباب المغلق على يمين المنصة حيث سيلقي محاضرته.. وسرى همس في جنبات القاعة بتوقعات وتوقعات وتعالت بين الحين والحين أصوات مجموعة من المسلمين بشعارات أو بآية من القرآن ورددها مئات من المسلمين الآخرين وحراس الثورة الحاضرون.. ولم يكن مسموحاً بالتدخين داخل القاعة.. وساد الوقار وخيمت المهابة على سلوك جميع المترقبين لمقدم الإمام.. فاختلف المكان كثيراً عن أرجاء إيران العادية.. وحتى حين ألقيت بصري على المنصة.. على المكان الذي ألقى منه الخميني مئات الخطب والأحاديث، شاهدت عيناي المكان في هدوء حقاً.. تشيع فيه الطهارة والصفاء والنقاوة.. ويملأ جنباته الانتعاش.. بل تجمعت كلها في كتلة من الطاقة.. صلبة وشبه شفافة.. بدت على النقيض مما رأينا ولمسنا في الفندق.. وفي الحقيقة.. ما لمست في أي مكان آخر ارتدته أثناء رحلتين قمت بهما إلى إيران، وحتى المساجد، ما لمست من أي منها ما يشع بمثل هذه الجودة وتلك الطاقة المتكاملة.. أيكون الإمام إنساناً مؤيداً روحياً..؟! أتتكشف له الحجب..؟! أهو صوفي حقيقي..؟! ربما كان أكثر من ذلك.. وتشير كل الدلائل إلى أن شيئاً ما كان يحدث عادة في هذه القاعة فيتسامى على إثره الى شيء مما يحدث خارج هذه القاعة في إيران .. وما ألفت هذا الشعور والإحساس قط في غير جبهة القتال ثم حين مررت خلال مقابر جنة الزهراء.. يمكنني فقط أن أفسر ذلك بأن أفترض أنه ربما كان الاستشهاد أمراً حقيقياً.. وان انفصال الروح عن الجسد، وذلك الانفصال المفاجئ وقداسته، وصعود روح الشهيد الى الفردوس، ربما يبعث طاقة مقدسة، مباركة بذات الله.. ومهما كان الأمر، فحيث كان مقعد الخميني، كان الجو حيّاً مشرقاً.. هنا يسود الوفاق.. لا الكراهية.

وأثناء انتظارنا للإمام قدم جمع من الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين الذين فقدوا أهليهم أثناء القصف الإسرائيلي، قدموا استعرضاً وجابوا القاعة في خطوات عسكرية وكانوا ينشدون باللغة العربية مختلف الأناشيد عن الثورة.. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأطفال كانوا قد تبنتهم الحكومة الإيرانية نزولاً على إرادة الخميني.. ووقفوا أمامنا تحت المنصة.. وبدوا في شيء من الارتباك أكثر قليلاً مما اعترى مئات الطلبة الإيرانيين الذين قدموا من المدارس الثانوية الإسلامية والذين ساروا أيضاً في خطوات عسكرية ورفعوا أصواتهم عالية لنا.. لقد دُعوا ليستمعوا الى الإمام.. وفي الملابس البيضاء وغطاء الرأس الأزرق.. بما يشبه زي البحرية، وقفوا في دعة، بينما انشغل مدرسوهم بتنظيم أماكنهم وترانيمهم.. ويبدو أن الخميني يقابل كل يوم أفراداً وجماعات ممن يرتبطون بإدارة شؤون الثورة.. وللإمام الخميني اهتمام خاص بهؤلاء الأطفال الذين قتل أهلوهم بمخيمات اللاجئين تحت قصف النفاثات الإسرائيلية العنيف.. إنهم مظلومون.. إنهم أبرياء عانوا على أيدي المعتدين، فكانوا بذلك من الفئات الخاصة التي تستوجب اهتمام أحكام أخلاقيات الإسلام والثورة.. وهناك فقط مصدر شر آخر ربما أحال هؤلاء الأطفال أيتاماً.. الاستعمار الأمريكي.. لقد كان الفلسطينيون ضحاياه.. فقد كانت الأسلحة أمريكية، تلك التي أراقت دماء آباء وأمهات هؤلاء الأطفال.. وفُرّق كل شيء الى خير وشر.. وصُنّف كل نضال في العالم على أنه حرب للمظلومين ضد الظالمين.. وكان هؤلاء الأطفال رمزاً لهذا النضال.. رمزاً لتفوق المبادئ اللازمة للتمسك بالثورة وصيانة إيجابية أساسها.. وبغير حقيقة الشر لا يستطيع الفرد أن يقف على وجود ما هو ضده.. الخير.. وقد لا يكون الإيرانيون ذاتهم مؤهلين لوصف أنفسهم بالنقاوة، غير ان دوافعهم الإسلامية نقية والعدو شرير بيقين.. ومن يكون غير الله ذلك الذي يضاد الشر..؟ ومنذ تواجد الشر، كان كل ما يعارضه ويضاده خيراً.. لقد علَّم الإيرانيين قائدُهم أن يفكروا بهذا الأسلوب: لا شيء.. لا تفوق ابراهيم يزدي، ولا مقاومة المجاهدين يمكن أن تحول بين مؤيدي "خط الإمام" وبين التزامهم بنوعيتي الحكم على الأمور.. بيضاء وسوداء.. إذ إنه بهذه الوسيلة فقط يمكن التشريع في عبارة الخير ضد الشر.

ومكثنا هناك قرابة خمس وأربعين دقيقة قبل أن تظهر علامات تشير إلى أن الإمام على وشك أن يدخل إلينا.. وكانت الإشارة واضحة؛ لقد دخل من الباب عدد آخر من العلماء المعممين وأخطروا رجل الدين الذين كان بالانتظار على المنصة.. أن الرئيس الأعلى، التقي النقي الورع، القائد الإمام.. إنه في طريقه إلينا.

وحين ظهر الخميني لدى مدخل المنصة.. قفز الجميع ناهضين مهللين: خميني! خميني! خميني! في صوت واحد ينبض بفرح.. ويشيد بتقدير.. ما شهدتُ أسمى منها يؤدّيان لمخلوق آخر.. وبدا كل حاضر وقد فاجأته موجة غامرة دافقة من الحب والتودد.. وكأني بهم يعلنون من أعماق قلوبهم في تأكيد مطلق.. ويقين.. أنهم يبجلون ويكرمون.. من هو أهل له في أعين الله.. حقاً.. أستطيع القول.. ان انفجار النشوة والعظمة الذي حُيّي به الإمام لم يكن في حد ذاته رد فعل يعكس ما في أذهان الجماهير عن الإمام فحسب.. بل كان فيضاً طبيعياً من التسبيح والحمد والابتهال أطلقته شخصية هذا الرجل الغامرة وفخامتها التي لا تقاوم.. وما أن فُتح الباب له، أحسست بإعصار من الطاقة يتدفق خلال الباب.. وفي عباءته البنية اللون.. وعمامته السوداء.. ولحيته البيضاء رمق كل جزء بالمبنى.. وجذب كل الأنظار شاخصةً إليه.. وشعرت وكأننا تضاءلنا جميعاً في حضرته.. وكأن لم يبق في القاعة شيء سواه.. لقد كان كتلة من النور دافقة نفذت الى بصيرة كل حاضر ومشاعره.. لقد دمر كل المعايير التي ظننت أنها ستعينني على تقييمه وتحديد قدره.. لقد كان مسيطراً في حضوره، حتى إنني وجدت نفسي وقد غلفتها أحاسيس طاحت بها بعيداً عن مفاهيمي.. إنها طريقتي التي أتعامل بها مع تجاربي.. فأهضم محتوياتها...

لقد توقعت ـ مهما كان مظهر هذا الرجل ـ أن أفحص قسمات وجهه بدقة.. وحوافزه.. بحثاً عن حقيقته.. غير أن قدرة الخميني.. ووقاره.. وسيطرته المطلقة.. دمرت جميع أساليب التقييم التي أتعبها.. وتركتني.. أكتسب خبرة في تجربتي التي أحسست خلالها بالطاقة التي تألقت طيلة وجوده على المنصة.. لقد كان إعصاراً.. ولكن ما إن استقر بصرك.. لأدركت لتوك أن هناك مركز سكون مطلق داخل هذا الإعصار، فبينا هو جاد حازم ومسيطر.. تجده أيضاً هادئاً ومنصتاً.. لقد كان بداخله شيء راسخ وثابت.. ذلك الشيء الثابت.. هو ذاك الشيء ذاته الذي حرك دولة إيران برمتها.. أهذا إنسان عادي..؟!

حقيقة الأمر أني قابلت عدداً ممن يقال عنهم أنهم قديسون كالدالاي لاما مثلاً.. والرهبان البوذيين.. والحكماء الهنود.. فما وجدت ذاتاً لأحد منهم تضاهي ذات الخميني بخبرتها الفذة.. وروحها النفاذة.. فقد بات جلياً لكل من يعي ويرى أن لا شائبة على كمال الخميني وأمانته ونزاهته.. ولا على ما يزعمه شعبه رغم ما يتكتمه العديدون من أن الخميني قد اجتاز ذاتية الإنسان.. عادية كانت أو غير عادية.. وأن ذاته استقرت في شيء من كمال مطلق لا حدّ له.. وهام هذا القدر من الكمال في الهواء.. حتى حركة جسمه.. وحركة يديه.. كانتا تعبيراً عن هذا الكمال.. وكانت حرارة شخصيته تتدفق بالكمال.. وتجسد الكمال حتى في سكون أحاسيسه ومشاعره. لم يكن غامضاً ولا محيراً. لماذا يحبه الملايين من الإيرانيين والمسلمين في جميع أرجاء العالم إلى هذا القدر؟! لقد عشت تجربة استعرضت مفهوم المراتب الأعلى للأحاسيس والمشاعر.. نعم.. كان الحزم والجدية واختفاء الدعابة والمزاح.. كانت كلها تخيم على القاعة.. ولكن.. إذا أخذنا في اعتبارنا الظروف المحيطة جميعاً.. فإني أقر أن كل لفتة وإماءة صدرت من الإمام الخميني كانت كلها مناسبة تماماً.. لم أر شخصاً خارقاً للعادة يفوق هذا الرجل أو يدانيه..!

لم يبدأ سماحته بالكلام.. بل تحدث أحد القادة الدينيين الآخرين الى الحاضرين.. بينما جلس الخميني في سكون آمن.. واتزان تام.. لم تصدر عنه حركة.. ومع ذلك كان هناك شيء ما في حركة نقية.. شيء ما في تشابك حركي فعال... شيء ما على استعداد لشن حرب تطّرد.. رأيته عملاقاً كلما قارنته بجميع من قابلت في إيران.. ما سيطر على المنصة سواه، حتى أثناء خطاب الشخص الآخر.. العيون كلها تركزت على الخميني.. فما وجدت عليه أثر الغرور أو ارتباك أو حتى لو جاز لي أن أقول.. أثر الحوار يعتمل في نفسه أو تفكير شارد لا هدف له.. لقد تجمع كيانه كله بجدية لا افتعال فيها في نقطة تركيز واءمت مشهدنا المثير في روحها وجمالها.. فرغم جدية القصد وعنف العزم والإدراك النزية المطلق الذي لا يقبل أنصاف الحلول، هناك إحساس بشيء رفيق هادئ كامل ومسالم.. ذلك الشيء الذي تفصح عنه حركات يديه.. وصوت إجلاء حنجرته.. ذلك الشيء هو مصدر تركيز انتباهه.. وهنا مئات من المسلمين والغيورين على وطنهم ترتفع حناجرهم تهتف بعظمته وتقسم بحبها وتتقرب وتتودد.. ومع ذلك.. تلّقى ذلك كله بنفس الهدوء.. والثبات.. وظل ساكناً.. من خلال هدوء داخلي راسخ.. هدوء تخطى حدود الاستثارة المألوفة لي.

وقد يفزع القارئ من تطرفي في وصف هذا الرجل.. ولكن يجب على القارئ أن يعلم أنه بالرغم من كل ما سمعت.. رغم ما بحيازتي من أدلة متباينة على احتمال عنف بالبلاغة أو انعدام مزاح مبدع خلاق.. وما إلى ذلك.. فليس للانطباع الحقيقي الفوري الذي يصدر عن الإمام الخميني صلة بمثل هذه الفكرة أو هذا المفهوم.. لقد كانت تجربة غلابة لمثل هذا.. اعمل خيالك لحظة دفع جسم الطفل من رحم أمه.. أو لحظة يذكر الإنسان فيها أنه خلق جنيناً.. أو لحظة يدرك الإنسان فيها أنه يعالج سكرات الموت.. أو لحظة استكشف الإنسان فيها لأول مرة قوة الحب العارمة؛ تجد أن أساس هذه التجارب كلها محدداً رئيسياً يخرج عن إطار كيان الفرد.. إن ما يسيطر هو طبيعة الحقيقة الذاتية التي تولّد ما نسميه بالخبرة.. وهذا ما حدث صباح الأربعاء التاسع من فبراير عام 1982م في شمال طهران.. وبدت خبرتي التي اكتسبتها وقد أضفى عليها موضوعية ذلك الشيء الذي يكمن في جوهر أساس مشاعري.. لقد اجتزت أسلوب الخبرة الذي يحدد عادة أي  أحاسيس.. وأية أفكار ومشاعر التي تجمعت ورسخت فيما أعي به نفسي وأدركها.. الخميني هو ذلك القادر.. الخميني هو ذلك القوي.. الخميني هو الذي لم يتسرب الى نفسه الغرور.. وهو الذي لا يُقهر.. لقد شاهدت في لحظة واحدة كل القوى الدافعة للثورة.. وجميع تاريخ الإطاحة بالشاه.. وسمعت أنغام الاستشهاد.. ورقص أمامي بريق الحضارة الإسلامية الغابرة التي حجبت الغرب ردحاً من الزمان؛ لقد تجسم لي كل ذلك في حضور هذا الرجل.. إنه منبع إحياء الإسلام.. إنه مصدر الثورة.. إنه أساس القوة التي يراها العالم في الثورة وفي الإسلام.. وإني لعلى يقين أنه بدونه لظلت الملكية حيث كانت.. ولمُحق عامل الإسلام تماماً من بين العوامل السياسية التي تحدد مصير الشرق الأوسط.. وما أن رأيت الخميني حتى ساءلتني نفسي.. أكان للثورة في إيران أن تصمد في حيويتها وتماسكها وترابطها بدونه..؟ لقد كان جلياً أن الثورة تستمد إلهامها من قيادة الخميني.. الخميني هو الثورة.. وما فتئ ذوو الوعي والإدراك بما يدعو إليه الإمام الخميني من العيش بالإسلام في جميع أوجه الحياة إلا أن تتقد نفوسهم بنور الإسلام، واستعذاب الشهادة، والإصرار على نشر دعوة الإسلام على العالم أجمع.. لقد رفع الخميني المعنويات، وحول الأفئدة.. ولم يكن ذلك وليد فكرة عفوية جادت بها شخصيته.. بل كان له جذور في واقع الحياة.. وتحقق ذلك النجاح من خلال عزمه على هذا الشيء الذي أوجد كل هذه الإثارة.. نعم.. لقد كان الخميني مركز هذا الانفجار الإسلامي.. ولقد كان أيضاً منبع الطاقة الروحية التي تغلغلت في قلوب المسلمين بالشرق الأوسط، وخاصة أولئك الذين تميل قلوبهم بفطرتها الى الاسلام.

لم يبتسم مرة.. لقد ثبتت قسمات وجهه في إصرار تمليه إرادته.. وكأن الله حمّله أمانة كل شيء.. لقد بذل حياته في خدمة الله.. فلم يكن هناك شيء يضحك.. أو يبعث الى الترفيه.. وليس في الأمر ما يثير عجباً أو تساؤلاً.. لقد عقد العزم.. وقام على الطريق يعالج العقبات المترتبة.. ليعيد للإسلام عزّه الذي بشّرت به نشأته السماوية.. لقد عاش للإسلام.. وأصبح الداعي الفعال لإحياء الإسلام.. فليس له من غاية سوى تطبيق الإسلام.. لقد اندمجت ذاتيته في كل ما يحمل هدفه الأعلى من معانيَ.. ما استشففت فيه ولو لمسة طفيفة من اختلال.. وما لمحت أي اهتزازة.. وما نالت منه خلجة واحدة لما تعج به البيئة من حوله.. لا.. ما أحسست غير هالة الواجب الحتمي الذي وضعه تماماً في خدمة الخالق.. ومن المسلّم به أن العلوم جميعها وما بها من علم نفس لتعجز كلها عن إثبات الحقائق الكامنة في ملاحظاتي ومشاهداتي التي أكتب عنها.. هذه الملاحظات وتلك المشاهدات تخرج عن قدرة الآلات والاجهزة لقياسها وتقنين مداها، أو لتشخيص الحقائق التي تكمن وراء هذه التجربة التي عشتها.. ماذا أقول..؟ ربما تصدر عن موجات فؤاد الخميني استنتاجات شاسعة مترابطة.. ليست كتلك التي تصدر عنّا، والتي مازالت تتخبط في قبضة التضارب والتردد اللذين اعتادتهما فباتت تفتقد الأمان.

أما عن لياقته البدنية.. وهو الذي يتجه الى منتصف العقد التاسع من عمره.. فإن انطباعي.. سلامة وافرة.. وكفاءة زاخرة.. وتأدية موزونة.. وطاقة مخزونة.. فكل ما صدر عنه من حركة يديه ولفتاته.. وصوت حنجرته ونبراتها.. كانت كلها بمقدار يتحكم هو فيه بترتيب ذكي.. لقد تجسم فيه التماسك كله.. لقد أشاع فينا إحساساً بأنه لم ينتصر على نفسه فصار سيداً لها فحسب.. بل إنه أصبح الآن أعلى من ذلك بكثير.. لقد صار الآن خادماً لسيد آخر.. ولنا أن نفترض في هذا المجال أحد أمرين: اما إنه نذر نفسه وكرسها لجوءاً الى الله.. أو إنه ارتقى فعلاً الى مرتبة قداسة دائمة.. ذلك الموضوع الذي دارت عنه مناقشات وجدل بيني وبين  كل من ابراهيم يزدي والأستاذ اللبناني.. وربما قال البعض إنه لم يلق رجل من الكراهية في عصر ما بعد هتلر أكثر مما لقيه هو.. إلا أن الأمانة تقتضي بأن أقول إنني رأيته أبعد ما يكون عن زعامة تتلاعب بعواطف العامة بخطبها الرنانة الجوفاء.. إن أقل ما يمكنني قوله.. إنني رأيته وكأنه أحد أنبياء العهد القديم.. أو إنه موسى الإسلام.. حذر ليدفع فرعون الكافر عن أرضه.

ومع كل هذه الكراهية.. كراهية الملايين من الأمريكيين الذين اجتاحتهم أفكار سلبية عن "آية الله" على طول أيام عديدة من حياتهم خلال أزمة المحتجزين الأمريكيين.. وبالرغم من عنفوان التركيز عليه بأشد العداوة ضرواة.. ظهر الخميني وما تمسسه تلك الطاقة المدمرة.. ولم تنل منه شيئاً.. لقد كانت قوته جبارة فنجا منها.. بل كانت بالكفاية الهائلة اللازمة لإطلاق مثل هذه الكراهية.. وهو لايزال أشد المكروهين لدى آلاف وربما بضعة ملايين من أبناء بلده.. ناهيك عن صدام حسين وملوك المنطقة الذين تألبوا جميعاً ضده.. تحدثني نفسي أن هذه الكراهية الشديدة التي وُجّهت إليه قد زادت الثورة صلابة.. وجعلته أكثر قوة.. فقد برهنت على أنه لم يسعَ إلى إرضاء الآخرين.. ولم يهدف الى تحقيق بطولة.. ولم يطمح في كسب شخصي.. بل عاش من أجل الحقيقة التي يجابهها.. في ظل قوانين الإسلام.. وما أوحي الى نبي الإسلام.. في رضىً وخلود يتحققان على طريق الإسلام.

وقد لا تقبل ذلك عقول معظم قراء هذا الكتاب.. إلا أن وضوح انطباعاتي لا يخطئه مشاهد.. فإذا هي جلية من غير حاجة إلى إثبات.. وحقيقة يرويها المستيقظ تماماً كما رآها في منامه.. إن الخميني حقيقة.. وقد أدى وجوده البارز ـ شخصياً كان أو متجرداً ـ الى تقلص انطباعي عما عداه من القادة السياسيين الذين قابلتهم في حياتي.. فهو قد يمقت النفاق وازدواج القيم.. وقد لا يقبل الخوض في بحث أسباب الوجود والقيم والقوانين الجامدة التي يساندها أنه أسمى قوة للكمال والنزاهة؛ إنه عالم الحقيقة التي عاشت خلال الإسلام.. إنه ليس من يمكننا النقاش معه حول معنى حرية اختيار الفرد.. أو الجمال الحسي لرقصة البالية.. ولكنه مع ذلك الأعظم بأساً ومراساً على مسرح السياسة الدولية.. وبدا ـ على الأقل من وجهة نظري وقد شاهدته ـ وكأنه عاصر المسيح.. ولا يعني ذلك أن الخميني يقارن نفسه بالمسيح مطلقاً.. ولكنه يتألق بنفس النزاهة التي لا مساومة فيها، والتي لا تقبل أنصاف الحلول.. وله قصد لا يحيد عنه قيد أنملة..

وعجيب أن يحمل إنسان بين جنبيه الكثير من أسرار الكون ذاته.. وهو الذي لم يكتسب مختلف الخبرات العديدة.. وهو الذي لا يعترف بثروة الحرية الشخصية.. حسناً.. قد يبدو الوصف والتغير اللذين أعطيتهما أكثر الصور تضحماً وتشوّها من وجهة نظر القراء الذين لا يقرّون وجوب رجم مرتكبي الفاحشة حتى الموت ولا إعدام المصابين بالشذوذ الجنسي.. وبالرغم من ذلك أود أن أوضح أنه على الأقل ـ ليمكن الوصول الى استنتاجات عن هذه الثورة وعن الحب المتأجج في قلوب أكثر من نصف الشعب لذات الخميني ـ يجب أن نفصل بين عبارات الخميني الآيديولوجية وبين تقييمنا التلقائي لكيان الرجل كإنسان.. فهو لم يستمد الكثير من كيانه هنا من كلماته.. ولا من سلطته.. ولكن من واقع وجوده.. ومن كيفية رد فعل الكون لهالة شخصيته المنظمة.. وبالرغم من كل تطرفه البلاغي.. وكل المرارة التي يحس بها تجاه الولايات المتحدة.. وكل لعناته التي يصبها على الغرب، فهو لايزال يتسامى بمضمون كلماته وكتابته؛ إن ما يعني أساساً لهو الغبطة الجوهرية التي تفيض من قلب الفرد لأبسط رغبة فطر عليها لاستيعاب خبرته.. لو كان لمدير مسرح أو سينما أن يشاهد أداء آية الله الخميني لقال إنه الوحيد الذي يمكنه القيام بدور المسيح أو الإمام الثاني عشر.. هكذا كان وجوده على المنصة فخماً.. وكذلك كان إحساسه بالثقة المطلقة رائعاً.. وكانت عزيمته على هذا القدر من الصلابة لا تتزعزع.

وليس هذا كل ما في الأمر.. فلدينا مزيد؛ لقد اقتحم الإمام الخميني عليَّ قلبي وعقلي بتيار من العاطفة التي يمكنني بيقين أن أصفها بأنها إيجابية قصوى.. وهذا ما أفضّل أن اطلق عليه لفظ "الحب".

نعم.. بالرغم من تصريحه بإعدام البعض (وفي الحديث ذاته أمر بالإفراج عن آلاف المسجونين الذين أبدوا ولاءً له).. وإصرار قسمات وجهة الذي لا يضطرب.. ومناعته ضد الأحاسيس الفردية.. بالرغم من كل ذلك، فقد كان مشحوناً بحب بدا لي فعلاً أنه أصاب من القلب فطهّره.. وملأه بنعيم ما تذوقت له من قبل حلاوة... حتى حين كان يجلس هناك.. وما كان قد تكلم إلينا بعد.. حين كان أحد رجال الدين يسهب في تقريع القوى العظمى كما كان متوقعاً.. أنشودة الإسلام الأكيدة.. وجدتني أحدق في وجه الخميني (والضوء محيط به).. ومُلئتُ تفي الوقت ذاته بتلك الطاقة التي ترتبط بأعظم أنواع القدرة والإبداع حيوية.. لقد كان الخميني مولد هذه الطاقة وذاك الشعور بما يغمر القلب ويطهر الروح.. وددت لو أمكنني الاحتفاظ بتجردي عن الاهتمام بهذا الواقع.. وعدم تفككي الخطير حين رأيت الإمام.. لقد عودتني نفسي صموداً فلا يسيطر عليها إنسان آخر.. وعودتني نفسي ألاّ يضطرب تكاملي الداخلي بشيء يمر خارج كياني.. ومع ذلك.. فإني هنا أفقد حدود ذاتي.. إنني هنا أستكشف مشاعر سامية وأحاسيس نقية لم آلفها من قبل.. لقد احتل كل كياني هنا رجل غير عادي.. رجل مسلم تقي ورع.. وقد كان هذا الفرد ـ على رحابة هذا العالم ـ آخر من يؤخذ في الحسبان أن يخلع على صحفي غربي إحساس السعادة الإلهية.. وجلاء الوعي والإدراك.. ولكنها كانت خبرتي التي اكتسبتها.. لقد شاءت الأقدار أن يكون الإمام الخميني هو تلك الحقيقة الوحيدة التي أخذت بآفاق أفكاري إلى مدارك أوسع ومشاعر أكثر رحابة.. فكان الحقيقة التي طهرت قلبي وأنارت عقلي وتركت في أثره إحساساً من الرضا لا تخبو شدته.. وسيظل هذا الرضا ملازماً لي حيث أكون وإن حجبته عني في الوقت الحاضر بعض المشاغل التي استحوذت على تفكيري.

وما إن شعرت بالطاقة الكامنة في مدافن جنة الزهراء حتى اندلعت مني عاطفة خالصة.. هنا تفتحت براعم ذاتي حيث تجسم الإسلام المجاهد جامحاً.. وتكشّفت عني الغمة.. فأبصرت بريق الكرامة يتصاعد حتى السماء.. وما تسعفني استعارة ولا تعبير مجازي فأصف أحاسيس الحقيقة التي اجتاحتني.. فلن تخفق ذاكرة الكون أن تسجل أن ما رأيته اليوم، واكتسبت بقلبي خبرة منه، ذلك المعنى الذي اقتحم روحي بصورة تلقائية واضحة ونهائية، كان في حد ذاته أقصى حقائق هذه الثورة أهمية.. وليس هذا فحسب.. بل كان أكثر حقائق الوجود ذاته أهميةً.. ومن المسلّم به أن يحرز الإنسان عظمة إذا اتصل مخلصاً بخالقه.. فبينا يرجم البعض الإمام الخميني باختلال العقل.. والتوحش.. والقتل.. والعداء للحرية والنور.. فإن الإمام روح الله الموسوي الخميني رغم ذلك دليل فائق وبيّنة سامية لقدرة الإنسان على إحراز الكرامة التامة والكمال.. وأن يحقق من خلالهما أعلى درجات الفضل والروعة الشخصية.. ولما كان الخميني حقاً من عباد الرحمن يحمل بين جنبينه حقيقة الإسلام.. واستحق أن ينال حباً يضاهي حب الشيعة للاستشهاد.. لزم علينا كمشاهدين أن نحاول فهم هذه الثورة.. وأن نقف على مدى حكمة الله في إيصال هذه الحقيقة إلينا.. والحقيقة التي وصفتها هنا هي الحقيقة ذاتها التي يتمركز عليها تماماً مستقبل الشرق الأوسط.. وإنني أعتقد أنه لن يدرك إنسان تبلور مصير الشرق الأوسط ولا اتجاهات القوى التي تشكل الآن أحداثه، حتى يعترف بصدق ما كتبت، وحتى يميز هذه الحقيقة.. وإن وجه "چري فولويل" ليختلف في ناظري عن وجه آية الله الخميني تماماً كما يختلف بائع نسخ الإنجيل عن يوحنا المعمدان.

ولما لم يكن هناك اتفاق حول طبيعة الله، ولا حتى عن وجوده، فإن الاحتمال ضئيل أن يكون هناك اتفاق ملحوظ فيما إذا كان وجوده جلياً واضحاً في أحاسيس إنسان.. ذلك المخلوق الوحيد في عالمنا هذا الذي قد يستطيع جهازه العصبي أن يتضمن وأن ينقل ادق المعلومات والمعرفة.. وقد يكون الله هذا العلم.. وتلك المعرفة.. إن التفسيرات الواردة عن المتصوفين المسيحيين، وقدّيسي الشرق، وأولياء الله، (ناهيك عن الأنبياء) أوضحت كلها بجلاء عن دلالة من أنار الله باليقين قلبه من بني الإنسان.. إن تصرفات مثل هذا الانسان تسيطر عليها قوة علم خارقة، ربما تقوم بحساب أنشطة العالم الأكبر.. فلم تعد ذات هذا الإنسان المعتادة تحدد تصرفاته أو تتحكم فيها.. لقد صارت ذاته كونية.. ومن ثم.. فإن مكانة هذا الإنسان وقدرته العقلية، ومستوى انفعالاته تعكس بالضرورة الحقيقة الكونية التي تتضمنها أحاسيسه ومداركه.. أتراني أصف الإمام الخميني..؟!

إن هذه المعاييير لتنطبق عليه كثيراً.. حتى إنه لو لم يكن للفرد منّا أية مرجعية دينية.. أو أي مقياس للتسامي والروحانيات.. لظللنا نحس ونشهد ذلك السيل من الطاقة.. والهدوء الثابت.. والحب الذي لا يخبو.. والرحمة التي لا تغيض.. نعم.. كان في محياه تعبير عن تركيز حازم لا يلين.. ونحن ـ وقد نجهل مصدر ذلك ـ مازلنا ندرك أن هذا التعبير، صفة.. وشكلاً، كان واجباً حتمته ضرورة.. حقيقة لو أصاب شخص ما حالة توازنه مع السماء.. فاستسلم تماماً لعزة الله.. وآمن بأن التكبر صفة تختص بها ذات الله وحده.. فإن الوسيلة التي وصل من خلالها إلى هذه الحالة.. ستنعكس حتماً على قسمات وجهه وشخصيته.. وما كان تقدم آية الله الخميني نحو إدراكه لطبيعته غير المحدودة.. وطفرته إلى الأحاسيس النقية الطاهرة.. ولجوؤه الى الله المطلق.. ما كان ذلك سعادة دون جهد.. وما تحققت بأسلوب تسامٍ طبيعي بسيط؛ لا.. ما تحققت إلا بعزيمة هائلة لا تقهر.. وتفانٍ ملتزم لا ينحرف عن شريعة الإسلام وقوانينه.. وما من مشاهد للإمام الخميني إلا وأحسّ وكأن الخميني عاش منذ مولده حياة محددة الاتجاه تستهدف أسمى غرض من خلال أعظم التقاليد العالمية.. فهو منذ البداية، كمشاهير الهند من القديسين مثلاً.. دأب على المعرفة.. زاهداً في متعة الشباب المعطلة.. وركز انتباهه على غاية الحياة كلها.. والتعرف الكامل على ماهية النفس.. ومافتئت أن بقيت ذاته غير مطلقة بسبب طبيعتها القائمة على الشروط والاحتمالات.. ولكن ذاتيته.. الآن.. لجأت الى المطلق.. فما عاد لها من قصد سوى العلم في خدمة ذلك المطلق.. وأقر أني ما رأيت من قبل تعبيراً للمطلق أكثر صلابة مما شهدت.!

ويبدو أن الخميني على معرفة بمفهوم الله على أنه المطلق.. وأستشهد مؤكداً ببعض عبارات من أربع محاضرات منفصلة:

"وأسماء الله هي... أعلام لذاته سبحانه؛ وما هي إلا أسماؤه التي يعرفها الإنسان. أما ذاته سبحانه فلا يدركها إنسان.. وحتى خاتم الأنبياء.. أكثر الناس علماً وأعظمهم نبلاً لم يحط علماً بذات الله.. إن الله لم يطلع العقول على تحديد صفته وذاته.. ولكنه سبحانه لم يحرمها طريق معرفته.

فإن كان النور أو الوجود مطلقاً وليس كمثله شيء.. فهو بالضرورة يتضمن الكمال كله.. ذلك لأنه إذا فقد نقطة واحدة من كماله.. أمكن تحديده وتمييزه.. فإذا كان في الذات الإلهية ـ على سبيل الجدل ـ نقطة نقص واحدة، لكان معنى ذلك تغيب نقطة من الوجود.. ولما عاد الوجود بعد ذلك مطلقاً.. فيصبح بذلك غير كامل.. بل يصبح عَرَضاً.. ولا يعد ضرورياً.. إذ إن الوجود الضروري لا بد أن يكون مطلقاً من كماله وجماله.. وعلى ذلك، فنحن حين نستعرض الأمر حتى من خلال طريقة "البرهان المنطقي" غير الكاملة، فإننا نصل إلى أن الله تعالى هو "ذات الوجود المطلق" التي هي منبع الإيحاء كله.. وتتضمن هذه الذات الإلهية الأسماء كلها.. والصفات كلها.. وهي الكمال المطلق.. الكمال الذي لا يمكن تحديده...

.... ذلك الهدف الذي من أجله جاء الأنبياء جميعهم، ليسودوا الإنسان قدماً من هذا العالم، فيخرجوه من الظلمات الى رحاب النور المطلق. لقد أراد الأنبياء أن يغمروا الإنسان في هذا النور المطق.. فتندمج القطرة بأحضان المحيط.. لقد أرسل النبيون جميعهم من أجل هذه الغاية.. إن المعرفة الحقيقية، والحقيقة الموضوعية كلها تنتمي خاصة لذلك النور.. فلا وجود لنا جميعاً.. ويعود أصلنا إلى ذلك النور.. لقد أرسل الأنبياء جميعهم ليخرجونا من الظلمات الى النور المطلق.. محررين إيانا من غياهب الظلام وحجب النور.. وحتى البعض وهم لايزالون في عالمنا هذا سينجحون في الوصول الى مرحلة تتجاوز مجال خيالنا عن اللا وجودية وعن مواراتنا في ذات الله عز وجل..."

فإذا كان الخميني.. الذي يعتبر قدوة في الإسلام.. والذي يرى فيه معظم مسلمي العالم المعاصر ظلاً للإمام الثاني عشر.. إذا كان مثل هذا الشخص لم يصل بعد إلى ذلك "النور المطلق" حيث يذوب في ذات الله، فكيف نصدق أن الإسلام جاء... وأن الأنبياء أرسلوا من أجل هذا الهدف..؟! ربما عمد الإمام الى تحويل انتباه الناس عن فكرة نجاحه في جهاده الداخلي عن نفسه.. حقيقةً أنه بذلك قد سمح لصورته وسمعته أن تظهرا كأسمى تعبير لهذه الثورة.. وفي ذلك اعتراف ضمني أنه في الواقع قد أصاب ذلك المستوى الذي تندمج عنده القطرة بمحيطٍ رحابه الله المطلق.

وإن مصدر ذلك الحزم والإحساس بالعزيمة التي لا تلين والصلابة المميزة لقسمات وجهه ليكمن حقيقةً في أن هذه الغاية لا تنال إلاّ عن طريق جهاد دائم لا يمكن أن يقوى عليه شخص إلا إذا عزف عن الدنيا وزينتها.. وأعرض عنها بقلبه.. وأمات ذكرها في نفسه.. وقد عرّف الخميني العالم في سياق هذا التحليل فقال:

"إن إجمال طموح الإنسان هو الذي يكّون عالمه، وليس عالم الطبيعة الخارجي بشمسه وقمره، إذ هما آيتان من آيات الله.. وإن عالم الإنسان بهذا المعنى الضيق المحدود هو الذي يحول دون اقتراب الإنسان من مجال القداسة والكمال".

ونحن نتفق على أن التقرب إلى الله.. والوصول إليه إن شاء.. لهو أعلى مراتب اهتمامات الإنسان.. ومن المنطقي أن يكون ذلك ما يريده الله من الإنسان.. فهو من المنطقي، لأن الجزاء في هذه الحالة نعيم مقيم، وهو ما يجب أن يسعى إليه كل إنسان.. وفي خطاب الإمام الخميني أشار سماحته الى حديث عن محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول فيه: "إذا خرج أحدكم مهاجراً إلى الله ورسوله فوافاه الأجل وقع أجره على الله".

ومن الواضح الجلي أنه لا يمكن تحقيق هذه الغاية دون الكثير من التضحيات.. الغاية هي استكمال الإنسان لمصدر المعرفة الحقيقية كلها.. وانتماء الحقيقة الموضوعية إلى ذلك النور وحده.. أصلنا هو ذلك النور..

ويبدو أن الله لن يسبغ علينا قمة حبّه ورضاه ما لم نبرهن على استعدادنا لخوض العديد من التجارب التي وضعها الله للإنسان على هذه الأرض.. وقد أثار ذلك شجب ما سمي سابقاً بـ"تزمت الخميني" وما قيل من أن عبادة الله على هذا النحو لا تخرج عن كونها إخلاصاً سقيماً لا متعة فيه موجهاً الى رب يطالب بتضحيات مستمرة.. غير أن الخميني قد عرف مشيئة الله من خلال القرآن الكريم ومن خلال مبادئ العدل التي سنّها محمد رسول الله والأئمة المطهرين.. وليس هناك ما يشير الى إمكانية وصول أي إنسان الى ذروة الوجود عن طريق أي نظام للتفاني في عبادة الله دون تضحيات مستمرة.. لستُ أدري إن كان الله حقاً قد خلق الكون أساساً لمجرد أن يتسامى فيه الإنسان، وأن يقاوم الكثير من ملذات الأرض فلا توقعه في شراكها، ولا تغريه بالانزلاق في الخطيئة.. ربما تكمن الإجابة على ذلك عند الله وحده.. أما عن نفسي.. فإن صَدَقَ حسي في هذا الأمر.. فإنني أعتقد أنه ربما كانت هناك بعض الطرق التي توصلنا الى الله (المطلق.. الذات الإلهية).. طرق توائم رغبات الإنسان ونزعاته.. طرق لا تتطلب مثل هذا النظام وذاك التحكم.. ورغم ذلك.. فهناك أمر وا     ضح.. إن الإمام روح الله الموسوي الخميني قد أحرز هذا الهدف وحقق الغاية.. ذلك لأنه.. بالرغم من استمرار نضاله نحو كمال بلده وترسيخ صدارة الإسلام في جميع أنحاء الشرق الأوسط (والعالم بطبيعة الحال).. فقد انتزع نفسه كلّيةً من كل قلق أو اضطراب أو نزاع داخلي.. وإن عمق النظام والتقشف السائدين على حياته كلها قد ينعكس على صلابة شخصيته وحتى على قسمات وجهه.. وما من شك أن روعة الاكتمال التي غمرت كل وجوده.. لدليل على ما يتمتع به الآن من جميل الجزاء والحقيقة.. وفيما يراه الكاتب.. فإن الإمام الخميني يشرق بكل ما بشرت به قداسة الإسلام.. وإن ما تألق به كان مطلقاً في هذا الكون.. وفي لغة الإسلام، إنه منبع هذا الكون ذلك الذي أدار دفة هذه الثورة.. إنه مصدر هذا الكون ذلك الذي بعث شغف هذا الشعب وهيامه.. وهو أساس هذا الكون ذلك الذي أعاد نهضة الإسلام.. أما نحن من الغرب وقد نذم الخميني كثيراً.. وأما الكثيرون من مواطني الخميني بالمنفى وقد يصبّون لعناتهم على هذه الثورة، وقد يحاولون تدميرها.. وأما الكثيرون أمثال إبراهيم يزيد وقد يعلنون تأييدهم ويفسرون تعضيدهم لما يحدث في إيران.. بالرغم من ذلك كله، فإن الدافع الرئيس كان موجهاً بشيء مطلق، حين سرى ذلك المطلق في شخص وأحاسيس آية الله الخميني.. لقد أشارت كتاباته، وخطبه، وأحاديثه، وأداؤه الذي أشهده الآن (وكما قلت سابقاً، حتى ولو لم يستمع الفرد منا إلى ما يتضمنه حديثه الآن).. أشارت كلها الى التقاء جهادَيه الناجحين الخارجي منها والداخلي.. لقد تجسد في الإمام الخميني اندماجهما (تأسيس جمهورية إسلامية، وقهر الأعداء الخارجيين، وانتصار الإسلام في بقاع أخرى من العالم ـ ووضع لبنة التكامل الداخلي والوحدة التي حققتها النفس العليا على النفس السفلى والتي أذابت ذاتية الفرد في الذات الإلهية).. لقد كانت هذه الثورة تطبيقاً لهذا الاندماج.. وإن من يساوره شك في مستوى أحاسيس الخميني، أو من عمق فهمه وتفانيه من أجل الإسلام، ليقصر فهمه تماماً لماهية الثورة.. ولمستقبل الإسلام بالشرق الأوسط.

ولأنه لا يمكنني أن أتخلى عن اعتقادي بوجود طبيعة للكون أكثر تعاوناً.. وأقرب مساندة.. تنحو الى استكمال وإتمام ذاتها داخل عالم الإنسان الصغير (ومن ثم التبرير الضروري والنهائي للدفع الأساسي خلف الحضارة الغربية التي تؤكد زيادة تمجيد الفرد وشخصيته الفريدة).. فإنه لا يمكنني أن أصبح مسلماً.. ولا يمكنني أن أشارك في اكتساح وتعنيف القيم الغربية ودراسة أسباب وجود الفرد.. ولا يمكنني حتى أن أوصي كل البشر أن يستسلموا لصرامة الإسلام وحزمه.. ومع ذلك.. فإنني أعترف أن شخص هذا الرجل الجالس أمامي إنما هو شخص رجل يتمتع ببركات الله جميعها.. ولأن نفسه عزفت عن الكثير.. ولأنه عاش حياته ولايزال في تفانٍ مطلق لله.. فإن مكانته تعكس قدرة مجيدة.. وجمالاً.. وكرامة.. قد لا ينال أيّاً منها فردٌ حقق نفس الهدف ـ لو كان ذلك ممكناً ـ بوسائل أقل صرامة ومتطلبات.. وأنا أعرف أن الخميني يجابه كل قوى الشر في العالم.. وأن شيئاً من خلال الإسلام يحدث بما قد يغير للأمة الاتجاه الذي اتبعه الغرب ولايزال.. فالإمام الخميني هو نقطة التضاد للدنيويات الجشعة.. وهو نقطة التضاد للتساهل والتسامح في الانقياد وراء الملذات.. واستحواذ الأنانية على الفرد.. وكل هذه سمات سيطرت على الغرب.. وسواء آمن أحد منّا بالإسلام.. وسواء أيد ثورة الإمام الخميني أو سياسته.. وسواء حتى آمن بالله.. أم لا.. فقد يكون الشخص منّا جافاً غير مهذب تعوزه القدرة على الاستجابة لو لم يصب قدراً من الحب المدفق والقوة والنقاوة والرضا والتي تمثل كلها جوهر الرجل الذي جاوز الواحد والثمانين من عمره.. وقد بدأ يتحدث إلينا دون عناء، بصوت لا تشوبه غلظة.. ذي نغمة عذبة.. ويظل سكون الكون ذاته ونبضه ينتشران خلال وجوده.. وتجمعت كل التناقضات الظاهرية التي وصفتها والتي قد كمن وراءها كل الحقائق.. الخشونة.. الهدوء والصفاء.. الحزم في التعبير.. فيض الرحمة.. تماسك العزيمة المطلق.. ولكن من قدرة ذات مرونة تكاد تكون لا نهائية.. تركيز كلي، ولكن مع تجرد كامل.. ومع إدراك معنى قرب إنسان من الله أو بعده عنه.. فإنني يحزنني أن هذه الأسرار التي سردتها لا تتوفر في الواقع في جميع سياسيي العالم.. ناهيك عن الأوساط الغربية.

وما كنت مجنوناً أو مختل العقل.. وما كان المتصوفون.. والقديسون.. والحكماء.. والنبيون.. فقد كشفت التجربة الساحقة هنا عن اكتمال فائق للحياة وللإنسان وللإمام الخميني. وهي طبعاً مشيئة الله أيضاً تلك التي تمكّن شخصاً ما أن يرفض الجوانب الأكثر تطرفاً في وصف الخميني كما قدمت.. وقد ينتهي هذا الشخص إلى أنني قد استولى عليَّ شيء شرير (كما حدث للنازيين تحت حكم هتلز، أو لأتباع القسيس المبجل چيمس چونز في بلدة "چونز").

ولكن ثقتي في الحياة التي عودتني في نهاية الأمر أن تطلعني على ما هو حقيقي أو ما يطابق فكرة "پلاتو" عن الخير لتعلن أن ما شهدته اليوم كان بكل تأكيد مشهداً من أعلى درجات القداسة والحقيقة.. وحين تكلم الخميني، استمعت في بساطة لإيقاع الكلمات ونغماتها.. وليس معانيها.. وما وهنت أبداً شدة أحاسيسه التي يزخر بها قلبه.. وما توقف تأثيره على جهازي العصبي طيلة جلوسه أمامنا.. وشعرت طوال هذه الجلسة أنني تلقيت أعظم هدية يمكن أن تخلع على شخص مثلي!

وقد ينزعج العديد من القراء لسرد هذه الوقائع.. وربما يرفضون هذا الكتاب.. فقد بدا واضحاً أنني قد فقدت موضوعيتي كلها.. موضوعيتي التي كانت أكثر تماسكاً حتى لقائي بالإمام الخميني. أما بالنسبة لي.. فإن التحليل الذي بينته عن خبرتي تلك لهو أكثر مقومات هذا الكتاب موضوعية.. أما الخبرة التي اكتسبتها من وجهة نظري الشخصية البحتة عند مواجهة ما هو مطلق فهذا.. وهذا فقط.. يضفي على وجهة نظري هذه.. حقيقة موضوعيتها.

قد لا أصبح مسلماً أبداً.. قد لا أرى مطلقاً ان كل التراث الغربي وفلسفته وفنونه وقيمه غير صالح للحياة كما يراه هؤلاء المسلمون.. وحتى قد لا أجد نفسي قادراً على معاداة ما ليس إسلامياً في العالم.. ولكني سأبقى للأبد أجل آية الله الخميني كإنسان رائع مطلق الطهارة.. مجّد قيمة الإنسان ومصيره.. وأظهر عظمة الله كما بينها سبحانه من خلال التقاليد الإسلامية.

أما أهم الرسائل التي تلقفتها نفسي في إيران فكانت: آية الله الخميني يكرهه الغرب.. يسبه الغرب.. يسخر منه ويستهزئ به.. وكان وقعها يشابه كثيراً تعذيب المتزمتين اليهود لعيسى (عليه السلام) والاستهزاء بكلماته والسخرية منه.. لن تنال هذه اللعنات المستمرة من آية الله الخميني.. وستنتصر ثورته الإسلامية سواء قدر لها أن تنتشر إلى أقطار أخرى أم لا.

أما هؤلاء الذين لا يقبلون أو لا يستطيعون التسليم بتصميم القدر في إيران حيث المبايعة للإسلام النقي لا تقبل أنصاف الحلول.. فليس أمامهم إلا أن يعانوا مرارة المنفى إن كانوا من الإيرانيين أو العيش في الغرب إن كانوا ممن يناهضون ما يتعلق بأساطير الكمال.

فإذا ذكرنا موسى ومحمد والمسيح وبوذا وكنفيوشس، أيقبل أي من هؤلاء أنصاف الحلول أمام القوى الدنيوية أو الإلحاد المادي..؟! فما تضمنت الاستجابة الأسطورية إنكاراً لتسامي ذلك التركيب الديني.. بل كانت الطاعة كاملة.. وكيف يفهم هنري كيسنجر مؤلف "عظة فوق الجبل" أو مؤلف "باچافاد ـ جيتا"..؟ ربما كان كيسنجر مثالياً في تقاليده التي لا تلجأ الى الاساطير.

تقاليد المهارة السياسية المبنية على سياسة الواقع السائد؛ ذلك الابتعاد عن أساطير الكون ومجال الشؤون السياسية هو ما أدى الى إحياء الأساطير، واندلاع الثورة الاسلامية التي تعتمد على كتاب مقدس وتحمل سياسة متسامية تحت قيادة آية الله الخميني في إيران.. معلنة للعالم أن الله لايزال يرضى عن الأساطير.

لقد أنزل للإنسان ما يعرّفه بأصله.. وما تؤول إليه نهايته.. وينتهي به مصيره..

لقد كنت أحد شهود هذه الحقيقة يوم الأربعاء التاسع من فبراير عام 1982م.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net